جمال أمقران : السياسات العمومية في مجال التربية والتكوين بالمغرب بين المقتضيات الدستورية والرؤية الإستراتيجية للإصلاح : رهان الحكامة نموذجا

محكمة النقض : صرف المؤسسة البنكية لشيك متعرض عليه يعتبر خطأ يرتب مسؤوليته

البعبيدي سهام : مبدأ حسن النية في التصرفات العقارية-ما بين هاجس حماية الغير المقيد بحسن نية و تكريس حماية المالك الحقيقي للعقار-

21 سبتمبر 2018 - 1:54 ص مقالات , القانون الخاص , في الواجهة , مقالات
  • حجم الخط A+A-
  •  من إعداد : البعبيدي سهام باحثة بسلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس الرباط – كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية السويسي.

   مقدمة :

يعتبر مبدأ حسن النية من المبادئ التي تعود جذورها للقانون الروماني، إذ أن هذا المبدأ نشأ في بدايته كقاعدة أخلاقية لينتقل بعد ذلك إلى القاعدة القانونية.

و إن كان من المسلم به أن القاعدة القانونية هي قاعدة سلوك، فإنها لا تعنى بالنيات و البواعث ما لم تتبلور في شكل سلوكات خارجية، لأن ذلك يدخل في الذات الإنسانية التي لا يمكن الغوص في مكنوناتها. و بالتالي يمكن القول أن تقدير مشروعية العلاقات التي تربط بين الأفراد يستند بدرجة أولى على ما يظهره السلوك الخارجي. و هنا تبرز الصعوبة في كشف الغموض الذي يلف مفهوم حسن النية، إذ لا يمكن التكهن بنيات الأفراد ما لم تتبلور إلى أفعال خارجية.

و قد انتقل مبدأ حسن النية من القانون الروماني إلى التشريعات الوضعية الحديثة، على غرار كل من التشريع الفرنسي[1]، الإيطالي، و الألماني.

و المشرع المغربي كغيره من التشريعات[2]  أقر حسن النية  كقاعدة يجب أن تسود معظم التصرفات، من خلال التنصيص عليها في القواعد العامة، على غرار الفصل 231 من ق.ل.ع.م الذي جاء فيه ” كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية“.

و مجموعة من القوانين الخاصة المتعلقة بالعقار كظهير التحفيظ العقاري الصادر بتاريخ 12 غشت 1913 المتمم و المعدل بمقتضى القانون 14-07،  حيث نجد الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري ينص على أنه لا يمكن التمسك بإبطال التقييدات في مواجهة الغير حسن النية، بما يوحي بملاحظة أساسية وهي أن التقييد  بنية حسنة يكسب الحق المقيد حجية ثبوتية قوية بين الأطراف المتعاقدة و في مواجهة الكافة.

و تتمثل  أهمية مبدأ حسن النية في المادة العقارية في الخصوصية التي يحظى بها  من الناحية الوظيفية، فالمشرع لم يتطلب ضرورة توفر حسن النية إلا من أجل تحقيق وظائف تتنوع من حيث الأهمية، لعل أهمها الحماية التي يقررها هذا المبدأ لفائدة الغير الذي يكتسب حقوقا على العقار بحسن نية من جهة و ضمان استقرار المعاملات من جهة ثانية، بالإضافة إلى كونه واحدا من المبادئ التي تهدف إلى تحقيق الأمن العقاري من خلال السهر على تحصين الملكية العقارية و تنظيم و تيسير تداولها و انتقالها، بما يكفل استقرار المعاملات العقارية و في نفس الوقت يعزز الحماية المكفولة لحقوق الملاك و أصحاب الحقوق العينية المتعاملين بحسن نية.

و بناءا على كل ما سبق ذكره، فإن مبدأ حسن النية في حقل التصرفات العقارية يطرح إشكالية أساسية، تتمحور حول الازدواجية الوظيفية التي يلعبها هذا المبدأ من خلال الوظيفة الحمائية  التي يوفرها للغير حسن النية و الوظيفة الاقتصادية التي تتجلى في هاجس ضمان سرعة و استقرار المعاملات الاقتصادية بما يعزز ثقة الأفراد و يساهم في تحريك عجلة التنمية،  خاصة و أن العقار يعتبر موردا حيويا و لبنة أساسية في التنمية بمختلف مجالاتها.

