كوثر الرفاعي: صلاحية القاضي المنتدب في تكييف مفهوم التوقف عن الدفع وفق قانون رقم 73.17

وفاء الخضيري: ضمان حق الحبس وتأثيره على مراكز الدائنين في ضوء مستجدات القانون 17-73 المتعلق بصعوبات المقاولة

الحسين الزباخ: الإجهاض بين الإباحة والتجريم – على ضوء التحكيم الملكي والتعديل الجنائي –

8 مارس 2022 - 6:24 م مقالات , القانون الخاص , مقالات
  • حجم الخط A+A-

الحسين الزباخ دكتور في الحقوق مؤهل لمزاولة مهنة المحاماة

مقدمة:

 تعتبر الأسرة اللبنة الأولى في بناء المجتمع إذ بها يكون صلاحه أو فساده،[1] حيث لا يتحقق رقي المجتمع وتقدم حضارته إلا بالاعتناء بالأسرة ورعاية شؤونها، وعليه فإنه لا يتصور تكوين هذه الأسرة الصالحة إلا نتيجة ثمرة زواج شرعي بين رجل وامرأة غايته الإحصان والعفاف مع توافقهما على قرار الإنجاب من عدمه، وبالتالي فإن أي علاقة غير شرعية خارج إطار الزواج ينتج عنها حمل سفاح يكون عرضة لضياع حقوق الهوية والبنوة المكفولة له وفي مقدمتها الانتساب لوالديه الشرعيين، بل وقد يسعى أحد أبويه أو كلاهما إلى التخلص منه بعملية الإجهاض تهربا من المسؤولية ودرئا للفضيحة داخل المجتمع، مما يتساءل معه عن مدى الحماية المكفولة لحقه في الحياة نظرا لأهمية طور الحمل باعتباره مرحلة البداية الأولى لحياة الإنسان، والتي تمتاز بأحكام شرعية خاصة كرستها كذلك مختلف القوانين الوضعية الأسرية منها والجنائية،[2] لما فيه مصلحة الأم الحامل وجنينها وكذا الأطفال بعد الولادة.

ونظرا لأهمية الموضوع، فقد عرفت قضية الإجهاض ببلادنا نقاشا مجتمعيا بين مختلف الفرقاء جعلت منه حديث الساعة يتجدد ويأخذ في كل عصر أبعادا معينة في تناوله، خاصة فيما يتعلق بتحديد حالات الإباحة والتجريم والدعوات لإدخال تعديلات تشريعية على القانون الجنائي تواكب هذه المطالب، على ضوء ما تعكسه المعطيات الإحصائية الوطنية والدولية حول واقع الإجهاض وآثاره[3]، وكذا التوصيات حول قضية الإجهاض التي أكدتها تقارير كل من: المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بتقريره حول النموذج التنموي الجديد بالمغرب بتاريخ 30 ماي 2019، واللجنة الخاصة بالنموذج التنموي التي قدمت تقريرها في 25 ماي 2021، والذي أوصى “بمواصلة النقاش الذي انطلق سنة 2015 حول الإجهاض بشكل رصين وعلمي لإعداد تشريع يتسم بالمرونة وينص على الأخلاقيات ويحترم وفق التعاليم الدينية السمحة حق الجنين في الحياة والحفاظ على صحة المرأة، باعتباره من القضايا المجتمعية التي تحتاج إلى نقاش مجتمعي وفقهي بشراكة مع المجتمع المدني”، إضافة إلى تدخل الحكمة الملكية في الموضوع من خلال تعيين لجنة للاستشارة حول تقنيين الإجهاض في 16 مارس 2015، مؤلفة من وزير العدل والحريات ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والتي رفعت في 15 ماي من نفس السنة خلاصات عملها للملك محمد السادس نصره الله بصفته أميرا للمؤمنين، عقب إجراء لقاءات واستشارات مع مختلف الفاعلين المعنيين بتنسيق مع المجلس العلمي الأعلى، والذين أشادوا جميعا بالمبادرة الملكية الحكيمة وبالمقاربة التشاورية التي تعطي الأولوية لخدمة المصلحة العليا للأسرة والمواطنين، وعليه أكد البلاغ الملكي في هذا الشأن على اعتبار أن الأغلبية الساحقة تتجه إلى تجريم الإجهاض غير الشرعي باستثناء بعض الحالات من العقاب لوجود مبررات قاهرة، وذلك لما تسببه من معاناة ولما لها من آثار صحية ونفسية واجتماعية سيئة على المرأة والأسرة والجنين تنعكس سلبا على استقرار وأمن المجتمع ككل، واستنادا إلى هذه الخلاصات أصدر جلالته تعليماته السامية إلى كل من وزير العدل والحريات ووزير الصحة قصد التنسيق بينهما وإشراك الأطباء المختصين، من أجل بلورة خلاصات هذه المشاورات في مشروع مقتضيات قانونية قصد إدراجها في مدونة القانون الجنائي، وذلك في إطار احترام تعاليم الدين الإسلامي والتحلي بفضائل الاجتهاد وبما يتماشى مع تطورات المجتمع المغربي وقيمه القائمة على الانفتاح والاعتدال وبما يراعي وحدته وخصوصياته، إضافة للتأكيد على التوعية والوقاية ونشر وتبسيط المعرفة العلمية والأخلاقية لتحصين المجتمع من الأسباب التي قد تؤدي إلى الإجهاض نظرا لكون القانون وحده لا يكفي للحد منه.

ولأجل ذلك عملت الحكومة المغربية على إحالة مشروع قانون رقم 10.16 القاضي بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي على البرلمان في 24 يونيو 2016، (من أجل المناقشة في القراءة الأولى لدى لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان بمجلس النواب، ثم تسحبه الحكومة الجديدة في 8 نونبر2021 ليطرح التساؤل حول مصير نقاش قضية الإجهاض من جديد؟)، بحيث نص في مقترحاته على تجريم الإجهاض غير الشرعي مع استثناء بعض حالاته من العقاب لوجود مبررات قاهرة، وهي الحالات الثلاث المبيحة للإجهاض (إضافة للحالة التي يشكل فيه الحمل خطرا على الصحة البدنية للأم والتي يدعوا البعض لتوسيعها لتشمل الصحة العقلية والنفسية والاجتماعية للحامل)، حيث حددها الفصل (453) في: “لا يعاقب على الإجهاض إذا كان الحمل ناتجا عن اغتصاب أو زنا المحارم… + إذا كانت الفتاة الحامل مختلة عقلياً… + عند ثبوت إصابة الجنين بأمراض جينية حادة أو تشوهات خلقية غير قابلة للعلاج وقت التشخيص”، وهذا ما سنفصل أحكامه الشرعية والقانونية في المبحثين التاليين.

لكن بداية لابد من توضيح لماهية الإجهاض وأحكامه العامة الواردة على حق الجنين في الحياة، والذي يعد من أهم وأقدس حقوقه باعتباره الحق الذي تدور معه الحقوق الأخرى وجودا وعدما، كما أنه أكثر حقوق الجنين انتهاكا بالاعتداء أو الإجهاض، حيث يعرف الإجهاض أو الإسقاط اصطلاحيا بأنه: “إنهاء الحمل بقذف أو خروج محصوله أي محتواه خارج الرحم قبل أن يكون قابلا للحياة”،[4] أما الفقه القانوني فيعرفه بأنه: “إخراج الحمل من الرحم بغير موعده الطبيعي عمدا وبلا ضرورة بأي وسيلة من الوسائل، وبمعنى آخر إخراج الجنين عمدا من الرحم قبل الموعد الطبيعي للولادة، أو قتله في الرحم”،[5] أي أن الفقه القانوني يرى أن هناك موعدا طبيعيا للولادة هو الشهر التاسع، فإذا تمت محاولة من الأم أو الغير لإخراج الجنين قبل تلك المدة فنحن بصدد عملية إجهاض ما دام قصد الفاعل إنهاء حياة الجنين، وذلك لدواعي معينة لهذا الإجهاض[6] التي تختلف باختلاف أنواعه وصوره،[7] لكن هناك إجماع فقهي على تحريم القيام به وبالأخص بعد نفخ الروح في الجنين، ما لم  تكن هناك ضرورة شرعية لذلك كما سنفصلها:

المبحث الأول: الإجهاض لأسباب اجتماعية

إذا كان حق الإنجاب مكفول للإنسان لكي ينعم بالذرية الصالحة المعلوم نسبها والمصونة حقوقها، فإن هذا الحق مقيد بأن يكون في إطاره الشرعي الذي هو مؤسسة الزواج، أما الحمل خارجها فيعد غير شرعي من الناحية الفقهية والقانونية يسعى للتخلص منه بالإجهاض، ما لم توجد حالة للضرورة والأسباب المقبولة وفق المقاصد الشرعية المطلوبة والضوابط القانونية التي تحكم هذا التبرير في الإباحة ، وهنا يبرز دور المشرع للأخذ بهذه الأسباب منها الاجتماعية ذات الطبيعة الأخلاقية، ومراعاة ظروف الضحايا الواقعين في ورطة الحمل غير المرغوب فيه خاصة ضحايا الاغتصاب وزنا المحارم، لتبرير إجهاضه كاستثناء وارد عليه قبل نفخ الروح فيه، بحيث لابد من تمييز هاتين الحالتين عن باقي الحالات الاجتماعية وحتى الاقتصادية الأخرى التي تأخذ بها بعض التشريعات الغربية[8] للتخلص من الجنين، الشيء الذي يناقض مقصد الشرع الرافض للإجهاض على اعتبار أن حق الجنين في الحياة يعلو على الأهمية الاجتماعية للمركز الاقتصادي للأسرة. وعليه فصّل مشروع القانون القاضي بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي المغربي رقم 10.16 لسنة 2016 هذه الحالات بنص المادة الأولى في الفصل (1-453) على أنه: “لا يعاقب على الإجهاض إذا كان الحمل ناتجا عن اغتصاب أو زنا المحارم، وذلك شريطة أن يقوم به الطبيب في مستشفى عمومي أو مصحة معتمدة لذلك، وأن يتم قبل انقضاء تسعين يوماً على الحمل، مع الإدلاء بشهادة رسمية تفيد فتح مسطرة قضائية يسلمها الوكيل العام للملك المختص بعد تأكده من جدية الشكاية”، اضافة إلى “إرشاد الحامل من قبل الطبيب شخصياً أو بواسطة مساعدة اجتماعية إلى الإمكانيات القانونية المتاحة لها بخصوص كفالة الطفل، وإلى الأخطار الصحية التي يمكن أن تتعرض لها من جرّاء الإجهاض. وتمنح عند الاقتضاء مهلة للتفكير لا تقل عن ثلاثة أيام. ويعدّ الطبيب تقريراً بذلك يوضع بملف المعنية بالأمر”. وعليه سنتطرق لهاتين الحالتين كل على حدة:

المطلب الأول: أحكام إجهاض الحمل الناتج عن الزنا وزنا المحارم

إن من التربية الأسرية والجنسية التي دعا إليها الإسلام ضرورة الفصل في المضاجع بين الأبناء والآباء والذكور والإناث خصوصا في سن البلوغ، مع التزام الحدود في التعامل مع الجسد بأخلاق الشرع كالحشمة والحياء والوقار، من أجل ضمان حميمية الجسد حتى لا تستباح حرمته والحفاظ على نقاء النفس والفطرة السليمة ضمن التماسك الأسري، إلا أنه وبالنظر إلى الفوارق الاجتماعية والاقتصادية لبعض الأسر التي تضطر إلى العيش في غرفة واحدة أو في بيت القصدير الذي لا تتسع لكل أفراد في الأسرة، إضافة لضعف الوازع الديني ونقص التوجيه الأسري والتربوي خاصة في جانب الثقافة الجنسية والصحة الإنجابية، فإن هذا الأمر يؤدي للوقوع في جرم الزنا وزنا المحارم.

الفقرة الأولى: التعريف الشرعي والقانوني للزنا وزنا المحارم

 يعرف مفهوم الزنا بالفاحشة والسفاح أو الوطء الحرام، وهو إتيان الرجل للمرأة بفعل الجماع بغير أن تكون بينهما علاقة الزوجية المشروعة، وذكر عن الإمام مالك بأنه: “وطء الرجل المرأة في القبل أو الدبر بدون حق شرعي أو شبهته”،[9] أما زنا المحارم فيعرف بأنه مواقعة الرجل لامرأة ذات محرم له كابنته وأمه وأخته وخالته وعمته…، وإذا كان الإسلام قد حرم الزنا وشدد في عقوبته ما بين الجلد والرجم فإنه من باب أولى وأحرى تجنب الوقوع في زنا المحارم، الذي يعد من أبشع أنواع الزنا ومن أعظم الكبائر التي حرمتها كل الرسالات السماوية لآثاره الخطيرة على الأسرة وتفكك المجتمع.

أما في التشريع الوضعي، فالقانون الجنائي المغربي (الفصول 484 إلى 490) لم يضع نصا خاصا بزنا المحارم إذ يعتبر هذا الجرم اغتصابا واعتداء، وهذا تقصير من جانب المشرع إذ عليه إقرار نص خاص بتجريم الحالات الجنسية بين الأقارب المصطلح عليها بزنا المحارم، وإن كان قد اعتبر من خلال بعض النصوص القانونية صفة “أصل الطفل الضحية” ظرفا من ظروف التشديد في بعض الجرائم الواقعة على القاصر الذي تقل سنه عن 18 سنة أو كان عاجزا أو معاقا أو معروف بضعف قواه العقلية، وحتى المرأة إن كانت حامل كما هو الشأن بالنسبة لجرائم هتك العرض والاغتصاب، حيث قد تصل العقوبة لأقصاها في مدة ثلاثين سنة سجنا في حق مغتصب قام باستعمال العنف، أو نتج عن جريمة الاغتصاب افتضاض المجني عليها، أو كان الفاعل من أصول الضحية أو ممن لهم سلطة عليها أو وصيا عليها، كما أن المشرع المغربي لم يأخذ بعين الاعتبار علاقة القرابة بين الجناة والضحايا في جريمة الفساد، إذ اقتصر تعريفها على العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية ورتب عليها عقوبة الحبس من شهر إلى سنة دون الإشارة إلى تشديد عقوبة الجناة إذا كانت تربطهم علاقة قرابة، وهذا غياب واضح لحماية أواصر القرابة والروابط الأسرية ضد كل من تسول له نفسه الاعتداء على حرمتها المرتبطة بقيم واستقرار المجتمع، مادام أن القاعدة القانونية هي قاعدة اجتماعية عليها أن تعكس واقع المجتمع وتعالج إشكالياته ومستجداته. ورغم هذه النصوص القانونية الموجودة لمعالجة ظاهرة زنا المحارم وكل أشكال الاعتداء الجنسي، فإن الإثبات يبقى العامل الأهم في مثل هذه القضايا نظرا للسرية التي تتسم بها والخوف من العار والفضيحة في حال إفشائها أو التهديد عند متابعتها أمام القضاء، إضافة للتفكك الأسري الذي قد يهدد روابط العائلة لاسيما الآثار النفسية والجسدية والاجتماعية على الضحية خاصة إن كانت قاصرة لا تعي خطورة انتهاك حرمة جسدها، وأفظع الآثار أن ينتج عن علاقة زنا المحارم حمل هو ضحية لمغتصب استغل العلاقة الأسرية التي تربطه بالضحية، بعيدا عن أي شكوك في التحرش وانتهاك الأعراض في محيط أسري مفترض أن يوفر الأمان والثقة، وهذا ما تؤكد خطورته المعطيات الإحصائية بالمغرب حول واقع الاعتداءات الجنسية على النساء ومنها زنا المحارم.[10]