إن مبدأ حسن النية يفترض في جميع الأحوال لا بل هو الأصل الذي ينبغي أن تقوم عليه المعاملات، غير أن الإشكال يثور عندما يصبح أداة بيد الغير للتعسف في استعمال الحق، فعندها يمكن لنا التساؤل عن الحدود التي وضعها المشرع المغربي بشكل خاص للحيلولة دون ذلك.

    فإلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال إقراره لمبدأ حسن النية أن يوفق بين الازدواجية الوظيفية لهذا المبدأ و المتمثلة في هاجس حماية  الملكية العقارية  و بين هاجس تكريس استقرار المعاملات الاقتصادية ؟

سنحاول أن نتطرق لمعالجة هذه الإشكالية وفقا للتصميم التالي :

  • المبحث الأول: حماية الغير حسن النية في ضوء ظهير التحفيظ العقاري و مدونة الحقوق العينية تكريس لاستقرار المعاملات
  • المبحث الثاني: القصور التشريعي لحماية الغير حسن النية تكريس لهاجس حماية  الملكية العقارية .

المبحث الأول: حماية الغير حسن النية في ضوء ظهير التحفيظ العقاري و مدونة الحقوق العينية تكريس لاستقرار المعاملات

لقد خص المشرع المغربي الغير الذي اكتسب حقوقا على العقار المحفظ و قام بتقييدها عن حسن نية بحماية  قانونية رغبة منه في تكريس استقرار المعاملات، إذ تكتسب حجية التقييد بالنسبة له قوة ثبوتية مطلقة، بحيث لا يتأثر حقه بما يمكن أن يطرأ على التقييدات المضمنة بالسجل العقاري من بطلان أو إبطال أو تغيير لاحق ( الفصل 66 من ظ.ت.ع  والمادة 2 من مدونة الحقوق العينية). و بذلك فإن تكريس استقرار المعاملات التي يكون الغير حسن النية طرفا فيها، يتمثل أساسا في الحماية  المقررة لفائدة الغير المقيد بحسن نية من البطلان والتشطيب (المطلب الأول)، و الحماية المقررة لفائدة الغير حسن النية من المطالبة من المالك الحقيقي (المطلب الثاني).

المطلب الأول : تكريس استقرار المعاملات من خلال حماية الغير المقيد بحسن نية من البطلان و التشطيب

بالرجوع إلى مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري و المادة 2 من مدونة الحقوق العينية يتبين لنا أن المشرع المغربي أقر لفائدة الغير المقيد بحسن نية حماية من كل إبطال أو تغيير أو تشطيب يمكن أن يقع على التقييدات المضمنة بالرسم العقاري.

ذلك أن الغير الذي قام بتسجيل حقه بصفة قانونية و عن حسن نية دون أن يكون متواطئا أو مشتركا في عملية التدليس مع البائع، من أجل الإضرار بمصالح المشتري الأول فإنه يكتسب حقه مطهرا من جميع العيوب التي يمكن أن تشوب سند المتصرف،  فإذا افترضنا مثلا أن سند المتصرف كان مشوبا بعيب من عيوب الرضا (التدليس أو الغلط أو الإكراه…) فإن النتيجة الحتمية لهذا التصرف هي الإبطال  لصالح الطرف الذي تعيبت إرادته،و بالتالي فإن المتصرف إذا ما فوت هذا الحق إلى الغير و كان هذا الأخير حسن النية و قام بتقييد شرائه، فإن حسن نيته تطهر العقد من القابلية للإبطال و تحميه من إيقاع هذا الجزاء عليه، أما إذا ثبت العكس، بمعنى إذا كان متواطئا مع البائع من أجل الإضرار بمصالح المشتري الأول فإنه يعتبر سيء النية و تجدر عنذئذ معاملته بنقيض قصده.

و الملاحظ أن المشرع المغربي اكتفى بالإشارة إلى الغير حسن النية دون أن يحدد المقصود بلفظ الغير[3]، الشيء الذي يقتضي منا الرجوع إلى المبادئ العامة من أجل معرفة المقصود بالغير، هذا الأخير الذي يمكن اعتباره كل شخص لم يكن طرفا في التصرف.

غير أن الملاحظة التي يمكن إبداؤها في هذا الصدد تتمثل في كون القواعد العامة قد وسعت من مفهوم الغير كما سبق ذكره، و هو الأمر الذي لا يمكن الحديث عنه في المادة العقارية بشكل عام و التقييدات بشكل خاص حيث أن مفهوم الغير في هذا المجال يراد به هو كل شخص له مصلحة في التمسك بالعقد المسجل.

و في هذا الإطار يقول الأستاذ خيري في معرض كلامه عن حجية التقييد في مواجهة الغير بأن المقصود بالغير في مجال التسجيل : ” كل شخص من غير المتعاقدين و ورتثهما تكون بينه و بين أحد المتعاقدين علاقة قانونية، تجعل له مصلحة في التمسك بالعقد المسجل“.

مقال قد يهمك :   محكمة النقض توضح حق التصدي في الجوهر طبقا للفصل 146 من قانون المسطرة المدنية

و من أجل أن يوصف هذا الغير بحسن النية يجب أن يتوفر فيه ثلاثة شروط هي :[4]

  • أن يكون جاهلا بالعيوب التي تشوب العقد الرابط بين طرفي العلاقة التعاقدية المقيدة قبل تقييد حقه تقييدا اسميا لفائدته.
  • أن لا يكون متواطئا مع الشخص الذي فوت له العقار أو الحق أو أنشأه لفائدته.
  • أن لا يكون قد تعامل بالعقار المعني بعد اتخاذ تقييد احتياطي لفائدة أحد الأغيار أو قام بتقييد شرائه مثلا بعد ذلك التقييد الاحتياطي.

و بذلك فإن ما يقع على التقييدات من إبطال أو تغيير أو تشطيب لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية، كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر.

و هذا ما نستشفه من قرار لمحكمة النقض حيث جاء فيه ” إن الحكم بإبطال عقد الشراء الذي جاء نتيجة عقدة المعاوضة قصد تسجيل عقد الصدقة يقتضي إثبات توفر سوء النية لدى المشتري، و لو كان من الأقارب، و لا يكفي القول بالعلم بالنزاع القائم حول الصدقة.

و إذا كان لا خلاف في كون المشتري هو زوج إحدى الورثة فإن ذلك لا يعني حتما معرفته بالنزاع، إذ الأصل أن حسن النية يفترض دائما إلى أن يثبت العكس”[5].

و بالتالي يمكن لنا القول أن المشرع بتنصيصه على هذه المقتضيات الحمائية لفائدة الغير حسن النية، لا سواء من خلال مقتضيات المادة 66 من ظ.ت.ع أو المادة 2 من م.ح.ع سار في اتجاه تكريس استقرار المعاملات العقارية التي تنبني بدرجة أولى على الثقة، على حساب مصلحة المالك الحقيقي للعقار باعتبار أن هذا الأخير ربما كان مهملا أو مفرطا في الحفاظ على حقوقه، و بالتالي يكون هو الأولى بالخسارة من الغير الذي سارع إلى صيانة   حقه عن طريق التقييد.

 المطلب الثاني: حماية المقيد بحسن نية من المطالبة من المالك الحقيقي تكريس لاستقرار المعاملات العقارية

إن الحماية التي يكفلها المشرع للغير حسن النية الذي سارع إلى تقييد حقه بالرسم العقاري في غياب أي تواطؤ من جانبه مع المتصرف للإضرار بحقوق المالك الحقيقي للعقار،  و التي تتجسد في نفاذ التصرفات التي يجريها الغير حسن النية مع الوارث الظاهر (أولا)، و أيضا في نفاذ تصرفات التي يجريها الغير حسن النية مع الوكيل الظاهر ( ثانيا)، ما هي إلا  تكريس لرغبة المشرع في ضمان استقرار المعاملات و الذي يعتبر من أهم النتائج التي يسعى مبدأ حسن النية لضمان تحقيقها في حقل التصرفات العقارية.