الفقرة الثانية: الحكم الشرعي والقانوني لإجهاض حمل الزنا

بالنسبة لحكم إجهاض الحمل الناتج عن الزنا فالفقهاء لم يهتموا بالتفاصيل المتعلقة بالحمل أثناء تطرقهم للمسألة، فلم يفرقوا بين الحمل الناشئ من زواج صحيح أو من زنا عن طريق العلاقة الجنسية غير الشرعية، إلا أن كثيرا من الدلائل التي وردت في الشرع تحرم الإجهاض الناشئ من الزنا سواء نفخت فيه الروح أو لم تنفخ، وذلك لاعتبارات كثيرة أهمها: أن الزنا عموما هو علاقة تجمع بين الرجل والمرأة يتحقق بها قضاء الشهوة من دون اللجوء إلى عقد شرعي يبيح لهما ذلك، مما يدفعهما للرغبة في الابتعاد عن إنجاب نسل وولد يبحث عمن ينتسب له وهو الأمر الذي حرمه الشرع، ناهيك عما قد تبادر الأم الزانية إلى فعله بحملها السفاح بإجهاضه أو قتله، أو تركه في العراء بعد ولادته وخروجه للحياة خوفا من الفضيحة وهروبا من العار وتهمة الفاحشة، وهذه كلها حالات للقتل غير المبرر الذي لا يراعي حق الوليد في الحياة ويحمله وزر أخطاء غيره بتهرب والديه أو أحدهما من تحمل المسؤولية اتجاهه، لهذا قضت الشريعة الإسلامية في حرصها على حياة الحمل من الزنا بأن أمه هي الجانية وعليها يقام الحد مع شريكها في الجريمة، كما ترجأ العقوبة على الزانية لا لأجلها بل لأجل حملها، كما ورد ذلك في حديث الرسول (ﷺ) في قصة الغامدية التي ثبت في حقها الحد،[11] أما كتب الفقه فلم تتناول بيانا صريحا لحكم إسقاط الحمل الناشئ عن الزنا إلا ما ورد في بعضها من الجواز غير المطلق أو الحرمة في إجهاض حمل الزنا، حيث نجد بعض فقهاء المالكية والشافعية يرون إباحة إسقاط حمل الزنا قبل نفخ الروح –مع مراعاة وقت الجواز عند كل قائل به[12] أما بعد نفخ الروح فلا يحل إسقاطه، وظاهر قول المجوزين عدم التفرقة بين مستكرهة على الزنا “مغتصبة” أو راضية، ولعل حجة المجوزين أن بقاء الحمل يترتب عليه إلحاق الفضيحة والعار لمن حملت سفاحا وبأهلها وأيضا خشية قتلها ممن يلحقهم العار، فقالوا بجوازه للتستر ورفع الحرج ودفعا للقتل بظهور حمل الزنا وهنا ترجيح الضرر الأقل ودفعا لهلاك النفس.

وفي سياق استعراض آراء الفقهاء المعاصرين في قضية إجهاض حمل الزنا، نجد رأي الأغلبية الساحقة من جمهور الفقهاء يذهب إلى أنه لا فرق بين الحمل من نكاح صحيح والحمل من الزنا في مسألة حرمة حياة الحمل ووجوب المحافظة عليها وعدم التفريط فيها، وتحريم ما يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بها كإجهاض الجنين بعد انعقاده في الرحم وتزداد الحرمة تشديدا بعد نفخ الروح فيه، وفي ذلك قول للشيخ يوسف القرضاوي: “إن حياة الجنين في نظر الشريعة الإسلامية حياة محترمة باعتباره كائنا يجب المحافظة عليه، ومن هنا حرمت الشريعة الاعتداء عليه ولو كان الاعتداء من أبويه حتى في حالة الحمل الحرام ما جاء عن طريق الزنا لا يجوز لها أن تسقطه، لأنه كائن إنساني حي لا ذنب له ولا تزر وازرة وزر أخرى…، وإذا كان الإسلام قد أباح للمسلم أن يمنع الحمل لضرورات تقتضي ذلك، فلم يبح له أن يجني على هذا الحمل بعد أن يوجد فعلا ولو جاء من طريق حرام، بالإضافة إلى أن الجنين لا ذنب له”.[13] أما الشيخ البوطي فيقول: “إن الجنين يملك حق الحياة منذ أن يتم العلوق، لا يمنعه من أن ينال حقه شيء ولا يضره في ذلك ما اقترفه الأبوان من الإثم، لقول الله تعالى: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”، فقد تكامل الدليل إذا في هذا الحديث (حول الغامدية) على أن الزانية لا يجوز لها أن تسقط حملها الذي نشأ عن زناها، مطلقا لا قبل الأربعين يوما من بداءته ولا بعد ذلك”.[14] ويزيد الفقيه الأصولي أحمد الريسوني: “وأما الزنى المفضي إلى الحمل فليس عذرا ولا يعطي رخصة للإجهاض، لا قبل الأربعة أشهر ولا بعدها، عملا بالقاعدة الفقهية الأصولية: “الرخص لا تناط بالمعاصي”، فالرخص إنما شرعت للمساعدة على طاعة الله لا على معصيته، وعملا كذلك بقاعدة اعتبار المآلات فنحن في زمن كثر فيه الزنى واستبيح وسهلت فيه وسائل الإجهاض، بل هناك من يريدون فتح باب الإجهاض على مصراعيه تحديدا لتسهيل العلاقات الجنسية اللاشرعية، فالترخيص للحوامل من الزنى بإسقاط أجنتهن، إنما هو –في مآله- توسيع أكبر لدائرة الزنى، وخدمة لمشروع الإباحية الجنسية وتعاون على الإثم والعدوان، وفي صحيح مسلم: “أن امرأة أتت النبي (ﷺ) وهي حبلى من الزنا فقالت: يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي… لكنه عليه السلام أجل عقوبتها إلى أن وضعت حملها. فظهر أن حق الجنين في الحياة محفوظ، حتى ولو كان ابن زنى”.[15] بالمقابل نجد موقفا انفرد به الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء، حيث يرى جواز إجهاض الحمل من الزنا بالقول: “إذا حملت المرأة المسلمة بدون زواج فهذا الحمل نتيجة الزنا، ولا يجوز إجهاض الجنين في بطنها إلا إذا كان لم يتجاوز من العمر أربعة أشهر، أما إذا كانت في مجتمع سلم وهي حامل في الشهر الخامس فلا يجوز لها إجهاض هذا الجنين، لكن إذا كان أهلها سيقتلونها إذا عرفوا أنها حامل، وهي لذلك تريد أن تجهض جنينها لتحافظ على حياتها فهذا الأمر يعتبر جائزا، لأن حياة الأم متيقنة وحياة الجنين محتملة، ولذلك أجاز الفقهاء إجهاض الجنين إذا كان يشكل خطرا على حياة أمه”.[16] وهذا يعني أن من قال بجواز إسقاط الجنين لضرورة قد أخذ برخصة شرعية، وبما أن الزنا معصية  فالمقرر شرعا أن الرخص لا تناط بالمعاصي.

أما الرأي القانوني في مسألة إجهاض حمل الزنا: فقد اختلفت التشريعات الوضعية في مدى تجريم أو إباحة الإجهاض من حمل نتيجة الزنا، حيث تبيح بعض التشريعات الغربية[17] إجهاض المرأة إن حملت سفاحا استنادا لمبرر أن استمرار الحمل قد يعرضها للخطر الجسيم والإيذاء من جانب أهلها، وقد تحاول المرأة وهي تحت تأثير خشية الفضيحة والعار وانكشاف أمرها إلى التخلص من الحمل بطرق يكون فيها خطر على حياتها وصحتها أو قتل نفسها انتحارا لإنهاء حالة الضيق التي ألمت بها، وعليه فالذين يبيحون الإجهاض في هذه الحالة يعتبرون المرأة في حالة دفاع شرعي، ومن تم يباح لها إسقاط الحمل دفعا للخطر الذي قد يحصل لها، وهذا القول فيه نظر لأن المرأة هنا ليست في حالة الدفاع الشرعي الذي من شروطه الأساسية أن يوجه فعل الدفاع إلى المعتدي وليس الأمر هنا هكذا، على اعتبار أن المرأة في حالة إجهاضها تكون تعتدي على من لم يعتد على أحد فهي تقتل جنينا لا ذنب له.

والمشرع الجنائي المغربي (في الفصول 449-445) على غرار التشريعات العربية الأخرى لم يرد به نص صريح يبيح إجهاض حمل السفاح سواء من زنا أو من اغتصاب وغيره دفاعا عن الشرف، بل قد يكيف بجريمة الفساد أو دليل على الخيانة إن كان أحد أطراف العلاقة الجنسية غير الشرعية متزوجا يعاقب عليها، لاسيما وأن المرأة في هذه الحالة قد تخلع عليها مظهرا إجراميا توصلا إلى إباحة الإجهاض الذي يعد اعتداء على حق الجنين في الحياة، وعليه فإنه في حالة الحمل السفاح لا يجوز للمرأة إجهاض نفسها ولا يجوز ذلك للطبيب استنادا إلى عدم توفر شروط الضرورة، كما لا يصدق وصف الخطر الجسيم على النفس بالنسبة لما يهدد الإنسان في شرفه وسمعته، فلو أن امرأة حملت بطريقة غير شرعية خارج نطاق الزواج وعمدت إلى إجهاض نفسها خشية العار والفضيحة فإنها لا تعفى من العقاب على أساس الضرورة لأن ذلك تم برضاها أو بالتغرير بها وهي راشدة كمن يعدها بالزواج وغيره، بالمقابل من يرى أن هذه المرأة الحامل قد تعفى من العقاب جراء إجهاض نفسها إن حملت سفاحا من إكراه أو تخدير أو اغتصاب ويجوز للطبيب إجهاضها استجابة لوضع المصلحة وحالة الضرورة لذلك، بحيث تنصرف إلى حماية شرف الأسرة وحياة الضحية الأم الحامل من الانتقام أو القتل على اعتبار أنها لم تكن راضية بل مكرهة، ويبقى هذا الأمر استثناء لا يمتد إلى إباحة الإجهاض في حالة الزنا حتى لا يفتح الباب للفساد، وعليه فجمهور الفقهاء وغالب التشريعات القانونية يذهب لعدم جواز إجهاض حمل الزنا واستثناء من أكره عليه، وهنا نتساءل عن الحكم الشرعي للإجهاض عند الاغتصاب؟ وهذا ما سنوضحه فيما يلي:

المطلب الثاني: أحكام إجهاض الحمل الناتج عن الاغتصاب

الأصل في العلاقة الزوجية الرضى والقبول بين الطرفين في المعاشرة، لكن قد يكون هناك إكراه وإجبار على ممارسة الفاحشة تحت وقع التهديد والتصفية وهذا ما يعرف بالاغتصاب.

الفقرة الأولى: التعريف الشرعي والقانوني للاغتصاب

يدخل في معنى الاغتصاب الإكراه وما في حكمه مما يفسد الرضا ويعدم الاختيار، سواء ما تم بالإكراه التام أو الناقص والصغر والجنون والنوم والإغماء والسكر…، وبالتالي لو زنى الرجل بالمرأة وهي تحت تأثير أي منها يعد ذلك اغتصابا وليس زنا، ويحد الفاعل وهو الزاني دون المرأة لأنها مكرهة، كما توسع دائرة الأفعال التي تقوم عليها جريمة الاغتصاب في كل ما من شأنه أن يجعل الإرادة معيبة لفقدان الرضى ووجود الإكراه وحالة الضرورة وعليه سارت آراء فقهاء المذاهب مثل ما ذكر في مدونة الإمام مالك واللافت استخدامه للمصطلح الحديث لجريمة “الاغتصاب” عند تعريف مفهومه.[18]

أما تعريف جريمة الاغتصاب وحكمها في القانون الوضعي، فنجد اتفاق مختلف التشريعات على الأصل العام الذي هو وجوب حماية العرض وصيانة الطهارة الجنسية من منطلق اجتماعي نفعي لا من منطلق ذاتي إنساني،[19] ولقد عرف الفقه القانوني الاغتصاب بأنه كل اتصال جنسي كامل بين رجل وامرأة بغير رضاها، أي أن هذه الجريمة لا تتحقق أركانها إلا بوقوع معاشرة الرجل للمرأة بسلوكه الإيجابي المنفرد، أما المرأة فلم تكن في هذه المعاشرة إلا محلا لهذا الاتصال الجنسي غير المشروع مكرهة دون أن يكون لها دور آخر فيه، لكن نلاحظ وجود قصور في التشريع الجنائي المغربي لعدم نصه صراحة على جريمة زنا المحارم بالإكراه أو بالتغرير كصورة للاغتصاب خاصة إذا كان ضحاياها من القاصرات، كما أن على المشرع المغربي توسيع تعريف الاغتصاب حتى لا تقتصر دائرته على مواقعة رجل لامرأة بدون رضاها، بل توسع لتشمل مواقعة امرأة لرجل دون رضاه، لأن القاعدة القانونية هي قاعدة اجتماعية يجب أن تعكس الواقع الاجتماعي المعاش وحل لمشاكله، كما أن جريمة الاغتصاب رغم خطورتها على المجتمع الدولي والتي تمس شرف وإحساس الإنسان إلا أنها لم تحظ باتفاقية خاصة بها، رغم حظر القانون الدولي الاغتصاب وغيره من أشكال الاعتداء الجنسي، مثل ما أشارت إليه المادة 27 من اتفاقية جنيف لسنة 1949 التي تحظر بصفة خاصة الاغتصاب حيث جاء في الفقرة 2 من الباب الرابع منها: “يجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن ولاسيما ضد الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن”، وأضاف المادة 76 من البروتوكول: “يجب أن تكون النساء موضع احترام خاص وأن يتمتعن بالحماية ولاسيما ضد الاغتصاب والإكراه، وضد أي صورة من خدش الحياء”.