 أولا : نفاذ التصرفات التي يجريها الغير حسن النية مع الوارث الظاهر تكريس لاستقرار المعاملات

يحدث أحيانا أن يكون الشخص المتصرف ليس هو المالك الحقيقي للشيء أو الحق المتصرف فيه، كأن يتعلق الأمر بوارث ظاهر[6] مسجل أملاك الهالك المحفظة على اسمه  و حاز المنقولات الأخرى، و لم يبقيها بين يديه، بل تصرف فيها إلى الغير، و كان هذا الغير المتصرف إليه حسن النية أي لا يعلم بأمر وجود وارث أخر هو الوارث الحقيقي أو على الأقل له نصيب في تركة الهالك، فإن حسن نيته تحميه من المطالبة من المالك الحقيقي و ذلك إعمالا لمقتضيات الفصل 66 من ظ.ت.ع و المادة الثانية من م.ح.ع .

و قد ذهب الفقيه عبد الرزاق السنهوري إلى اعتبار بيع الوارث الظاهر صحيحا، و نافذا في حق المالك الحقيقي حماية للمشتري حسن النية الذي كان يجهل عدم ملكية البائع للمبيع، و ذلك ضمانا لاستقرار المعاملات بين الناس.

و تعتبر قاعدة الغلط الشائع من أهم القواعد المطبقة في القضاء الفرنسي من أجل حماية مصالح المشتري حسن النية من الوارث الظاهر، حيث اعتبرت محكمة النقض الفرنسية في قرار لها[7] أن النتيجة المباشرة لنظرية الظاهر تجعل الزوجين الذين اشتريا العقار بحسن نية نتيجة الغلط الشائع في صفة البائع يصبحان مباشرة ملاكا للعقار و ذلك إعمالا لنظرية الظاهر التي تستدعي توفر شرطين هما :

  • حسن نية المشتري الذي لم يكن بإمكانه أن يعلم بأن البائع ليس هو المالك الحقيقي للعقار ( الفصول  1134، 2274، 2275 من القانون المدني الفرنسي).
  • الغلط الشائع أثناء الشراء و النابع من الاعتقاد المشترك بثبوت صفة المالك للبائع. 
ثانيا : نفاذ التصرفات التي يجريها الغير حسن النية مع الوكيل الظاهر تكريس لاستقرار المعاملات.

في بعض الأحيان قد يكون المتصرف ليس هو المالك الحقيقي، و إنما وكيلا ظاهرا[8] و بما أن التصرفات عموما تستند في إبرامها على المظاهر الخارجية فقد يحدث أن يبرم الغير حسن النية التصرف مع الوكيل الظاهر على أساس وجود وكالة حقيقية، و بالتالي فإنه من الواجب حماية الحقوق  التي اكتسبها هذا الغير الذي تعامل خارج أي تواطؤ مع الوكيل الظاهر.

و هنا يمكن القول أن حماية حقوق الغير حسن النية تأتي قبل حماية المالك الحقيقي للعقار الذي كان مجهولا أثناء إبرام التصرف، و ذلك بحجة  أن المظهر الخارجي الذي كان سببا في تضليل الغير هو مظهر منسوب إلى تقصير الموكل بدرجة أولى ما دام هو الذي تسبب فيه، و يقع عبء إثبات وجود هذا المظهر المضلل على الغير الذي تعاقد مع الوكيل ، وذلك من خلال إثبات  أن هذا المظهر جعله مطمئنا إلى قيام الوكالة و بالتالي إبرام التصرف[9].

و كخلاصة يمكن القول أن حماية حقوق الغير المقيد الذي تعامل مع الوكيل الظاهر بحسن نية تستدعي أن يتحمل الأصيل تبعة أعمال وكيله إذ الغرم بالغنم[10]، فالموكل من الواجب عليه أن يكون أكثر حرصا على مصالحه، ويبقى التصرف الذي أسس حقوقا للغير حسن النية نافذا في حقه -الموكل- وذلك مراعاة لقاعدة استقرار المعاملات الاقتصادية و يمكنه إذا ما تضررت حقوقه الرجوع بالتعويض على الوكيل الظاهر.

 المبحث الثاني : القصور التشريعي لحماية الغير حسن النية تكريس لهاجس حماية  الملكية العقارية .

لقد خلفت صياغة المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية آثارا هامة على مستوى الحماية التي تقررها لفائدة الغير حسن النية و كذا على مستوى استقرار المعاملات العقارية، و ذلك من خلال إقرارها لبعض الاستثناءات فيما يخص الحماية المقررة لفائدة الغير المقيد بحسن نية و التي يمكن اعتبارها بمثابة قصور تشريعي في حق هذا الأخير و امتيازا لمصلحة المالك الحقيقي للعقار.