الفقرة الثانية: الحكم الشرعي والقانوني لإجهاض حمل الاغتصاب

 فيعد ولد الاغتصاب كولد الزنا ناتج عن علاقة غير شرعية، إلا أن المرأة هنا تكون مكرهة على الزنا فيرتفع الإثم عليها لعدم مؤاخذتها على ذلك، وفي ذلك يقول الشيخ يوسف القرضاوي: “إن المرأة المغتصبة التي بذلت جهدها في المقاومة لهؤلاء العلوج وأمثالهم، لا ذنب لها لأنها مكرهة، والمكره مرفوع ذنبه في الكفر الذي هو أشد من الزنى، كما قال الله تعالى “إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان”، وقد قال رسول الله (ﷺ): “وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”، بل إن المرأة المغتصبة التي وقعت فريسة، مأجورة في صبرها على هذا البلاء إذا هي احتسبت ما نالها من الأذى عند الله عز وجل”[20] وبالتالي لا تؤاخذ المرأة على فعل الزنا لأنها مكرهة ولا يقام عليها الحد، أما إن نتج عن حمل الاغتصاب ولد فلا فرق بينه وبين ولد الزنا إذ يشتركان في نفس الأحكام حسب التشريعات المغربية.[21]

وبتالي فأحكام إجهاض حمل الاغتصاب تعتبر إخراج الجنين عمدا من الرحم قبل الموعد الطبيعي لولادته أو قتله عمدا في الرحم هو إجهاض لحقه في الحياة بإنهاء حالة الحمل الطبيعية، وهذا عمل تجرمه جل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية إلا في حالات استثنائية نجد إجهاض المرأة المغتصبة إحداها، وعليه فإن صورة إجهاض المرأة المغتصبة لحملها غير المرغوب فيه تختلف عما يشبهها من صور الإجهاض الأخرى، كقتل الأم لطفلها حديث الولادة اتقاء للعار بسبب الحمل من سفاح، حيث يكون هو محل الحماية القانونية الجنائية في هذا الفعل الذي يعد جريمة وفق كافة التشريعات الوضعية، على عكس إجهاض المرأة المغتصبة الذي قد يعد عملا مباحا أو عذرا قانونيا مخففا لدى بعض التشريعات[22] التي لم تفرقه عن إجهاض حمل الزنا الذي مصدره سفاح لأجل المحافظة على الشرف ودرء الفضيحة الاجتماعية، وبالتالي يمكن القول بأن التكييف القانوني لإجهاض المرأة المغتصبة باعتباره عذرا قانونيا مخففا هو تطبيق لمبدأ التفريد التشريعي للعقاب الذي أصبح معلما بارزا في السياسة العقابية الحديثة، يقضي بجعل العقوبة ملائمة للحالة الشخصية للمرأة المغتصبة والباعث الذي دفعها إلى إسقاط جنينها مع مراعاة الأضرار الناشئة عنه بحق الأسرة والمجتمع، مما قد يدفع القضاء إلى تكييف جريمة إجهاض حمل الاغتصاب على أنها مخالفة، لاسيما وأن الدافع شريف لدى المرأة المغتصبة للمحافظة على الشرف واتقاء العار ودفع الظلم من المعتدي، بحيث لا تحمل ضررين معا هما تعرضها للاغتصاب كضحية ثم حملها من المغتصب بالإكراه لجنين هو في وضع غير مرغوب فيه. لكن في المقابل نجد اتجاها آخر[23] لا يعتبره عذرا قانونيا أو ظرفا قضائيا مخففا، بل يعده جريمة عادية شأنها شأن باقي جرائم الإجهاض الأخرى بحيث تخضع لنفس أحكامها سواء كانت المرأة التي أجهضت نفسها، على عكس التشريعات الغربية الجنائية كما في فرنسا حيث نجد الاتجاه الذي يبيح الإجهاض لكن بشروط معينة استرشادا بالتوصيات الدولية[24] التي تعتبر إجهاض المرأة المغتصبة هو عذر قانوني معفي من العقوبة إذا تحققت ضوابط كأن يكون بمعرفة طبيب مختص أو داخل مستشفى حكومي بموافقة المعنيين بالأمر.

وعليه وجب توفر شروط لإجهاض المرأة المغتصبة لأجل اعتبار فعلها مبررا، وهي:

– رضا وقبول المرأة المغتصبة الحامل بأن تجهض جنينها.[25]

– أن لا تقوم المرأة المغتصبة بإسقاط جنينها بنفسها أو بواسطة الغير، للاستفادة من العذر المخفف.

– يجب أن يكون الباعث الدافع على الإجهاض هو المحافظة على الشرف اتقاء للعار والفضيحة.[26]

– أن تكون هذه المرأة ضحية لارتكاب جريمة اغتصاب وكل اتصال جنسي لم ترض به المرأة رضاء صحيحا كوقاع المرأة ناقصة الأهلية كالمختلة عقليا والقاصرة والمخدرة باعتبارهم مجني عليهم.

– ألا يؤدي فعل الإسقاط المكون للمركز المادي لجريمة الإجهاض إلى موت المرأة المغتصبة، لأنه يجب أن تبقى على قيد الحياة لكي تقدم للمحاكمة وعندئذ يطبق بحقها هي والغير العذر القانوني المعفى للعقوبة.

– عدم قبول المرأة المغتصبة للمجرم الذي اغتصبها زوجا لها، بمعنى آخر إذا وافقت المجني عليها في جريمة الاغتصاب على الزواج بالرجل الذي اغتصبها وحملت منه حيث تنتفي حكمة التخلص من حملها.

– شرط المدة الزمنية لإجهاض حمل الاغتصاب، حيث انقسمت الآراء لثلاث اتجاهات، الأول يرى بأنه لا توجد مدة معينة فيما رأي ثاني يرى تحديدها قبل مرور مائة وعشرين يوما عن الاغتصاب ونمو الجنين أي قبل نفخ الروح فيه وليس بعده، فيما ذهب رأي ثالث لتقييد المدة في أربعين يوما من الحمل حسب علم الأجنة، أما في القوانين الجنائية الوضعية فلم تحدد تلك التي نظمت إجهاض المرأة المغتصبة[27] حدا أعلى لعمر الجنين المراد إسقاطه إذ يتصور ارتكاب الإجهاض طوال الفترة التي تمتد خلالها حياة الجنين.

مقال قد يهمك :   ذ.الحسين بلحساني :الدعوة إلى تحرر المرأة بين خصوصيات الهوية ومقتضيات الحداثة.

أما بخصوص موقف الفقه الإسلامي من إجهاض حمل الاغتصاب: فإن الشريعة الإسلامية الغراء قد حرمت الاعتداء على الجنين بكافة صوره، ولم تجز الإجهاض إلا في حالة واحدة عليها الإجماع وهي حالة الضرورة كإنقاذ حياة الأم من الهلاك أو من عاهة مستديمة، وإن كانت هناك بعض الآراء الفقهية والاجتهادات المعاصرة التي نادت بإباحته في بعض حالات أخرى كحمل الاغتصاب، لكن اختلف الفقهاء في حكم إجهاض المغتصبة على ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول:[28] عندهم يباح للمغتصبة إجهاض حملها في أي وقت أثناء فترة الحمل، وهذا الحكم يستلزم لتحققه أن تكون ضحية الاغتصاب قد بدلت ما تستطيع للدفاع عن نفسها والحيلولة دون أن ينال منها المعتدي، واستدل أصحاب هذا الرأي بعدة أسباب منها دفع الأذى المعنوي عن المولود البريء الذي سيلحق به العار وكذا الأم البريئة التي سيلحق بها العار، إضافة لدفع الأذى المادي عن المجتمع ممثلا في العبء الاقتصادي من جراء امتلائه بأطفال شوارع لا نسب لهم. أما الاتجاه الثاني:[29] عندهم لا يجوز للمغتصبة إجهاض حملها في أي وقت قبل ولا بعد نفخ الروح، وذلك استنادا لحديث قصة الغامدية التي زنت وأقيم عليها الحد بعد أن ولدت وفطمت ولدها فلم يستفصلها (ﷺ) إن كانت زنت برضى أو بإكراه، كما أن البناء الإنساني للجنين يبدأ منذ التخصيب فيحرم إجهاضه. أما الاتجاه الثالث:[30] عندهم يباح للمغتصبة إجهاض حملها خلال الأشهر الأربعة الأولى فقط من الحمل أي قبل نفخ الروح في الجنين ويحرم إجهاضه بعد ذلك، استنادا على الحديث النبوي عن توقيت نفخ الروح الذي لا يكون إلا بعد تمام أربعة أشهر، حيث إن إرسال الملك يدل على بدء الحياة الإنسانية، لأنه لو كانت شخصية الإنسان بالمعنى الدقيق تبدأ قبل هذا أو من وقت الإخصاب بتلقيح البويضة لما تأخر إرسال الرب للملك، ولما تأخر هذا الملك في السؤال عن مهام وظيفته، إضافة إلى أنه يوجد دليل من المعقول يستند للقول بأن المغتصبة الحامل تشعر بضرر في تحمل الجنين نتيجة اعتداء جنسي سيظل يذكرها بهذه الجريمة، لدى فهو مبرر يبيح لها أن تسقطه في أيامه الأولى دفعا للحرج والضرر، لأن الألم النفسي الذي لحق بها سيظل عالقا في ذهنها والجنين سوف يذكرها بهذه الجريمة الشنعاء، وشعورها بالحرج قد يجعلها لا تربي هذا الجنين بعد ولادته وستجد حرجا فيمن تنسبه إليه لارتباطه باعتراف المجرم الذي قد ينكر وبالتالي يلحق العار بالطفل بعد ولادته، وعليه يباح للمغتصبة أن تسقط حملها في الأيام الأولى قبل تخلق الجنين إنسانا والذي يحرم إجهاضه بعد نفخ الروح بمرور أربعة أشهر من الحمل. وهذا الرأي أيده الكثير من الفقهاء المعاصرين الذين أخذوا برخصة جواز إجهاض المرأة المغتصبة حملها، حيث جاء في فتوى للشيخ القرضاوي كإجابة عن سؤال حول حمل الاغتصاب، قوله: “إن المرأة المغتصبة التي بذلت جهدها المقاومة لهؤلاء العلوج وأمثالهم لا ذنب لها لأنها مكرمة والمكروه مرفوع ذنبه في الكفر الذي هو أشد من الزنا… وعليه فإنه: أولا: الأصل في الإجهاض الحرمة والمنع منذ عملية التلقيح حيث ينشأ الكائن الجديد، ويستقر في القرار المكين وهو الرحم، ولو كان هذا الكائن نتيجة اتصال محرم كالزنا. ثانيا: هناك من الفقهاء من يجيز الإجهاض إذا كان قبل الأربعين الأولى من الحمل وبعضهم يجيزه حتى قبل نفخ الروح وكلما كان العذر أقوى كانت الرخصة أظهر، وكلما كان ذلك قبل الأربعين الأولى كان أقرب إلى الرخصة. ثالثا: ولا ريب أن اغتصاب الحرة المسلمة من عدو فاجر معتد آثم عذر قوي لدى المسلمة ولدى أهلها وهي تكره هذا الجنين والذي هو ثمرة الاعتداء وتريد التخلص منه، فهذه رخصة يفتى بها للضرورة وخاصة في الأيام الأولى من الحمل، ومقيدة بحالة العذر المعتبر الذي يقدره أهل الاختصاص والأصل المنع، رابعا: لا حرج على المسلمة التي ابتليت بهذه المصيبة في نفسها أن تحتفظ بهذا الجنين دون أن تجبر على إسقاطه، وإذا قدر له أن بقى في بطنها المدة المعتادة للحمل ووضعته فهو طفل مسلم”.[31] ويضيف الشيخ البوطي قوله: “أما إذا كانت مستكرهة أو غير متزوجة، وخافت على نفسها الهلاك والموت نتيجة الحمل، فالإجهاض رخصة لها كغيرها في نكاح صحيح”.[32] أما الفقيه الأصولي أحمد الريسوني فيقول: “أما الحمل الناجم عن الاغتصاب فقد أفتى عدد من الفقهاء المعاصرين بجوازه، على اعتبار أن المرأة المغتصبة لا ذنب لها ولا يلزم تحميلها مزيدا من العناء والحرج فهي مستحقة للترخيص والتخفيف إذا احتاجت إليه. وأما إذا تحملت الحمل والمولود أو تحمله عنها أو معها غيرها، فهي مأجورة على ما أصابها ومأجورة على حملها ورعاية مولودها وهذا قبل مرور أربعة أشهر على الحمل”.[33] كما جاء في الموسوعة الفقهية: “يترجح أن إباحة إجهاض جنين الاغتصاب أو زنا محرم في مرحلة ما قبل نفخ الروح يعد من المسوغات المعتبرة، بشرط أن يتم التحقق من حالة الاغتصاب، وذلك بتسجيلها لدى الشرطة أو أية جهة معينة، وحتى لا تتخذ الزانية هذه الإباحة عذرا تدعي أنها مغتصبة”.[34] لكن بالمقابل يتساءل البعض عن حق هذا الحمل في الحياة لاعتبار أنه ضحية في المقام الأول فلا نحمله خطأ اعتداء أبيه بالغصب على أمه الضحية، بحيث لا يمكن أن نضحي بجنين بريء لا ذنب له من أجل ذنب اقترفه غيره سواء قبل أو بعد نفخ الروح فيه.[35]

أما بخصوص موقف القانون الوضعي من إجهاض حمل الاغتصاب: فلم تتفق القوانين الوضعية خاصة الجنائية منها على حكم واحد بحق إجهاض حمل الاغتصاب لدى المرأة التي تعرضت لهذا الاعتداء الجنسي بالإكراه، حيث اختلفت تبعا لاختلاف توجهاتها التشريعية والفكرية وكذا مرجعيتها الدينية، سواء المحافظة منها كالأنظمة العربية أو المتحررة منها كالأنظمة الغربية، وعليه انقسمت آراءهم لثلاثة اتجاهات هي: الاتجاه الأول يرى بأنه لا فرق بين الحمل الناتج عن عقد زواج شرعي والحمل الناتج عن علاقة غير شرعية فلا فرق بين الأجنة مهما كانت أسباب وجودها مشروعة أو غير مشروعة، فالحكم لديهم واحد، ومن ثم فلا يحق لهذه المرأة المغتصبة أن تجهض نفسها سترا للفضيحة، فالباعث مهما كان شريفا أو مقبولا فلا تأثير له على تحقق المسؤولية الجنائية وحجتهم في ذلك أن المجني عليها في جريمة الاغتصاب وهي المرأة الحامل لها حق الدفاع الشرعي ضد من اغتصبها إلا أنها قد تقاعست عن استعماله، وفوق ذلك لها الحق في تعاطي الأدوية واستخدام كافة الوسائل الأخرى المؤدية إلى منع حدوث الحمل إلا أنها لم تلجأ إليها، كما أن الاعتراف بحق المرأة المغتصبة في الإجهاض أو مسامحتها قانونيا قد يؤدي في التطبيق العملي إلى استغلاله من قبل النساء اللائي لا يرغبن بالحمل، وقد أخذ بهذا الاتجاه معظم قوانين البلاد العربية.[36] كالتشريع الجنائي المغربي الذي جرم فعل الاغتصاب والإجهاض، وعاقب عليه بغض النظر عن سبب حمل الحبلى التي أجهضت أكان شرعيا أم من سفاح، باستثناء الحالة التي تستوجب ضرورة المحافظة على صحة الأم، وهذا يعني أن المشرع الجنائي ذهب في اتجاه حماية حق المرأة في استمرار الحمل بوضع عقوبات قاسية قد تصل لعشرين سنة لمن يعتدي على هذا الحق. وطبقا للمبادئ العامة يرى البعض أنه: “لا تأثير لنوع الباعث في وجود القصد، فسيان أن يتم الإسقاط بدافع الانتقام أم بدافع مساعدة الحامل على الخلاص من حمل لا ترغب فيه وأن يتم برضائها وبناء على طلبها، أم أن يتم بغير علم منها ولا رضاء لأن رضاء المجني عليه لا تأثير له في قيام الجريمة كقاعدة عامة، فالإسقاط في قانوننا يخضع للعقاب حتى ولو كان الحمل نتيجة تغرير أو خداع بل ولو كان بسبب اغتصاب جنائي وفي ذلك شيء من الإعنات قد يخفف منه نظام الظروف القضائية المخففة”.[37]

الاتجاه الثاني: وهو على نقيض الاتجاه الأول، حيث يجيز وينظم إجهاض المرأة المغتصبة لأن الباعث على الإجهاض هو باعث شريف أو مقبول، ومن ثم فهناك حقان متنازعان حق المرأة الحامل وحق الجنين، غالبا ما ينتهي هكذا نوع من المقارنات بتغليب حق المرأة المغتصبة الحامل باعتباره الأهم اجتماعيا، كما أن الرابطة الجسدية والعضوية بين المرأة وجنينها الذي في بطنها تجعل من فعل الإجهاض متعديا بالضرورة إلى جسد المرأة الحامل مما يتطلب ذلك أن يكون هناك دورا مهما لإرادتها واحتراما لرغبتها في تقييم هذا السلوك، ومن ثم يعد إجهاض المرأة المغتصبة لجنينها عذرا قانونيا معفيا من العقوبة، وقد أخذ بهذا الحكم قوانين كل من إيطاليا وبولنده والبرازيل وإيسلندا والنرويج وألمانيا وبعض الولايات الأمريكية. لكن بالمقابل يعتبر القانون السوداني ومشروع قانون العقوبات الفلسطيني القانونين العربيين الوحيدين اللذين جعلا من إجهاض المرأة المغتصبة عذرا قانونيا معفيا من العقوبة.[38]

الاتجاه الثالث: رأي وسط اعتبر إجهاض المرأة المغتصبة لجنينها عذرا قانونيا مخففا أو ظرف قضائيا مخففا، حيث أخذت بنظر الاعتبار الباعث على الإجهاض كما في عدة قوانين بالوضع في حساباتها سلفا الحالة النفسية التي قد تعانيها المرأة الحامل بجنين مجهول هوية والده، ومن ثم قدرت هذه التشريعات وضعية هذه المرأة هي وأسرتها وما قد ينتابها من مشاعر وأحاسيس معينة فكأنما قدمت لها طريقة ما للتخلص من ثمرة هذا الحمل غير الشرعي، إلا أن ما يؤخذ على هذه القوانين أنها سادت في الحكم بين المرأة الزانية والمرأة المغتصبة ومن ثم فقد سامحت المرأة الزانية مرتين، مرة على ارتكابها جريمة الزنا ومرة على إجهاضها لجنينها في حين أن المرأة المغتصبة لا حول لها ولا قوة عند اغتصابها، ولذلك كان تقديرا تشريعيا لمسامحتها عند إجهاضها لجنينها الذي هو ثمرة جريمة الاغتصاب.[39]

المبحث الثاني: الإجهاض لأسباب طبية

لقد عرفت التكنولوجيا الحديثة تطورا مهما في عصرنا خاصة ما يهم التقنية الطبية في تجارب التشخيص وجراحة العلاج، حيث لعبت دورا هاما في إسعاد البشرية وحل مشاكلها المرضية المستعصية، ومن بين هذه المعارف العلمية التدخل في جنس الجنين ومعرفة ما بداخل رحم الأم سواء كان ذكر أو أنثى، مع متابعة أطوار التخلق ونمو الحمل منذ لحظة الإخصاب إلى أن تتكون جميع أعضائه وتنفخ فيه الروح، الشيء الذي مكن من معرفة هل الجنين يوجد في صحة جيدة وفي خلقة سليمة الصورة والأعضاء، أم هو منقوص في أحد جوارحه أو دماغه وغيرها من العاهات البدنية وهو ما يسمى بالإعاقة الجنينية أو التشوه الجنيني، كما قد يكشف الفحص الطبي على الأم الحامل وجننيها على إصابة هذا الأخير بأحد الأمراض المعدية أو الجنسية الخطيرة التي تنتقل من الأم إلى حملها، إضافة لغيرها من الأمراض والتشوهات التي قد تصيب الجنين داخل الرحم وتجعله حملا غير مرغوب فيه لعذاباته ومعاناته النفسية والجسدية التي قد يعيشها هو وأسرته بعد ولادته، وكذا المصاريف المادية التي ستبدل عليه لعلاجه أو إعادة إدماجه لمواصلة درب الحياة وتقبله من طرف المجتمع، مما يتساءل معه عن الحكم الشرعي لإجهاضه لوجود حالة الضرورة الطبية والمصلحة الصحية لذلك.

وعليه فصّل مشروع القانون القاضي بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي المغربي رقم 10.16 لسنة 2016 هذه الحالات المتعلقة بالإجهاض لأسباب صحية وطبية بنص المادة الثانية والثالثة في الفصل (453) على أنه: “عدم المعاقبة على الإجهاض إذا كانت الفتاة الحامل مختلة عقلياً شريطة أن يقوم به طبيب في مستشفى عمومي أو مصحة معتمدة لذلك، وأن يتم قبل انقضاء تسعين يوماً على الحمل، وأن يتم بموافقة الزوج، أو أحد الأبوين إذا لم تكن متزوجة، أو النائب الشرعي إذا كانت قاصرة، أو الشخص أو المؤسسات المعهود لها برعايتها”. اضافة إلى “ضرورة إشعار مندوب وزارة الصحة في المنطقة أو الإقليم قبل إجراء عملية الإجهاض، وذلك بعد الإدلاء بما يفيد إصابة الحامل بالخلل العقلي أي الأمراض المعتبرة في حكم الخلل العقلي التي ستحدد بقرار للسلطات الحكومية المكلفة بالصحة بعد استطلاع الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء”. أما الحالة الثالثة في الفصل (3-453) فتنصّ على أنه: “لا يعاقب على الإجهاض إذا قام به طبيب في مستشفى عمومي أو مصحة معتمدة لذلك، في حالة ثبوت إصابة الجنين بأمراض جينية حادة أو تشوهات خلقية غير قابلة للعلاج وقت التشخيص، بواسطة شهادة تسلمها لجنة طبية يعينها وزير الصحة بكلّ جهة من الجهات، على أن يتم الإجهاض قبل مرور 120 يوماً من الحمل، وذلك طبقا للائحة الأمراض الجينية والتشوهات الخلقية المحددة بقرار السلطة الحكومية المكلفة بالصحة بعد استطلاع الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء، مع تحديده لأنواع الفحوصات الآلية والمخبرية التي يتعين إنجازها للتأكد من خطورة الأمراض والتشوهات”. وسنناقش هذه الحالات لإجهاض الحمل فيما يلي:

المطلب الأولى: حالة إجهاض الحمل المشوه

الأصل أن الله قد صور الخلق في الرحم في أحسن صورة وأسبغ عليهم نعمة الصحة والعافية، لكن قد يكتشف العلم الحديث بتقنيته الطبية المتطورة أن جنينا في رحم أمه مصاب بإعاقة أو تشوه خلقي، مما يدفعنا للتساؤل عن مدى إمكانية إباحة إجهاضه على ضوء الأخذ بالمقاصد الشرعية في ذلك.

الفقرة الأولى: تعريف الحمل المشوه وأنواعه وأسبابه

يعرف الحمل المشوه ذلك الجنين الحي الذي يوجد به بعض التشوهات الخلقية البسيطة أو الشديدة، سواء كانت هذه التشوهات خارجية ظاهرة أو داخلية غير ظاهرة بحيث لا تكون متلائمة مع الحياة الرحمية، وبالتالي لا تكتمل فترة الحمل أو قد لا يستطيع الطفل الحياة بعد الولادة أو تكتب له الحياة ولكن فيه هذه التشوهات الخلقية ليعيش بها كالإعاقة. كما تنقسم أسباب حدوث هذه التشوهات للحمل في جملتها إلى ثلاثة أقسام: الأولى هي الأسباب الوراثية التي تحدث نتيجة خلل في بعض الجينات، إما على شكل طفرة جينية أو عن طريق انتقاله في الجينات الوراثية التي يرثها الجنين من الآباء والأجداد، أما القسم الثاني فيخص الأسباب البيئية كنتيجة لتعرض الجنين في مراحل نموه المختلفة إلى مؤثرات خارجية تتعرض لها الأم الحامل وبالتالي الجنين في رحمها، مثل التعرض للإشعاع كالنووي أو الأشعة السينية أو الملوثات البيئية، وكذا تعاطي الكحوليات والمخدرات أو المضادات الحيوية، إضافة لنقص بعض الفيتامينات في غذاء الأم أو إصابتها بالالتهابات كالحصبة وغيرها، أما القسم الثالث فيخص الأسباب المتعددة أو المشتركة التي تجمع الأسباب البيئية والوراثية معا، بحيث يختلف تأثيرها باختلاف نسبة العوامل المتعددة بينهما. أما بخصوص أنواع تشوهات الحمل فيتوزع إلى ثلاثة أنواع: الأولى تهم التشوهات البسيطة التي لا تتعطل معها الحياة مثل ما يحدث للجنين من خلل في الأنزيمات وفي المناعة داخل الجسم أو نقص في نمو الدماغ وبالتالي يحدث التخلف العقلي، أما النوع الثاني من التشوهات فهي التي يمكن العلاج منها في ظل تطور الوسائل العلمية والطبية من جراحة ونحوها، بحيث تمكن من إزالتها أو التخفيف منها عقب الولادة مباشرة أو بعد فترة منها، كما يمكن لهذا النوع من التشوهات أن يعيش معها الجنين بعد الولادة كمن يولد بكلية واحدة، ومن الملاحظ على هذان النوعان من التشوهات أنهما لا يعتبران عذرا شرعيا مبيحا للإجهاض، عكس النوع الثالث من هذه التشوهات التي تصيب الحمل وتتميز بخطورتها وتعذر العلاج منها، كما قد لا يرجى للجنين معها حياة بعد الولادة وقد يموت كما في حالة رتق الحنجرة بحيث يكون فيها انسداد يمنع دخول الهواء إلى الرئتين، وغيرها من الأعراض الخطيرة المؤثرة في استمرار الحياة الطبيعية وقد تؤدي للوفاة،[40] وعلى العموم يبقى التحديد الطبي لنوع هذه التشوهات التي قد تصيب الحمل أمر مهم، لأنه المعيار في جواز الإجهاض من عدمه، لهذا تتعدد وسائل تشخيص التشوهات الخلقية التي قد تصيب الحمل، فقد تعود لمعرفة التاريخ الوراثي للأمراض في الأسرة، أو بمعرفة التاريخ المرضي للأم إن كانت قد أصيبت بأمراض قبل الحمل أو خلاله، كما يمكن تصوير الجنين بالأشعة السينية في أواخر الحمل وكذا لدراسة أبعاد الحوض لدى المرأة الحامل، إضافة للفحص بمنظار رؤية الجنين داخل الرحم أو بالموجات الصوتية حيث يعتمد هذا التشخيص على وجود الحمل في المراحل المبكرة وتحديد جنسه وعمره ونوعه، مع تحديد موقع المشيمة والمتابعة الصحية لنمو الجنين ووضعه في الرحم، وقد قطع المغرب شوطا مهما في هذا المجال المتعلق بتشخيص الحوامل ونقص وفاة الأجنة.[41]

الفقرة الثانية: الحكم الشرعي والقانوني لإجهاض الحمل المشوه

المعلوم أن الإجهاض الطبي هو المصرح به شرعا وقانونا، وهدفه الأساسي إنقاذ حياة المرأة من خطر الموت إذا استمر الحمل أو لأسباب أخرى توجب منع تطوره، لدا يحتاج هذا الأمر لطبيب أخصائي ذي كفاءة علمية وضمير أخلاقي يقدر الأخطار وحالات الضرورة، حيث بالرجوع للرأي السابق القائل بإباحة إسقاط الجنين قبل بلوغ أربعة أشهر، فإنه اشترطها لأغراض استشفائية ولحالات مرضية مكتشفة وميؤوس من علاجها، في حين ربط البعض أعمال الضرورة الطبية للإجهاض بضوابط تنطلق من عدة أسس منها: أن حياة النطفة والبويضة اللتين هما أصل الجنين غير محترمة ولا تعد قتلا اتفاقا وقياسا على الكائنات الدقيقة الأخرى، كما أن العلماء اتفقوا على حرمة الاعتداء على الجنين منذ نفخ الروح، وربطوا إجهاضه قبل ذلك بالمقاصد الشرعية ومراعاة حالة الضرورة المرجحة للمصلحة العامة على الخاصة، وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على حرمة إسقاط الجنين بعد أربعة أشهر فإنهم اختلفوا فيه قبل نفخ الروح، حيث مادام اكتشف مرض وراثي أو تشوه خلقي فيه أمكن أن يكون ذلك مرجحا لآراء المبيحين لإسقاط الجنين المشوه قبل نفخ الروح فيه، وذلك لأسباب نجمل بعضها في أن عموم النصوص الشرعية تحض على طلب القوة وتحري النسل الجيد وفي إجهاض الجنين المشوه معنى لذلك، كما أن البعض[42] يبيح الإسقاط إذا كان في استمراره حصول عاهة ظاهرة في جسد المرأة، قياسا على رأي الأحناف الذين يبيحون الإسقاط لأجل انقطاع حليب الأم عن ابنها الرضيع الذي ترضعه وهي حامل، لاسيما وأن الأصوليين ذكروا أن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج، والمنع من إسقاطه يوقع الأبوين في الحرج وهما ساعيان لتحقيق مصلحة تحصيل الولد، كما أن الجنين لا يعد قبل نفخ الروح إنسانا لأنه خال من الروح، وقد أشار إلى ذلك الكثير من الفقهاء[43] حتى الذين لا يرون حرمة الإسقاط من أول العلوق إذ عدوه مادة مجردة خالية من معنى النفس البشرية، وإن صح ذلك يكون التخلص من الحمل بإرادة الأبوين عملا مباحا يحقق مصلحتهم جميع، اعتبارا من أن التخلص من الجنين المشوه أو المصاب بمرض وراثي خطير هو بالنسبة إلى تقسيم المقاصد عند الأصوليين في مرتبة التحسين، الذي لم يعارض ما هو أقوى منه من الضروري كقتل النفس أو الحاجي كإيقاع المشقة بالأبوين والمجتمع، فإن إباحته تبقى مقررة عند الأصوليين مع الاشتراط في الإجهاض الطبي موافقة الزوجين وأن يكون تشخيص الإصابة بالمرض الوراثي الخطير أو التشوه الجنيني قطعيا وغير ظنيا، وأن يكون هذا المرض خطيرا وكبيرا بحيث يثبت الطب عدم إمكان شفائه لدرجة تشق معه الحياة، كما يجب أن تكون المنفعة المرجوة من إباحة الإجهاض أعظم أهمية من المصلحة المستفادة من منعه،[44] بالإضافة إلى شرط تقديم عمر الجنين المبني على أسس علمية دقيقة.