فإذا كان المبدأ العام الذي ينص عليه الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري، و كذا المادة 2 من مدونة الحقوق العينية يقضي بكون الغير المقيد بحسن نية لا يمكن مواجهته بأي إبطال أو تغيير أو تشطيب، فإنه بالمقابل نجد الفقرة الثانية من المادة الثانية تورد مجموعة من الاستثناءات على هذا المبدأ يمكن إجمالها في حالة التدليس أو التزوير أو استعماله.

مقال قد يهمك :   الصعوبات المحاسبية عند تقييم الشركات موضوع الاندماج

 المطلب الأول: التدليس  كوسيلة لحماية صاحب العقار على حساب الغير حسن النية

تنص مقتضيات المادة 2 من مدونة الحقوق العينية في فقرتها الثانية على “… إن ما يقع على التقييدات من إبطال أو تغيير أو تشطيب من الرسم العقاري لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية، كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، إلا إذا كان صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو تزوير أو استعماله…”

بمعنى أن ثبوت التدليس[11] يعد استثناءا على مبدأ الحجية المطلقة لتقييدات الغير حسن النية، و يجرد تقييد هذا الأخير الذي كان نتيجة تدليس من الحماية التي كانت مقررة لفائدته.

ومن خلال قراءة مقتضيات المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية تبدو لنا ملاحظة أساسية تتمثل في كون الغير حسن النية الذي قام بتقييد حقه بالرسم العقاري يمكن أن يفاجأ داخل الأجل الذي حددته هذه المادة (4 سنوات)، بطلب يرمي إلى إبطال حقه و التشطيب عليه، بعلة تدليس البائع على صاحب الحق ليتحمل وزر خطأ لم يرتكبه، الأمر الذي يشكل عائقا أمام مبدأ الحجية المطلقة و تهديدا لاستقرار المعاملات التي تنبني أساسا على الثقة.

 إن المشرع المغربي من خلال تخويله لهذه الإمكانية اتجه نحو حماية مصالح صاحب العقار على مصالح الغير حسن النية، بمعنى أنه ذهب في اتجاه تكريس حماية  الملكية الفردية على حساب استقرار المعاملات.

و هذا ما يبين لنا أن موقف المشرع المغربي موقف متذبذب محكوم بهاجسين متناقضين:  فهو من جهة أولى يسعى لتحقيق أكبر قدر ممكن من الحماية لفائدة الغير الذي تصرف وفقا لمعايير حسن النية، لكن إذا ما نظرنا من زاوية أخرى نجد أن هاته الحماية سرعان ما تتبخر إذا ما اصطدمت بحق الملكية الذي ما زال يحتل قدسية في نفوس الأفراد.

المطلب الثاني : التزوير أو استعماله كوسيلة لحماية صاحب العقار على حساب الغير حسن النية

لقد كانت تتمتع تقييدات الغير حسن النية بحماية مطلقة، غير أن صدور مدونة الحقوق العينية قد جاء بمجموعة من الاستثناءات، حيث أقرت المادة الثانية منها مجموعة من الحالات التي إذا ما تحققت لا يمكن للغير حسن النية الاحتجاج بحسن نيته للقول بصحة تقييداته، من هذه الاستثناءات ثبوت التزوير أو استعماله.

و لعل هذا الاستثناء يساير روح المادة الرابعة من م.ح.ع التي تهدف إلى تكريس رسمية العقود و ما تحققه من أمن قانوني، لذا كان لزاما على المشرع المغربي أن يأتي بمجموعة من الضمانات في سبيل حماية ثقة المتعاملين في الحقل العقاري و ذلك من خلال إقرار العقوبات و تشديدها في  مواجهة كل من سولت له نفسه اقتراف جريمة التزوير.

و لعل الغاية الأساسية من تجريم التزوير في المحررات هو الحفاظ على استقرار المعاملات و حماية لعنصر الثقة بدرجة أولى ، نظرا لأن المحررات تعتبر بمثابة الآلية التي يتم من خلالها توثيق مختلف المعاملات،  ناهيك عن كونها الوسيلة الشائعة التي تستخدم في الإثبات، و بناء عليه فإن كل تزوير أو تحريف قد يطالها يعتبر ضربا في الثقة التي تنبني عليها المعاملات و ضربا في الحماية التي ينبغي أن تتوفر للملكية العقارية.