وعليه، فإن آراء الفقهاء في مسألة إجهاض الحمل المشوه نجدها قد انقسمت حسب حالتين: الأولى تهم حالة إجهاض الحمل المشوه قبل نفخ الروح فيه، حيث اختلف الفقهاء المعاصرون في حكمه  لاتجاهين، الأول يرى جواز إجهاض الحمل المشوه قبل نفخ الروح فيه استنادا لعدة أدلة منها قاعدة المصالح والمفاسد، فمما لاشك فيه أن الطفل إذا جاء إلى الدنيا مشوها كبيرا لا يمكن علاجه يسبب أهله كثير من الصعوبات والآلام، فضلا عما سيواجه من نظرة المجتمع إليه وما سيقابله من عنت ومشقة فيما يتعلق بنفسه أو بعلاقته بالناس، هذه الأمور لو قيست بضرر إجهاضه والفرض أنه لم ينفخ فيه الروح، فلاشك أنها ستزيد كثيرا وتصير هذه المفاسد عذرا مقبولا يبيح الإجهاض لزيادة مفاسدها على مفسدة الإجهاض، لاسيما وأن الجنين قبل نفخ الروح فيه لم يأخذ صفة الإنسان والنفس التي حرم الله قتلها إلا بحق، خاصة إن ثبت ثبوتا قطعيا دون ريب بالوسائل العلمية والتجريبية أن بالجنين عيوبا وراثية خطيرة لا تتلاءم مع الحياة العادية أو تسري بالوراثة في سلالة أسرته، أو أن الجنين سيصاب بتشوه بالغ مثل أن تتعرض الحامل للعلاج بالأشعة كالمداواة من سرطان عنق الرحم أو تعاطي عقاقير لعلاج الأورام الخبيثة التي قد تقتل الجنين أو تحدث فيه تشوها بالغا، ففي الحالات جميعا يجوز إسقاطه بالإجهاض ما دام لم تبلغ أيامه الرحمية مائة وعشرين يوما، وهذا ما ذهب إليه قرار لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي بالقول: “أما قبل مرور مائة وعشرين يوما على الحمل إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات، وبناء على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المختبرية، أن الجنين مشوه تشويها خطيرا غير قابل للعلاج، وأنه إذا بقي وولد في موعده ستكون حياته سيئة ومؤلمة عليه وعلى أهله، فعندئذ يجوز إسقاطه بناء على طلب الوالدين”.[45]  ويضيف الفقيه الأصولي أحمد الريسوني بالقول: “إذا تأكدت إصابة الجنين بعاهات وتشوهات بليغة لا علاج لها فإنه يجوز إسقاطه قبل تمام أربعة أشهر من الحمل، لكون جمهور الفقهاء يجيزون الإسقاط في هذه المرحلة للأعذار المعتبرة شرعا، أما بعد الأربعة أشهر فلا يجوز، لأنه يصبح نوعا من القتل للتخلص من المريض، وفي الإسلام لا يجوز أبدا قتل المرضى الميؤوس من علاجهم، تخفيفا عنهم أو عن ذويهم، وهو ما يسمى بالقتل الرحيم”، وهذا رأي يؤيده بعض الفقه العاصر أمثال الشيخ القرضاوي والشيخ جاد الحق.[46] بالمقابل يرى الاتجاه الثاني تحريم إجهاض الحمل المشوه في أي مرحلة سواء قبل نفخ الروح أو بعدها، وذلك استنادا لعدة أدلة منها تحريم القرآن الكريم لقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، حيث يعتبر الحمل نفس محترمة لا يجوز قتلها إذ ليس من الحق قتل بريء لأنه سيولد مشوها، كما لا يعد من الأمور التي يحل بها دم امرئ مسلم لإقامة الحد أو القتل، وعليه يرى الدكتور عبد الله حسين باسلامة بكلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز السعودية، فيما يخص عدم جواز إجهاض الحمل المشوه أنه: “في ولادة مثل هذه الحالات المشوهة إنما موعظة وعبرة للمعافين، وأن قتلهم وإجهاضهم نظرة مادية صرفة لم تعر الأمور الدينية والمعنوية أي اهتمام، وأنه على الأسرة المسلمة أن تتحلى بالبصر وتحتسب ذلك عند الله”.[47] وعليه فرأي الاتجاه الأول هو الأكثر قبولا، على اعتبار أن جواز إجهاض الحمل المشوه قبل نفخ الروح فيه مصلحة أولى ودفع ضرر وخطر أكبر نظرا للصعوبات الكثيرة التي ستواجه الولد وأهله في المستقبل، على أنه وجب التقيد بالشروط والضوابط الشرعية في المسألة بإشراف قضائي مع الأخذ بخبرة أهل الاختصاص من الأطباء.

أما حالة إجهاض الحمل المشوه بعد نفخ الروح فيه: لقد اتفق الفقهاء على أنه يحرم إجهاض الجنين المشوه بعد نفخ الروح أي بعد مرور 120 يوم على الحمل من لحظة التلقيح، فلا يجوز إسقاطه إلا إذا كان استمراره في الرحم يفقد الأم حياتها،[48] وذلك استنادا لعموم النهي الوارد في كتاب الله وسنة رسوله (ﷺ) عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وهذه نفس قد اكتسبت الحياة وأصبح لها حكم نفس الآدميين المعصومين ولذا لو جني عليه في بطن أمه ثم سقط حيا ومات ففيه دية كاملة فإن سقط ميتا ففيه غرة لوجود شك في أن موته كان بسبب الاعتداء عليه، بالإضافة إلى أن الجنين بعد أن اكتسب الحياة وصار إنسانا فإن له الحق في بقائه حيا على أي حال يكون عليها ولا يجوز لأحد أن ينزع منه هذه الحياة التي وهبه الله إياها، وكم رأينا من مشوهين راضون بخلقتهم ويلاقون العطف والإحسان والاهتمام من ذويهم ومن الناس في مجتمع الإسلام الذي يحكمه التضامن والتكافل، إضافة إلى أن المعلوم هو حفظ النفس كإحدى الكليات الخمس التي أمر الشرع برعايتها، وبالتالي فإجهاض الجنين إضاعة لما أمرنا الله بحفظه ومخالفة للقبول بقدره على اعتبار أن الجنين المشوه لن يخرج عن هذا التصور الإلهي، وأنه خلقه بقدر ولحكمة يعلمها سبحانه قد يكون منها الاتعاظ والاعتبار، وعليه، إذا اكتشفت العيوب في الحمل بعد نفخ الروح، فإنه لا يجوز بأي حال من الأحوال إجهاضه بالرغم ما به من تشوهات لما تقدم من الأدلة على حرمة قتل النفس، وهذا ما قرره مجلس المجمع الفقهي الإسلامي[49] بالقول : “إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوما لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فمنذئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوها أم لا دفعا لأعظم الضررين”.

الرأي القانوني في مسألة إجهاض الحمل المشوه: حيث نجد تضارب في آراء الفقه القانوني في المسألة بحسب المرجعية المعتمدة في ذلك، مقابل ظهور السند القانوني الذي يطالب باحترام حق الحياة المطلق حتى أمام المخلوقات المعاقة أو المشوهة، على اعتبار أن هذا المسار القانوني ينسجم مع الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان ومع المبادئ الدستورية للدول، كما ينسجم مع ما أقرته هيئة الأمم المتحدة في 1989 عندما أعلنت التسوية بين الطفل السليم والمعوق في الرعاية والحقوق، إلا أن هذا التصريح لم يحظ بالقيمة القانونية لذلك ذهب المعلقون إلى أن تلك الإعلانات لا تساوي في ذاتها اعترافا بالشخصية الإنسانية المكتملة وإنما فقط تضمن حق المجيء إلى الحياة، فيكون أن واضعي القانون الجنائي المتشدد استلهموا نصوصه من مبادئ أخلاقية معينة يؤمن بها المجتمع ويأبى أن يمس بها الإنسان، فالمساس بالحياة ليس مستقبحا فقط من الديانات السماوية وإنما أيضا من الحقوق الإنسانية والتي تفرض نفسها أكثر فأكثر إلى درجة يصعب معها وضع حدود للحق الفردي. وباستعراضنا لرأي القانون فإنه يذهب للاعتراف للحمل ببعض الحقوق كالنسب والميراث والوصية، لكن يختلف في تأصيل ذلك بين اعتبارها استثناء من الأصل وبين اشتراط إثباتها بميلاد الجنين الذي تبقى شخصية معلقة على شرط ولادته حيا عند البعض، وعلى شرط فاسخ عند البعض الآخر،[50] ومع ذلك فإن جل القوانين تتشدد في منع أي اعتداء على حياة الجنين وسلامة جسده، في حين نجد بعضها يتساهل في إباحة إسقاط الجنين الذي ثبت أنه مشوه أو مصاب بمرض وراثي من دون تميز بين المراحل العمرية المختلفة للجنين.

 وبالرجوع لبعض القوانين الوضعية المقارنة المنظمة لإجهاض الحمل المشوه نجد في القوانين الغربية مثل التشريع الفرنسي الذي كان ينص على الإجهاض في الفصل 87 من قانون العائلة الصادر في 2 يوليوز 1939، ولم يسمح به إلا إذا أصبح الوسيلة الوحيدة للمحافظة على حياة الأم، كما أن الطبيب لا يمكنه القيام بهذه العملية إلا بعد أخذ رأي طبيب يختار أحدهما من لائحة الأطباء المحلفين لدى المحاكم المدنية ويشهد بأن حياة الأم لا يمكن أن تنقذ إلا بهذه الوسيلة، ثم صدر بعد ذلك في فرنسا قانون 7 يناير 1975 الذي أباح الإجهاض إذا أثبتت التحاليل أن الجنين يحمل إعاقة جسدية أو عقلية، كما نجد المشرع الفرنسي في المادة 162/12 من قانون الصحة العامة والمادة 317 من قانون العقوبات يبيح الإجهاض لإصابة الجنين بمرض وراثي خطير ممكن البرء منه، بغض النظر عن عمر الجنين، رغم أن فرنسا موقعة على الإعلان العالمي لحقوق الطفل لسنة 1989، ونفس الشيء ذهب إليه القانون الجنائي الألماني والدانماركي، إضافة للقانون النمساوي الذي حصر جواز إسقاط الجنين المشوه في الأشهر الثلاثة الأولى، بينما جعلها القانون الجنائي السويدي حتى الأسبوع الثامن عشر، إضافة لسماحه للإجهاض في حالة حمل زنى الأقارب والاغتصاب، أما القانون الأمريكي الصادر في سنة 1970 فقد أباح الإجهاض في خمسة عشرة ولاية، وجعل ضابط ذلك هو جواز الإسقاط حتى الوقت الذي يخرج فيه الجنين حيا بحيث يعود تقدير ذلك للأطباء، كما أصدر المشرع الصيني قانونا في عام 1987 يقضي بإباحة إسقاط الجنين المصاب بمرض وراثي، بل وقد يتعرض الأبوان للمساءلة القانونية في إنجاب هذا الطفل المشوه، ولا غرابة مادام أن الدولة هي التي ستتحمل أعباء هذا الطفل في المجتمعات الغربية خلاف المجتمعات الإسلامية العربية التي مازالت روابط الأسرة والرحم المسؤولة عن هذا الطفل، كما نجد قانون العقوبات البلغاري الصادر في عام 1951 قد انفرد بنص خاص على جريمة قتل الوليد المشوه الخلقة، وعاقب قاتله بالحرمان من الحرية لمدة سنة وهي أخف عقوبة ينص عليها في عقوبة القتل. لكن في المقابل فإن الأرقام الصحية والوقائع الاجتماعية ما زالت تشير إلى الموت الجماعي الذي يحدث في حق هؤلاء الأجنة الذين لا ذنب لهم سوى أنه قسم لهم القدر التشوه في خلقتهم، وقد تم كشف النقاب عن كون عدة مستشفيات في كندا منذ 1977 وكذلك في فرنسا وفي بريطانيا واليابان تمارس قتل الأجنة المشوهة والأطفال المعاقين بطرق لا تخلو من المكر كالحرمان من الغذاء، ورغم تعدد المواثيق الدولية المتعلقة بحماية الطفولة والأمومة فإن الفراغ التشريعي في حماية الأجنة المشوهة أدى إلى الاستعانة بالتبريرات التي تذهب إلى قتلهم خوفا من وجودهم في الحياة[51] وهم محرمون من الكرامة الآدمية في الخلقة والصورة، إضافة إلى التبريرات التي كانت ترمي إليها الدول الرأسمالية الليبرالية والتي ترى أن المشوهين عندما يصبحون في الوجود يشكلون عائقا ماديا سواء على الأسرة أو المجتمع الذي يوجدون فيه، ويذهب تبرير آخر إلى أن هذه الأجنة عندما تولد وهي تحمل عاهة أو إعاقة جسدية فإنهم غير مجددين، إلى درجة أن الخسائر التي يفرضونها أكثر لأنهم يستهلكون دون أن يعطوا شيئا، وهي تبريرات دفعت هؤلاء إلى القضاء على الأجنة المشوهة ووافقت بعض القوانين على سن تشريعات من أجل الإجهاض قبل الولادة.

مقال قد يهمك :   سمير أيت أرجدال:الحق في الصورة بين الخصوصية والكونية

أما القوانين العربية فلم تتناول بعمومها مشروعية إسقاط الجنين المشوه إلا في دولتين هما: الكويت الذي نص تشريعه المنظم لمهنة مزاولة الطب رقم 52 لسنة 1981 وبعده القرار الوزاري 55 لسنة 1984، على جواز إسقاط الحمل في الشهور الأربعة الأولى إذا كان الحمل يضر بصحة المرأة ضررا جسيما أو إذا ثبت أن الجنين سيولد مصابا بتشوه بدني أو قصور عقلي ووافق الزوجان على الإجهاض، وكذلك المشرع التونسي الذي أباح إسقاط الجنين المشوه في مادته 214 من الفقرة 4 من قانونه الجزائي، أما التشريع المصري فقد حوى فراغا تشريعيا من هذه الناحية، ويمكن الاستفادة من المادة 263 من قانون العقوبات التي تشدد في عقوبة الطبيب إذا أجهض حاملا من دون عذر، وكذا من نفس المادة 61 منه والتي ترفع المسؤولية عن الطبيب الذي أجهض حاملا لحالة الضرورة، حيث يؤيد بعض الفقه[52] جواز الإسقاط بشرط عدم تجاوز الحمل أربعة أشهر ومعللا الأمر بالمصلحة الاجتماعية، كما ذهبت إلى ذلك جل القوانين الجنائية العربية في منع الإجهاض إلا للضرورة الصحية،[53] كما أن أغلب القوانين والتيارات الفقهية التي تبنت الإجهاض كحل لمعضلة الحمل المشوه أو الطفل المعاق أو العليل لم تضع معيارا للإعاقات والعلل التي تبررها مما يطرح معه عدة إشكالات،[54] بالمقابل نجد من الاجتهاد الفقهي المغربي من يرى أنه: “إذا ولد الإنسان وعاش، أصبحت له كل الحقوق التي يحميها القانون وعلى رأسها حق الحياة، وقاتله يعاقب بهذا الوصف، وذلك حتى لو كان المقتول مشوه الخلقة أو مختل الشعور أو فاقدا بعض الأعضاء أو مصابا بمرض عضال لا يشفى”.[55] وعموما فإن العناية الدينية للحق في الحياة بالنسبة للأجنة المشوهة واضحة، وذلك على اعتبار أنهم أرواح أبدعها الله وصورها بالصورة التي شاء أن تكون، وهذا خلافا لما ينطوي عليه الوضع بالنسبة للنصوص القانونية الوضعية سواء العالمية أو الوطنية التي لا تهتم في غالب الأحيان بحياة الأجنة حيث تترك الأمر للقوانين الجنائية الداخلية لكل بلد، وغالبا ما تغيب الصرامة في حالة الاعتداء عمدا لإنهاء حياة الجنين المشوه.

المطلب الثاني: إجهاض الحمل المريض –بالسيدا نموذجا-

يعد حفظ النفس والنسل من أهم مقاصد الشرع الإسلامي حتى يولد الطفل سليما معافى يتمتع بالقوة الجسدية والعقلية والنفسية التي تأهله ليعيش حياة طبيعية كباقي البشر، ولتحقيق ذلك جعل الزواج الطريق الوحيد للإنجاب ضمن العلاقة الجنسية الشرعية، لكن الحياد عن هذا المنهاج الشرعي بإتباع الشهوات والفساد الأخلاقي جعل الكثير من الناس يهربون من مسؤولية الزواج ويختارون إقامة علاقات جنسية غير شرعية تعارض حكم الله وفطرته دون مراعاة للوازع الديني ولا لقيم الأسرة وأمن المجتمع، لدى ابتلي العاصون منهم بأمراض جنسية وتناسلية شتى أشدها فتكا داء نقصان المناعة المكتسبة البشري السيدا الذي لم يوجد له علاج نهائي لحد الآن، ومن طرق عدواه نجد انتقاله من الأم الحامل إلى جنينها في الرحم، مما يجعله ضحية للإصابة بالعدوى بسبب والديه كما قد يعد حملا غير مرغوب فيه يسعى للتخلص منه بالإجهاض أو الاعتداء على سلامته وحياته. وهنا نتساءل عن حكم إباحة إجهاضه كاستثناء للضرورة الشرعية كما في الأمراض الوراثية والخطيرة التي يتعذر معها إكمال الحياة أو العيش في سلام.

الفقرة الأولى: تعريف مرض السيدا وطرق انتقاله

يعرف مرض نقص المناعة المكتسبة أي انهيار المناعة الطبيعية لجسم الإنسان، بأنه مرض فيروسي يصيب الخلايا اللمفاوية المناعية فيعطل وظيفتها ونشاطها المقاوم لشتى الأمراض الميكروبية والفيروسية الأخرى ويؤدي إلى فقدان المناعة، لأن الفيروس يهاجم الخلايا اللمفاوية المسؤولة عن المناعة فإذا ضعف جهاز المناعة تناوشت الجسم الميكروبات الانتهازية التي تهاجم الجسم الضعيف المقاومة فتصرعه وتقضي عليه،[56] حيث تقدر حالات الوفاة من جراء مرض السيدا أكثر من 30 مليون وفاة وحوالي 40 مليون مصاب به حسب تقارير لمنظمة الصحة العالمية ويزداد عدد ضحاياه بشكل مستمر، وعلى الرغم من أن فيروس السيدا اكتشف قبل أكثر من 28 سنة، إلى أنه لا يوجد له الآن مصل واق ولم يكتشف بعد علاجه إلا بعض العقاقير التي تبقي المصابين به على قيد الحياة لفترات طويلة أو توقف تكاثر الفيروس مع منع انتقاله للجنين عند الحمل، إذ المعلوم أن طرق انتقاله محدودة منها الاتصال الجنسي غير المحمي خاصة في العلاقات غير الشرعية خارج نطاق الزواج كالزنا والشذوذ الجنسي، اللذان يشكلان نسبة 90% من حالات العدوى خاصة في الدول الغربية عن طريق الدم أو إفرازات الجهاز التناسلي للرجل والمرأة، أو عن طريق الأم المصابة إلى جنينها حيث تقول منظمة الصحة العالمية أن هناك ما يتجاوز مليون ونصف طفل حاملين للسيدا بهذه الطريقة منهم 75% من إفريقيا، وحوالي 10% من نسبة الحوامل المصابات بالمرض سينقله إلى أجنتهن في الأشهر الأخيرة من الحمل، وأن نسبة 30% ستصاب بالفيروس أثناء الولادة، وتقل النسبة التي قد تصاب في حالة الرضاعة والاتصال الحميم بين الأم ووليدها، كما تؤكد هذه المعلومات المعطيات الإحصائية الرسمية الوطنية والدولية.[57]

الفقرة الثانية: حكم إجهاض الحمل المريض بالسيدا

نتناول أحكامه من خلال حالتين: الأولى حالة إجهاض الحمل المصاب بالسيدا قبل نفخ الروح فيه، حيث اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم إجهاض الحمل المصاب بالسيدا قبل نفخ الروح فيه على اتجاهين، الأول[58] يرى جواز إجهاض هذا الجنين المريض بالسيدا وذلك لعدة أسباب، قد ترجع إلى أن الأم تسوء حالتها وتتدهور صحتها أثناء الحمل وفي هذا مسوغا لإجراء الإجهاض حرصا على الأصل، لكن يرد على ذلك بأن إجهاض هذا الحمل لم يؤدي إلى إنقاذ حياة الأم الحامل، فما دامت قد أصيبت بالمرض فالنهاية التي يسوق إليها محتومة سواء أجهضت أم استمرت في حملها، كما يستدل أصحاب هذا الرأي المجيز لإجهاض الجنين المريض هو اعتباره يحمل معه التعاسة لنفسه ولغيره منذ أن يكون بذرة ملقحة، لأنه يستقبل الحياة عليلا تفتك به فيروسات الداء فيجتمع على أمه بؤسها في نفسها لمرضها هي، ولتفطر قلبها حزنا وأسى على وليدها الذي تراه يتفرق ويحترق دون أن تملك لنفسها ولا له شيئا، وسوف تضطر أن تلاحق بنفسها وبوليدها الأطباء ذوي الاختصاص والمراكز الصحية المتخصصة مما سيكلفها ذلك جهدا مضنيا وأموالا طائلة، وقد يبوء سعيها بالفشل لأن الطب عاجز أن يضع لها ولوليدها خيرا بالنسبة لمرض فتاك كالسيدا الذي مآله محتوم، وعليه جواز إجهاض الجنين تعجيلا بنهاية سيلقاها لا محالة مع هذا المرض فضلا عما فيه من الرحمة من مكايدة آلام المرض إذا استبقي إلى ما بعد الولادة، لكن هذا المبرر مردود عند البعض على اعتبار أن الجنين وإن ولد حاملا للمرض فلن يعدم وسيلة لشفائه منه، فكم من الأمراض الذي كانت مستعصية الشفاء لكن بفضل تقدم مجال الطب في الأبحاث والتجارب ثم اكتشاف دواء العلاج منها أو إيقاف تطورها تخفيفا من أعراضها، كما في مرض السيدا حيث اكتشف دواء الأنترفيرون الذي يعمل كمادة قاتلة للفيروس المسبب للمرض ويساعد جهاز مناعة جسم المريض على المقاومة، إضافة لاكتشاف مركبات دوائية تمنع تكاثر الفيروس وتوقف فتكه بجسم المريض مؤقتا إضافة لما يصاحب ذلك تكالب باقي الأمراض الانتهازية الأخرى عليه، وبالتالي فإن هذه الاجتهادات وغيرها ترجح مصلحة الإبقاء على هذا الحمل لأن المرض الذي يصاب به مما يرجى الشفاء منه، ومن ثم فليس ثمة ضرورة لإجهاض الأم المريضة به حتى لا يولد جنينها حاملا له، وعلى فرض عدم وجود علاج له فإنه سيعيش ما شاء الله تعالى له، وإن مات فإنه سيموت قضاء وقدرا خير من قتله.

أما الاتجاه الثاني[59] من الفقه فإنه يرى عدم جواز إجهاض الحمل المصاب بالسيدا قبل نفخ الروح فيه، وذلك استنادا لعدة أدلة منها: أن إصابة الحمل بالمرض أو الخوف من تحقق ذلك لا يجيز العدوان على الجنين، لاسيما وأن نسبة الإصابة بالعدوى ليست عالية حيث لا تتجاوز ما بين 30% و45%، إضافة إلى أن إجهاض الجنين في هذه الحالة قد تعارضت فيه مفسدة التسبب في إسقاطه مع مصلحة البقاء عليه حفاظا على حقه في الحياة، وإذا استمر وخرج إلى الحياة تبقى هناك مفسدة علوق المرض في بدنه، وبين مصلحة بقائه في الحياة وعيشه بها وربما يطول به العمر ويزداد إيمانا وعملا صالحا، وفي ذلك قاعدة أصولية قائمة على أنه إذا اجتمعت مصلحة ومفسدة في عمل معين ولم يتمكن من تحصيل المصلحة ودرء المفسدة جميعا، وكانت المصلحة أعظم من المفسدة التي تقابلها قدمت المصلحة، كما يستدل أصحاب هذا الاتجاه على أن لهذا الحمل المريض حرمة، والنبي (ﷺ) قد قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة وليس هذا القضاء إلا تعبيرا عما للجنين من الحرمة، فكيف يقدم على القضاء على حياته بالإجهاض مع أن الأمر بمرضه لا يعدو أن يكون ظنيا، ولو كان قطعيا فذاك ابتلاء من الله لسبب اقترفه شخص غير مسؤول، وبالتالي لا جريرة على هذا الجنين بأن يقضى عليه بالإجهاض،[60] لاسيما وأنه من المحتمل عدم دقة الفحوص الطبية أو منع انتقال المرض من الأم إلى الحمل أو متابعة علاج مرض الجنين في مراحله الأولى حتى يتسنى له الشفاء. وهذا رأي أكثر رجاحة بأدلته التي تحمي الحمل من الإجهاض.

أما بخصوص حالة إجهاض الحمل المصاب بالسيدا بعد نفخ الروح فيه: فقد اتفق جمهور الفقهاء على أنه يحرم إجهاضه بمرور مائة وعشرين يوما من لحظة التلقيح، فلا يجوز إسقاطه إلا إذا كان استمراره في الرحم سيفقد الأم حياتها،[61] وذلك استنادا لعدة أدلة شرعة منها عموم النهي من كتاب الله وسنة رسوله (ﷺ) عن قتل النفس بغير حق، خاصة وأن نفس الحمل في هذه الحالة اكتسبت صفة الإنسانية بعد نفخ الروح فيها، وبالتالي لا ضرورة قاهرة تحتم إجهاضها لمجرد أنه حمل مريض يوجد في وضع غير مرغوب فيه، لأن إسقاطه بالاعتداء على حياته هو اعتراض على إرادة الله وحكمته في تقديره لهذا المرض عليه، وعبرة للاتعاظ خاصة في المجتمعات التي تعرف انحلال خلقيا وانحرافا سلوكيا في العلاقات غير الشرعية التي تؤدي إلى الحمل خارج مؤسسة الزواج، فتكون العقوبة بسبب ذلك قد أصابت حتى الأبرياء والأجنة في بطون أمهاتهم كضحايا لممارسات والديهم الشاذة عن قيم الدين والمجتمع، كما يعتبر البعض وجود مصلحة في الإبقاء على الحمل المصاب بالسيدا لتوقع إيجاد علاج نافع له مستقبلا خاصة مع تطور علاج الأمراض، وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي في إحدى قراراته[62] بحماية حق الحمل المصاب بالسيدا في الحياة وربط إجهاضه بالضرورة الطبية المعتبرة شرعيا.

في الختام نخلص لتوصيات مهمة، تخص الأمور التالية:

– التأكيد على الإجماع بأن الأصل في الحياة الإنسانية التي خلقها الله تعالى الحفظ والحماية خاصة الحياة الجنينية للحمل، ولا يجوز إجهاضه مطلقا إلا في حالة الضرورة القصوى التي يقدرها ويحكم بها أهل الاختصاص من الفقهاء وبتتبع من الأطباء، مع صدور أمر قضائي بذلك بعد دراسة ملف كل حالة تتطلب التدخل للإجهاض، بحيث تعطي فيها الأهمية والأولوية لأجل إنقاذ حياة الأم الحامل وذلك قبل نفخ الروح في جنينها بالإجماع، ولا يجوز التوسع فيه باعتباره قضية شأن عام تهم استقرار وأمن المجتمع إلا بقدر المصلحة وما يسمح به الاجتهاد، حسب ما ذهب إليه رأي المجلس العلمي الأعلى باعتباره صاحب سلطة الفتوى وأعلى هيئة دينية بالمغرب في بلاغ أصدرته أمانته العامة في 3 دجنبر 2019، استنادا للمقاصد الشرعية القائمة على جلب المصلحة ودفع المفسدة وحفظ النفس والنسل في المقام الأول.

– ضرورة وجود الضابط الشرعي للمصلحة المعتبرة دون التوسع فيه عند الأخذ بتوصيات وخلاصات الاستشارات الموسعة حول قضية الإجهاض، التي قدمتها اللجنة الملكية الوزارية المشتركة، لجلالة الملك بالدار البيضاء بتاريخ 15 ماي 2015، والتي انتهت إلى أن الأغلبية الساحقة تتجه إلى تجريم الإجهاض غير الشرعي، مع استثناء بعض حالاته من العقاب لوجود مبررات قاهرة. وبالتالي الدعوة للحفاظ على مكتسبات الإجماع الحكومي والحقوقي المغربي لخلاصات اللجنة الاستشارية الملكية حول قضية الإجهاض دون الرجوع لنقطة الصفر من جديد، والتي تبلورت في مشروع القانون رقم 10.16 القاضي بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي الذي يطرح التساؤل عن مصيره بعد أن كان في طور المناقشة للتصويت عليه منذ سنة 2016، وفجأة تسحبه الحكومة الجديدة في 8 نونبر 2021.

– معالجة مشكل الإجهاض لا يكفيه فتح نقاش مجتمعي يقوده أهل الاختصاص والاجتهاد من الفقهاء مع الانفتاح على جل المتدخلين من رجال القانون والقضاء وكذا هيئات الحكومة والمجتمع المدني، لأجل التوصل لقانون جامع يؤصل للحماية المكفولة للحمل ويحدد حالات التجريم والإباحة لإسقاطه للضرورة، بل يحتاج لمعالجته من جذوره من خلال الوقاية من أسبابه بالرجوع للقيم الأخلاقية والدينية السمحة والأعراف والتقاليد الأصيلة، إضافة لإعادة تفعيل دور الأسرة والمسجد والحي والمدرسة والجامعة وغيرهم…، بهدف توعية وتربية الجيل الصاعد على المثل العليا والمعرفة العلمية الصحيحة خاصة ما يهم التربية الأسرية والصحة الإنجابية والثقافة الجنسية الهادفة، لأجل تحصين المجتمع دينيا وأخلاقيا ومعرفيا من السلوكيات المنحرفة والسلبيات الدخيلة على قيمنا ومبادئنا مثل دعوات الإباحية الجنسية خارج مؤسسة الزواج بل والحمل منها، مما يناقض مقاصد الشرع في حماية الكليات الخمس وحماية النفس البشرية.


الهوامش:

(=) تم تحكيم هذا المقال من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون للدراسات والأبحاث القانونية.

[1] لقد اعتبر الدستور المغربي الجديد لسنة 2011، في فصله (32) أن: “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع”. مع إلزام الدولة على: “ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها”. وأكد الخطاب الملكي للبرلمان بتاريخ 10 أكتوبر 2003، على الدعوة لترسيخ مقومات أسرة مغربية وفية لقيمها وأصالتها ومنفتحة على عصرها تعكسه بوفاء مدونة الأسرة من خلال: “الجمع بين رفع الحيف عن النساء، وحماية حقوق الأطفال، وصيانة كرامة الرجل”.

[2] نصت مدونة الأسرة المغربية (قانون 70.03 الصادر بتنفيذه ظهير 3 فبراير 2004) في المادة 54 على أنه: “للأطفال على أبويهم الحقوق التالية: 1- حماية حياتهم وصحتهم منذ الحمل إلى حين بلوغ سن الرشد… 3- النسب والحضانة والنفقة، …. 5- اتخاذ كل التدابير الممكنة للنمو الطبيعي للأطفال بالحفاظ على سلامتهم الجسدية والنفسية والعناية بصحتهم وقاية وعلاجا…”. كما نص القانون الجنائي المغربي لسنة 1962 (ظهير 1.59.413) في الفصل 397 و449 على تجريم قتل طفل أو من أجهض أو حاول إجهاض امرأة حبلى أو يظن أنها كذلك برضاها أو بدونه.