و بالرجوع إلى الفصل 351 من القانون الجنائي المغربي نجد المشرع يعرف التزوير في الأوراق كما يلي :

تزوير الأوراق هو تغيير الحقيقة فيها بسوء نية, تغييرا من شأنه أن يسبب ضررا متى وقع في محرر بإحدى الوسائل المنصوص عليها في القانون.[12]

و بالتالي فإن ثبوت استعمال الورقة المزورة يؤدي إلى نتيجة أساسية كما نص على ذلك المشرع العقاري، و هي إبطال تقييد الغير حسن النية و التشطيب عليه من الرسم العقاري.

و بما أن ثبوت التزوير أو استعماله حسب ما جاء في مقتضيات المادة الثانية، ينفي الحماية المقررة لحسن النية و يشكل بذلك استثناء على الحجية المطلقة للتقييدات فإن القضاء المغربي كرس ذلك من خلال مجموعة من الأحكام و القرارات.

حيث جاء في قرار لمحكمة النقض عدد 5742  ما يلي :

” إن التسجيل بالرسم العقاري ينصرف إلى الحق الذي يملكه الشخص بكيفية حقيقة و صحيحة، و من تم يكون العقد الذي ثبتت زوريته بمقتضى حكم جنائي عقدا باطلا، مما يبطل عملية تسجيله بالرسم العقاري بالتبعية، و تصبح جميع التسجيلات المنجزة بناء عليه باطلة بدورها و لو كان أصحابها حسني النية. و علة ذلك أنه كان تسجيل الحق العيني بالرسم العقاري شرع لحماية الحقوق العقارية التي قررها القانون، فإنه لا يمكن اتخاذ القانون وسيلة لحماية الحقوق المزورة و الباطلة بدعوى أنها مسجلة بالرسم العقاري مادام أن الأولى بالحماية هو صاحب الحق الشرعي و ليس غيره.

إن ثبوت زورية العقد تجعله منعدما و غير منتج لأي أثر و إن كان مسجلا بالرسم العقاري حتى و لو كان المشتري حسن النية، لأن ما نص عليه الفصل 66 من ظهير 1913 من عدم إمكانية التمسك بإبطال التسجيل في مواجهة الغير ذي النية الحسنة لا محل لإعمالها في التصرفات الباطلة و المسجلة بالصك العقاري، مادام أن التصرف الباطل لا يصححه التسجيل بالرسم العقاري، و الزور يجعل العقد منعدما و لا يمكن للتسجيل أن يصححه[13] .”

و من خلال هذا القرار و غيره من القرارات التي استقر عليها الاجتهاد القضائي المغربي يتضح أنه لا مجال للاحتجاج بحسن النية أمام ثبوت التزوير أو استعماله، فبالرغم من المقتضيات الحمائية التي وقفنا عليها في المبحث الأول و التي تكفل للغير المقيد بحسن نية حماية مطلقة أمام كل مطالبة بالإبطال أو التشطيب(ف 66 من ظ.ت.ع)، فإن القضاء يسير في اتجاه تكريس الحماية للمالك الحقيقي للعقار على حساب الغير المقيد بحسن نية في حالة ثبوت قيام التزوير، و في هذا تكريس لحماية حق الملكية و تغليب مبادئ العدل على استقرار المعاملات.

خاتمة :

     إذا كان المشرع يهدف من خلال مقتضيات ظهير التحفيظ العقاري و مدونة الحقوق العينية إلى حماية الغير حسن النية بشكل يكرس حماية استقرار المعاملات و حماية الثقة بدرجة أولى، فإن الأمر  بالنسبة له يختلف عندما تصطدم هذه الحماية مع حق الملكية الذي يعتبر أقدس الحقوق على الإطلاق، إذ يمكن القول أن المشرع المغربي اتخذ موقفا متذبذا  بين حماية الغير حسن النية و بين حماية المالك الحقيقي للعقار، من خلال منح المالك الحقيقي للعقار إمكانية إبطال تقييد الغير حسن النية في حالات التدليس أو التزوير أو استعماله، و تقييده لممارسة هذا الحق بشرط رفع الدعوى داخل أجل أربع سنوات، بمعنى أدق، فإن هذا الحق المخول للمالك يسقط إذا لم يرفع دعواه داخل الأجل المنصوص عليه في المادة الثانية.