+كما كرست الأحكام القضائية هذه الحماية مثل حكم المحكمة الابتدائية بآسفي (قسم قضاء الأسرة في الملف رقم:2020/1626/492، وتاريخ2021/01/28)، الذي قضى بعدم قبول طلب التطليق لكون الزوجة حامل واعتبره طلبا سابقا لأوانه، حيث جاء في حيثياته: “ولئن كان المقرر شرعا وقانونا أنه يجوز للزوج أن يطلق زوجته وهي حامل، إلا أنه واستحضارا لقدسية العلاقة الزوجية ومثانتها، وباعتبار أن اللجوء إلى حل ميثاق الزوجية بالطلاق أو التطليق لا يكون إلا استثناء وفي حدود الأخذ بقاعدة أخف الضررين، لما في ذلك من تفكيك للأسرة والإضرار بالأطفال عملا بالمادة 70 من مدونة الأسرة، ومراعاة لكون الطلاق أبغض الحلال إلى الله وصونا للحقوق المستقبلية للجنين المتمثلة في ضمان ازدياده في حضن وكنف أبوين يعيشان تحت سقف واحد، واستحضارا من المحكمة لمبدأ التطبيق العادل للقانون بدل التطبيق الحرفي له، وأمام تزاحم الضرر المزعوم من المدعي المبرر لطلبه التطليق مع الأضرار التي يمكن أن تلحق بالأسرة بالكامل جراء الاستجابة لطلبه، يبقى الطلب سابقا لأوانه ويقتضي التصريح بعدم قبوله في انتظار وضع المدعى عليها لحملها”.

[3] وفق المعطيات الإحصائية لوزارة العدل المغربية حول قضايا الإجهاض المعروضة على محاكم المملكة عن سنة 2018، ما مجموعه 33 قضية وما نتج عنه موت بلغ 4 قضايا، فيما سجلت جريمة قتل الوليد 8 قضايا جنائية، أما في مجال دراسة المجتمع المدني لواقع الإجهاض بالمغرب، فقد كشفت “الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري”، على أن 13% من وفيات الأمهات بالمغرب سببها الإجهاض، وأن ما بين 600 و800 امرأة مغربية تلجأ يوميا إلى الإجهاض السري غير الآمن، منها 200 حالة بطرق تقليدية، تهم حوالي 8 مليون و239 ألف امرأة مغربية تتراوح أعمارهن ما بين 15 و49 سنة، من بين هذا الرقم تمثل المتزوجات 52% والعازبات 42%، أما المطلقات والأرامل فلا يتجاوزن مجتمعات نسبة 6%، كما تشير المعطيات أن حوالي 112 أم تفارق الحياة أثناء الولادة من أصل 100 ألف امرأة، كما أن مبلغ عملية الإجهاض السري يصل ما بين 1500 وحتى 3000 درهم. (منشورات وندوات الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري + موقعها على الانترنت: www.amlac.org.ma).

+ أما المعطيات الإحصائية الدولية حول الإجهاض سنة 2019، أوردت تسجيل العالم 208 مليون حالة حمل كل سنة منها 89 مليون حالة للحمل غير المرغوب فيه أي بمعدل عالمي يقدر ب 38%، منها 46 مليون حالة حمل يتم إجهاضها بنسبة 20%، تتضمن 25 مليون حالة إجهاض غير آمن في ظروف غير صحية أكثرها سجل بإفريقيا بنسبة 29% من حالات الإجهاض (رتبة المغرب 8 عالميا ومن الأوائل عربيا). بالمقابل دعا المؤتمر الدولي للأمم المتحدة حول السكان والتنمية بالقاهرة سنة 1994 في الفقرة 5 من إعلانه على ضرورة عدم اعتبار الإجهاض وسيلة من وسائل تنظيم الأسرة أو للتخلص من الحمل غير المرغوب فيه، مع تمكين النساء الحوامل من خدمات الصحة الإنجابية والتربية الجنسية، كما نص الإعلان العالمي لحقوق الطفل لسنة 1969 على أنه: “يحتاج الطفل بسبب عدم نضجه عقليا وجسميا إلى حماية وعناية خاصة، وهو ما يتضمن الحماية القانونية الملائمة قبل وبعد الولادة”. ويضيف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948: “الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة، وهي أساس الحرية والعدل والسلام في العالم”.

+ world Health Organization, Unsafe Abortion: Global and Regional Estimates of the Incidence of Unsafe Abortion and Associated Mortality in 2000 Geneva, WHO, 2019. + www.who.int/mediacentre منظمة الصحة العالمية

+ للمزيد  راجع: تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان:  www.unfpa.org+ منشورات المكتب المرجعي للسكان: www.prb.org

[4] محمد سيف الدين السباعي: “الإجهاض بين الفقه والطب والقانون”، الطبعة الأولى 1977، دار النهضة العربية، القاهرة، ص: 11.

[5] محمود نجيب حسني: “جرائم الاعتداء على الأشخاص”، “شرح قانون العقوبات”، طبعة 1993م، دار النهضة العربية، القاهرة.، ص: 298.

+ يختلف تعريف الإجهاض عن جريمة القتل في محل الجناية، فالإجهاض جريمة إزهاق روح الجنين قبل المولد الطبيعي للولادة، في حين تستهدف جريمة القتل إزهاق روح إنسان مولود خارج الرحم، وتبعا لذلك تختلف نوعية الحماية التي يوفرها المشرع لكل من الجنين والإنسان وتختلف العقوبة في الشدة بين الجنين والإنسان، فجرائم القتل هي أشد قوة من جريمة الإجهاض، أنظر: علي الشيخ المبارك: “حماية الجنين في الشريعة والقانون”، الطبعة الأولى 2009م، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية.، ص: 174.

+ كما نجد الفقه الفرنسي يعرف الإجهاض بأنه: “إعمال وسيلة صناعية تؤدي إلى نتيجة معينة لا وجود للجريمة بدونها وهي طرد متحصل الحمل قبل أوان ولادته الطبيعي سواء خرج ميتا أو كان حيا ولكنه غير قابل للحياة”.

Garçon, E : “Code pénal annoté”, nouvelle édition refondue et mise à jour par marcel rouselet Maurice Patin, Marc Ancel, Paris, Recueil Sirey 1956, art 317 N°13.

+ بالمقابل يرى الأطباء التفريق بين الإجهاض والولادة المعجلة، لأن الحكم على الحياة أو عدمها بالنسبة للجنين أمر يختلف باختلاف الظروف الطبية، للمزيد راجع: محمد علي البار، “خلق الإنسان بين الطب والقرآن”، طبعة 1426هـ/2005م، الدار السعودية، جدة.، ص: 391.

[6] للإجهاض عدة دوافع منها: الأول يهم الدوافع الطبية الخاصة الأم، وفق مفهوم الصحة عند منظمة الصحة العالمية بأنها: “حالة من السلامة الجسمية والنفسية والاجتماعية الكاملة وليست مجرد حالة انتفاء المرض أو العجز”. أما النوع الثاني فيتعلق بالدوافع الطبية الخاصة بالجنين، حيث تهدف إلى منع انتشار الأمراض الوراثية ولتوقي ولادة أطفال ذوي عاهات جسمية أو عقلية. أما النوع الثالث فيخص الدوافع الإنسانية، حيث يمكن إباحة اللجوء للإجهاض في حالة الحمل الناتج عن الاغتصاب أو وقاع المجنونة أو القاصر كما في زنا المحارم بالإكراه والتهديد. أما النوع الرابع فيهم الدوافع الاجتماعية، كما في حالة كثرة عدد الأولاد وأثر ذلك على صحة الأم، أو للتقليل من عدد أطفال الأسرة وعجز الزوج عن الإعالة قد يصل للطلاق. أنظر: محمد إبراهيم النادي، “الإجهاض بين الحظر والإباحة “، الطبعة الأولى 2011م، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، ص: 30.

[7] للإجهاض صورتين أولها الإجهاض من قبل الحامل، وتتحقق هذه الصورة عندما تقوم المرأة الحامل بإجهاض نفسها عمدا بأية وسيلة من الوسائل، باعتبارها الفاعلة الأصلية والحمل هو المجني عليه لأن المرأة ترتكب فعل الإجهاض دون مساعدة من أحد، أما الصورة الثانية فتتمثل في إجهاض الغير للحامل، حيث قد تتعرض الأم الحامل لاعتداء أو عنف من الغير أو من ذي الصفة الخاصة للحامل يؤدي لإجهاض الجنين. + ومن أنواع الإجهاض نجد الإجهاض التلقائي أو الطبيعي غير الإرادي، هو الذي يحدث دون سبب ظاهر وينشأ عنه خروج الجنين من الرحم لعدم قدرته على النمو والاستمرار، ثم نجد الإجهاض الإرادي وهو إسقاط الجنين بعامل خارجي من قبل المرأة الحامل نفسها أو الطبيب أو الغير، سواء كان خطأ أم عمدا. للمزيد أنظر: منال مروان منجد، “الإجهاض في القانون الجنائي”، طبعة 2002م، دار النهضة العربية، القاهرة، ص:118.

[8] من التشريعات التي تبيح الإجهاض لأسباب اجتماعية أو اقتصادية نجد قانون الصحة العامة بفرنسا الصادر عام 1975 (المادة 162) يجيز الإجهاض المبكر بناء على طلب صريح وجاد من المرأة الحامل في حالة الضيق بشرط أن يكون الحمل في الأسابيع العشر الأولى وأن يحصل الإجهاض بمعرفة طبيب مختص وأن يكون في داخل مؤسسة عامة أو مرخص لها في هذا الشأن. كما أباح التشريع المجري والروسي لعام 1955 الإجهاض لأسباب اجتماعية واقتصادية كالزيادة في عدد أفراد الأسرة أو انفصال الزوجية، أما في بولونيا فيكفي لإجراء الإجهاض شهادة طبيب واحد يفيد بأن وضع المرأة الحامل من الجانب الاجتماعي في حالة صعبة، وهذه كلها أسباب اجتماعية واقتصادية واهية لا تأخذ بها التشريعات العربية ذات المرجعية الإسلامية لعدم توفر المبرر الشرعي لإباحة الإجهاض، كما أن حق الجنين مقدم على حق الأسرة، قال تعالى: }ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا{، الآية:31 من سورة الإسراء.

[9] عبد الرحمان الجزيري: “الفقه على المذاهب الأربعة”، الطبعة الثانية 2003، دار الكتب العلمية، بيروت، ج5، ص: 39.

[10] بالرجوع للمعطيات الإحصائية بالمغرب عن سنة 2018 حول واقع الاعتداءات الجنسية المختلفة في المجتمع ومنها زنا المحارم، نجد حوالي أزيد من 50% من حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال تمارس من طرف من يفترض بهم توفير الحماية لهم، كأقرب الناس إليهم من الوالدان والإخوة والأقارب…، حيث تصل نسبة الاعتداءات الجنسية على الأطفال التي يتم ارتكابها من طرف الجيران والأقارب إلى 42%، في حين تبلغ تلك الممارسة من طرف الآباء 8% والمربين 2%، كما أن ما نسبته 26 % من حالات العنف الجنسي المسجلة قد ينتج عنها حمل غير مرغوب فيه، فيما عرض 17 قضية متعلقة بزنا المحارم أمام القضاء. انظر منشورات: وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة https://social.gov.ma

+ إحصائيات على موقع وزارة العدل: https://www.justice.gov.ma

[11] قال الرسول (ﷺ) للغامدية بعد أن ثبت في حقها الحد: “اذهبي حتى تضعي، فلما وضعته جاءته، قال لها (ﷺ) اذهبي حتى ترضعيه، فلما أرضعته جاءته، فقال (ﷺ) اذهبي فاستودعيه، فاستودعته ثم جاءت فأمر بها فرجمت”. ذكره مالك في الموطأ، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، كتاب “الحدود”، باب “ما جاء في الرجم”، تحت رقم5، ص: 712.

[12] يذهب بعض علماء الشافعية لجواز إجهاض حمل الزنى بشرط قبل نفخ الروح حيث يقول الإمام الرملي: “لو كانت النطفة من زنى فقد يتخيل الجواز قبل نفخ الروح فلو تركت حتى نفخ فيها الروح فلا شك في التحريم”، (“نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج”، الطبعة الأولى 1993م، دار الكتب العلمية، بيروت، ج8، ص: 442)، عكس ما يرى فقهاء المالكية بقول الشيخ العدوي أنه: “لا يجوز للمرأة أن تفعل ما يسقط ما ببطنها من الجنين ولو من ماء زنا”. (حاشية الشيخ علي العدوي على مختصر خليل، منشورات دار صادر، بيروت، ج3، ص: 225).

[13] يوسف القرضاوي: “الحلال والحرام في الإسلام”، طبعة (24) لسنة 1421هـ/2000م، الناشر مكتبة وهبة، القاهرة، ص: 178.

+ فتوى له بخصوص إجهاض حمل الزنا على موقع إسلام أون لاين منشورة في 16 مارس 2003، أنظر: www.islamonline.net

[14] محمد سعيد رمضان البوطي: “تحديد النسل وقاية وعلاجا”، الطبعة الأولى 1994م، مكتبة الفارابي، دمشق، ص: 89.

[15] أحمد الريسوني: “الإجهاض بين الحق في الحياة والحق في القتل”، مقال منشور بجريدة المساء، عدد 1816 صادر 25 يوليوز 2012، ص: 12.

مقال قد يهمك :   مفهوم السعاية و نطاق تطبيق أحكامها بـيـن الفقه المالكي و القضاء المغربي.

[16] فتوى الشيخ فيصل مولوي عن المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء، صادرة بتاريخ 9 مارس 2002، منشورة على موقع إسلام أون لاين.

[17] من التشريعات التي تبيح الإجهاض نجد القانون الفرنسي، الذي أجازه في حالة الضيق التي توجد بها المرأة الحامل سفاحا ولكن بشرط إقرار ذلك من لجنة طبية وبناء على إقرار صريح من المرأة وأن يكون الحمل في الأسابيع العشر الأولى، أما بريطانيا فقد أباحت الإجهاض لإنقاذ حياة المرأة ولدوافع إنسانية، وبالمقابل نجد بعض القوانين العربية كالتشريع الجنائي العراقي (المادة 417) والأردني (المادة 324) والليبي (المادة 394) تجعل من فعل الإجهاض لحمل السفاح هو عذر مخفف للعقاب أو ظرفا قضائيا مخففا إذا قامت المرأة الحامل أو أحد من أقاربها بذلك حفاظا على الشرف، فيما يعتبر القانون الجنائي السوداني (المادة 135) وقانون العقوبات الفلسطيني (المادة 255) الوحيد بين اللذين اعتبر الحمل غير الشرعي عذرا قانونيا معفيا من العقوبة لكن إن كانت نتيجة اغتصاب وليس زنا، عكس القانون التركي والتونسي المبيح للإجهاض إطلاقا حسب الرغبة والضرورة الملجئة للأم الحامل. أنظر: حسن ربيع: “الإجهاض في نظر المشرع الجنائي”، الطبعة الأولى 1995م، دار النهضة العربية، القاهرة، ص: 35.

[18]   قول الإمام مالك في المدونة: “في الرجل يغتصب امرأة أو يزني بمجنونة أو نائمة، قلت: أرأيت لو أن رجل غصب امرأة وزنى بصبية مثلها يجامع أو زنى بمجنونة أو أتى نائمة، أن يكون عليه الحد والصداق جمعيا في قول مالك؟ قال: قال مالك: في الغصب أن الحد والصداق يجتمعان على الرجل فأرى أن المجنونة التي لا تعقل والنائمة بمنزلة المغتصبة…”، “المدونة الكبرى”، مرجع سابق، ج4، ص: 509.