و هذه المدة في نظرنا المتواضع هي مدة جد طويلة لا تخدم السرعة التي تقوم عليها المعاملات و تهز الاستقرار الذي ينبغي أن يسود هذه الأخيرة، لذلك يجب أن يتم تخفيض مدة أربع سنوات إلى سنة واحدة على الأقل، حتى لا تظل الحقوق التي اكتسبها الغير حسن النية معلقة و مهددة بالزوال طيلة مدة أربع سنوات، و نكون في نفس الوقت قد أتحنا للمالك الحقيقي إمكانية الطعن في التقييدات التي ألحقت  ضررا بحقوقه، إذ سيكون حريصا على ممارسة حقه داخل أجل السنة لوعيه بأن فوات هذا الأجل يسقط حقه في المطالبة، خاصة في ظل تفعيل المحافظة العقارية للخدمة الالكترونية ‘محافظتي[14]، التي ستمكن المالك من الإطلاع على أي تغيير يمس الرسم العقاري الخاص به، و بالتالي فإن عدم طعنه في مختلف التصرفات المنصبة على عقاره داخل الأجل الذي تحدده المادة الثانية سيكون مرده لإهماله و تراخيه و بالتالي يكون أولى بالخسارة من غيره.

مقال قد يهمك :   محمد القاسمي: الدليل الموجز في المادة الجنائية الموضوعية

 الهوامش :

[1] L’article 1104 du code civil français stipule : ‘’ Les contrats doivent être négociés, formés et exécutés de bonne foi. Cette disposition est d’ordre public.’’

[2]  بالعودة إلى التشريعات العربية نجدها هي الأخرى تبنت مبدأ حسن النية نظرا للأهمية التي يلعبها هذا المبدأ في مختلف مراحل تكوين و تنفيذ العقد، حيث نص عليه قانون الموجبات والعقود اللبناني  من خلال المادة 221 التي جاء فيها : “  العقود المنشأة على وجه قانوني تلزم المتعاقدين و يجب أن تفهم و تفسر وفقا لحسن النية’.

[3])  و هو نفس الأمر بالنسبة للقانون المدني البولوني الذي لم يعرف المقصود بالغير، و مع ذلك فإن هذا المفهوم  منصوص عليه في الأحكام القانونية، و تحديدا  الفصل 59  و 169-  391 – 393 من القانون المدني،  كما أن الفقه المدني البولوني لم يعط تعريفا دقيقا  لهذه الفئة،  و اقتصر على تحديدها كما يلي ” الغير هو الشخص الذي لم يكن طرفا في التصرف القانوني لكن له بالمقابل مصالح يمكن أن تتأثر من العلاقة القانونية التي نشأت”.

Agata Koziol , Paulina Twardoch : TIERS et BIENS , p: 4(fichier pdf) .

[4])  محمد ابن الحاج السلمي، “التقييد و التشطيب بالسجلات العقارية على ضوء مستجدات القانون 14.07″، الطبعة الأولى 2015، ص: 278.

[5])  قرار المجلس الأعلى عدد 4659 الصادر بغرفتين في 16 يوليوز 1996 ملف مدني عدد 2275-90 .الحسن هوداية، ” حسن و سوء النية في الاجتهاد القضائي المغربي”، طبعة 2009،  ص: 191.

[6]) يذهب أحد الباحثين إلى تعريف الوارث الظاهر بقوله :” هو الذي يتولى حيازة و اكتساب أموال التركة التي خلفها الهالك و التي يتصرف فيها أمام أعين الناس و كأنه المالك الحقيقي، أضف إلى ذلك أنه يديرها و يتصرف فيها بالبيع أو ترتيب حقوق عينية عليها لصالح الغير و لكن قد يظهر وارث آخر يحجبه و يمنعه من الإرث, فان كانت الممتلكات التي خلفها الهالك لا زالت بيد الوارث الظاهر فليس هناك أي مشكل، و لكن المشكل يثار حينما يقدم الوارث الظاهر على التصرف في تلك العقارات إلى الغير الذي اعتقد أنه الوارث الحقيقي و الوحيد.”

محمد محروك, مفهوم الغير في العقد، التحديد و الآثار-دراسة مقارنة- أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة القاضي عياض- كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية مراكش. السنة الجامعية 2005/2006 ص:251-252 .

[7]( Civ. 3,6 sept. 2011 , n 10-20.412 , 10-21.318 publié sur le www.Dalloz-etudiant.fr / date de consultation : 01 /06/2017/ l’heure : 15 :00

[8])  عرف الفصل 879 من ق.ل.ع المغربي الوكالة بأنها : ” عقد بمقتضاه يكلف شخص شخصا آخر بإجراء عمل مشروع لحسابه”، و الوكيل هو الشخص الذي يبرم تصرفا باسم شخص آخر يسمى الأصيل،  حيث تنصرف آثار التصرف إلى هذا الأخير غير أنه قد يحدث في بعض الأحيان أن يتجاوز الوكيل حدود وكالته أو يقوم بإبرام تصرفات بعد انتهاء وكالته أو بناء على وكالة وهمية فيوقع في الغلط الغير الذي تعامل معه و الذي كان يظن أنه يتعامل مع وكيل بوكالة صحيحة, و إذا به يتعامل مع وكيل ظاهر. و يشترط في الوكالة الظاهرة ما يلي :

  • أن يكون الوكيل الظاهر عمل باسم الموكل دون نيابة كأن تكون الوكالة باطلة أو قابلة للإبطال، أو يستمر الوكيل في الوكالة رغم انتهائها أو وفاة الموكل دون علم الوكيل، أو تجاوز حدود وكالته..
  • يجب أن يكون الغير المتعامل مع الوكيل الظاهر حسن النية.
  • أن يكون الغير حسن النية قد تعامل بناءا على مظهر خارجي  جعله يعتقد أن الوكالة ما زالت قائمة بين الوكيل و الموكل و يجب أن يكون هذا المظهر الخارجي المضلل منسوب للموكل بمعنى أنه ساهم بتقصير منه أو بدون تقصير في جعل الغير حسن النية يطمئن لإجراء مثل هذا التصرف.

[9]) للتوسع في الموضوع انظر:

عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، المجلد الأول، العقود الواردة على العمل: المقاولة و الوكالة و الوديعة و الحراسة. منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت لبنان طبعة جديدة،2009 ص: 612.

[10]) و في هذا الصدد يقول الأستاذ عبد الرحمان بلعكيد :

“… أن الوكيل الذي يتصرف بالوكالة رغم إلغائها، يتحمل الموكل تبعة عمله تجاه الغير حسن النية، لأن عليه أن يتخذ الإجراءات العاجلة للحيلولة دون تصرف الوكيل و عبثه بالوكالة بعد الإلغاء و المفرط أولى بالخسارة “. عبد الرحمان بلعكيد، الوكالة ” الأحكام, الآثار, الانقضاء, النماذج”، الطبعة الأولى، 2014, ص: 458.

[11]  و يعرف الأستاذ الكزبري التدليس بأنه:  ” هو استعمال خديعة توقع الشخص في غلط يدفعه إلى التعاقد. فالمتعاقد تحت وطأة التدليس إنما يتعاقد تحت تأثير الوهم الذي أثاره في ذهنه المدلس. فإرادته إذن ليست حرة سليمة بل هي معيبة و العيب الذي يشوبها هو الغلط الذي ولده التدليس. إنما يختلف هذا الغلط عن الغلط المجرد في أن الأول يقع فيه العاقد نتيجة أساليب التضليل و الاحتيال التي لجأ إليها المدلس، بينما الثاني هو غلط تلقائي يقع فيه المتعاقد من نفسه .”

مأمون الكزبري، نظرية الالتزامات في ضوء قانون الالتزامات و العقود المغربي،م.س، ص: 98

[12]) ظهير شريف رقم 1-59-413 صادر في 28 جمادى الثانية 1382 ( 26 نونبر 1962) بالمصادقة على مجموعة القانون الجنائي.

[13]) قرار عدد 5742 مؤرخ في 27-12-2011، ملف مدني رقم 4148-1-2-2010، منشور بمجلة القضاء المدني، العدد 11, 2015، ص: 188.

[14])  مذكرة عدد 7280 صادرة بتاريخ 8-6-2017 في شأن خدمة محافظتي.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)