 + وجاء في المنتقى شرح الموطأ: “يقول الأمر عندنا في الرجل يغتصب المرأة بكرا كانت أو سيبا أنها إن كانت حرة فعليه صداق مثلها وإن كانت أمة فعليه ما نقص من ثمنها والعقوبة في ذلك على المغتصب ولا عقوبة على المغتصبة في ذلك كله”.(ج5، ص: 509)، وإن كانت باقي المذاهب يرون عقوبة الاغتصاب كالزنا بالجلد مائة للبكر والرجم للمحصن، فإن فقهاء المالكية اختلافهما لوجود العنف والإكراه في الاغتصاب ويشبهونه بجريمة الحرابة، وبالتالي تكون عقوبتها القتل أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي الذي قد يعوض بالسجن المؤبد في وقتنا.

[19] محمد الشحات: “جريمة اغتصاب الإناث في الفقه الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي”، مطبعة دار النهضة العربية للنشر، القاهرة، ص: 8.

[20] يوسف القرضاوي: “من هدي الإسلام، فتاوى معاصرة”، الطبعة الأولى 1413هـ/1993م، الناشر دار الوفاء، المنصورة، ج2، ص: 547.

[21] نصت مدونة الأسرة المغربية (الكتاب الثالث حول الولادة ونتائجها، قسم البنوة والنسب من المادة 142 إلى 148) على عدة مقتضيات تحمي بها حقوق الحمل الناتج عن الاغتصاب كالزنا، ومنها إقرارها بشرعية بنوة الأمومة في حالة الاغتصاب، كما تستوى البنوة للأم في الآثار التي تترتب عليها سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية، على عكس البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب التي لا يترتب عليها أي أثر من آثار البنوة الشرعية، إلا إذا ثبتت بنوة ولد مجهول النسب بالاستلحاق أو بحكم قضائي، حيث يصبح الولد شرعيا ويتبع أباه في نسبه ودينه ويتوارثان.

+ من أبرز التعديلات على القانون الجنائي المغربي (قانون 15.14 صادر بتنفيذه ظهير 20 فبراير 2014) حذف الفقرة 2 من الفصل 475 التي كانت تعفي المغتصب من المتابعة إلا بناء على شكوى من شخص له الحق في طلب إبطال الزواج، بعد النقاش المجتمعي الذي أثير بعد انتحار الفتاة القاصر أمينة الفيلالي بالعرائش في مارس 2012 عن عمر 16 سنة بعد تزويجها بمغتصبها، مما اعتبره البعض اغتصابا جديدا ومزدوجا للضحايا من القاصرين. كما أكدت إحصائيات وزراة العدل منشورة على موقعها الرسمي عن سنة 2018، تضاعف نسبة قضايا الاغتصاب في ظرف 10 سنوات، إذ تجاوزت الجرائم الماسة بنظام الأسرة والأخلاق العامة 307 ألف قضية بنسبة 11% من مجموع القضايا المسجلة بمحاكم المملكة، كما سجل زيادة في عدد الجنايات والجنح المرتكبة في قضايا العنف المعروضة على مختلف محاكم المملكة، فمثلا في العنف ضد الأطفال عرفت جريمة الاغتصاب تسجيل 467 قضية وهتك عرض قاصر بالعنف 1729 قضية، أما بخصوص العنف ضد المرأة فسجلت جريمة الاغتصاب 1008 قضية وهتك العرض بالعنف 485 قضية، فيما عرفت جريمة التحرش الجنسي تسجيل 129 قضية، وكلها أرقام مفزعة دفعت وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية إلى اقتراح مشروع قانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء والذي صودق عليه في20 يوليوز 2016.

+ وذهب الاجتهاد القضائي المغربي من خلال قرار لمحكمة النقض عدد 215 وتاريخ 26 أبريل 2011 في الملف الشرعي عدد 754/2/1/2009 (منشور بمجلة قضاء محكمة النقض عدد 74) إلى: “يعتبر النسب لحمة شرعية بين الأب وولده ولا ينال بالمحظور، وإذا كانت الخبرة القضائية حسب المادة 158 من مدونة الأسرة من وسائل إثبات النسب فإن المقصود النسب الشرعي الناشئ بعقد زواج صحيح أو فاسد أو باطل مع وجود حسن النية أو بشبهة الفعل أو العقد أو الحل، أما الاغتصاب فلا يعتبر سببا من أسباب لحوق النسب الشرعي لأن الحد والنسب لا يجتمعان”.

[22] بعض القوانين الجنائية التي اعتبرت إجهاض المرأة المغتصبة عذر قانوني مخفف كما في قوانين العقوبات لكل من الأردن وسوريا ولبنان وليبيا، في حين يعتبر ظرفا قضائيا مخفف في القانون العراقي، فيما أعطى قانون العقوبات السوداني والفلسطيني الحق للمرأة المغتصبة بأن تسقط جنينها، حيث تنص المادة (135) من القانون الجنائي السوداني على أنه: “يعد مرتكبا جريمة الإجهاض من يتسبب قصدا في إسقاط جنين لامرأة، إلا إذا حدث الإسقاط في أي من الحالات التالية: (ب) إذا كان الحبل نتيجة لجريمة اغتصاب ولم يبلغ تسعين ويما ورغبت المرأة في الإسقاط”. أما المادة (255) من مشروع قانون العقوبات الفلسطيني فتنص على أنه: “1- تعفى من العقاب المرأة التي تجهض نفسها من حمل سفاح وقع بدون رضاها”.

[23] لا يفرق القانون الجنائي المغربي في العقاب على جريمة الإجهاض بين الباعث هل هو من اغتصاب أم من سفاح، إذ هي جريمة عادية شأنها شأن باقي جرائم الإجهاض لها نفس الأحكام الفصول (449-455)، كما في قوانين العقوبات لمصر المادة 260-264، الكويت المواد 174-177.

[24] جاء في توصية للمؤتمر الدولي 9 لقانون العقوبات، المنعقد في لاهاي عام 1964، على أنه: “يجب الإكثار من عدد الحالات التي يباح فيها الإسقاط في الدول التي تعاقب عليه”. وهذا ما دفع بعض التشريعات إلى اعتبار إجهاض المرأة المغتصبة هو عذر قانوني معفي من العقوبة إن تحققت فيه شروط معينة، كما في القوانين الجنائية الغربية لكل من فرنسا وأمريكا وانجلترا.

[25] نجد بعض التشريعات الجنائية كالقانون الأردني والسوري والليبي لم يشترطوا لإجهاض المرأة المغتصبة الحامل تحقق رضاها ولا احترام رغبتها، فالفاعل يستفيد من حكم تحقيق العقوبة سواء أكان الإجهاض برضا وقبول المرأة المغتصبة الحامل أو بدون رضاها، وعن ذلك جاء في قرار لمحكمة النقض المصرية: “إن رضاء الحامل بالإسقاط لا يؤثر على قيام الجريمة ذلك أن للنفس البشرية حرمة ولا تستباح بالإباحة، ومن ثم فإن ذهاب المجني عليها برضاها إلى المحكوم عليه الأول ليجري لها عملية الإسقاط ووفاتها بسبب ذلك لا ينفي خطأ المحكوم عليه المذكور…”، الطعن رقم 1127 لسنة 40 ق، جلسة 27 دجنبر 1970، س21، ص: 1250، البند 2. منشورات التشريعات والاجتهادات المصرية. للمزيد راجع، شريف بدوي: “جنايات وجنح الضرب والإجهاض في ضوء الفقه وقضاء النقض”، الطبعة الأولى 1988، دار الثقافة، القاهرة، ص: 272.

[26] شرط دافع إجهاض حمل الاغتصاب للمحافظة على الشرف نصت عليه تشريعات جنائية مقارنة: المادة (324) من قانون العقوبات الأردني: “.. المرأة التي تجهض نفسها محافظة على شرفها”. والمادة (394) من قانون العقوبات الليبي: “صيانة لعرض الفاعل أو أحد ذوي قرباه”. والمادة (531) من قانون العقوبات السوري: “المرأة التي تجهض نفسها محافظة على شرفها”.

[27] خالفهم القانون الجنائي السوداني في المادة (135/1): “يعد مرتكبا جريمة الإجهاض من تسبب قصدا في إسقاط جنين لامرأة، إلا إذا حدث الإسقاط في أي من الحالات الآتية: “…ب- إذا كان الحبل نتيجة لجريمة اغتصاب ولم يبلغ تسعين يوما ورغبت المرأة في الإسقاط”. + وأكد مشروع تعديل القانون الجنائي المغربي رقم 10.16 لسنة 2016 اقترح إجهاض حمل الاغتصاب قبل انقضاء 90 يوما من الحمل.

[28] يؤيد هذا الرأي شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي، أنظر: جريدة العربية، الشرق الأوسط، العدد 10622، بتاريخ 28 دجنبر 2007.

[29] أخذ بهذا الرأي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، منشوراته في موقعه على الانترنت: https://www.e-cfr.org

وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: “إن ذلك جناية على موجود حاصل وله مراتب وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت جناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت تفاحشا ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا”. إحياء علوم الدين، الطبعة الثانية 1989م، دار الفكر، بيروت.، ج2 ص: 51.

[30] تبنى هذا الرأي مجمع البحوث الإسلامي في قراره رقم 84 الصادر في دورته 34 المنعقدة بتاريخ 6 ربيع الأول 1419هـ/30 يونيو 1998م، وكذلك مفتي مصر علي جمعة والشيخ يوسف القرضاوي (أنظر: مجلة الوعي الإسلامي في عددها 462 الصادر بتاريخ صفر 1425هـ/مارس 2004م، الكويت، ص:60). للمزيد راجع، سعد الدين مسعد هلالي: “إجهاض جنين الاغتصاب في ضوء أحكام الشريعة”، بحث منشور بمجلة كلية الشريعة والدراسات عن جامعة الكويت، العدد 41، صادر بتاريخ 21 ربيع الأول 1421هـ/يونيو 2000م، ص: 314.

[31] يوسف القرضاوي: “من هدي الإسلام –فتاوى معاصرة-“، مرجع سابق، ج2، ص: 610، والأصل في إصدار فتوى القرضاوي في مسألة إجهاض حمل الاغتصاب، كان في المؤتمر الإسلامي العالمي لرعاية حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك، في العاصمة زغرب بكرواتيا في 19 شتنبر 1992، حيث أجاب عن سؤال حول الفتيات اللواتي تعرضن للاغتصاب من قبل جنود الصرب ومصير حملهن.

[32] محمد سعيد رمضان البوطي: مرجع سابق، ص: 151.

[33] أحمد الريسوني:”الإجهاض بين الحق في الحياة والحق في القتل”، مقال بجريدة المساء، عدد 1816 وتاريخ 25 يوليوز 2012، ص: 12.

[34] الموسوعة الفقهية الميسرة، الطبعة الأولى 1421هـ/2000م، دار النفائس، بيروت، ج1، ص: 62.

[35] توفيق خير الدين: “قضية إجهاض جنين الاغتصاب وآثارها في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي”، الطبعة الأولى 2011م، مطابع شتات المجلة، دار الكتب القانونية، القاهرة، ص: 322.

[36] أنظر نص المواد (315-317) من قانون العقوبات القطري، والمواد (174-177) من قانون الجزاء الكويتي، والمواد (321-323) من قانون العقوبات البحريني، والمواد (260-264) من قانون العقوبات المصري، والمواد (420-429) من القانون الجزائي الموحد لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والمادتين (239-240) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني، والمادة (340) من قانون العقوبات الاتحادي الإماراتي، والمواد (467-476) من القانون الجزائي العربي الموحد.

[37] رؤوف عبيد: “جرائم الاعتداء على الأشخاص”، الطبعة الثانية 1985م، دار الفكر، القاهرة، ص: 230.

[38] أنظر نص الفقرة (1/ب) من المادة (135) من القانون الجنائي السوداني، والمادة (255) من مشروع قانون العقوبات الفلسطيني. كما سمح المشرع الجزائري سنة 2004 بإجهاض المغتصبات إن حدث حملهن من طرف إرهابيين. وكذا نصت الفقرة (3) من المادة (9) من قانون المشورة والتربية الجنسية والولادة والإجهاض الأيسلندي: “…إذا ما اغتصبت المرأة أو أصبحت حبلى نتيجة لفعل أو آخر معاقب عليه”، والفقرة (7) من المادة (1) من القانون رقم (50) لسنة 1975 النرويجي المتعلق بإنهاء الحمل: “إذا ما أصبحت المرأة حبلى بمقتضى الحالات المذكورة في الفصول (207-209) من قانون العقوبات أو أن الحمل كان ثمرة ظروف مغطاة بالفصول (192-199) من قانون العقوبات…”، وللإشارة فقد ظهر هذا الاتجاه على صعيد التشريع الجنائي بعد انعقاد المؤتمر الدولي التاسع لقانون العقوبات في مدينة لاهاي الهولندية سنة 1964 حيث تمخض المؤتمر عن إصدار التوصية التالية: “يجب الإكثار من عدد الحالات التي يباح فيها الإجهاض في الدول التي تعاقب عليه”.

[39] حيث نصت المادة (545) من قانون العقوبات اللبناني: “تستفيد من عذر مخفف المرأة التي تطرح نفسها محافظة على شرفها كذلك يستفيد من العذر نفسه من ارتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادتين 542-543 للمحافظة على شرف إحدى فروعه أو قريباته حتى الدرجة الثانية”، والمادة (394) من قانون العقوبات الليبي: “إذا ارتكب فعل من الأفعال المنصوص عليها في المواد المتقدمة صيانة لعرض الفاعل أو أحد ذوي قرباه، تفرض العقوبات المبينة فيها مع تخفيضها بمقدار النصف”. والفقرة (4) من المادة (417) من قانون العقوبات العراقي نصت على أنه: “ويعد ظرفا قضائيا مخففا إجهاض المرأة نفسها اتقاء للعار إذا كانت قد حملت سفاحا، وكذلك الأمر في هذه الحالة بالنسبة لمن أجهضها من أقربائها إلى الدرجة الثانية”، والمادة (324) من قانون العقوبات الأردني: “تستفيد من عذر مخفف المرأة التي تجهض نفسها محافظة على شرفها ويستفيد كذلك من العذر نفسه من ارتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادتين 322-323 للمحافظة على شرف إحدى فروعه أو قريباته حتى الدرجة الثالثة”، كما أكدت على نفس هذه المقتضيات القانونية كل من المادة (551) من قانون العقوبات الإيطالي وغيرها من التشريعات الجنائية المقارنة.

[40] مسفر بن علي القحطاني: “إجهاض الجنين المشوه”، بحث منشور ضمن مؤتمر “الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون”، المنظم من طرف جامعة الإمارات العربية المتحدة، في الفترة الممتدة من 22-24 صفر 1423هـ/5-7 ماي 2002م، منشورات المؤتمر، المجلد 1، ص: 364.

[41] واقع تشخيص التشوهات والإعاقات بالمغرب يسجل موت 12 ألف رضيع سنويا ويصاب 24 ألف آخرون من بين 600 ألف ولادة سنوية، بإعاقات وتشوهات تنفق أسرة كل واحد منهم حوالي 30 ألف درهم في السنة تكلفة الأدوية ورعاية الابن المعاق. و 700 أم تتوفى سنويا وتصاب 14 ألف أخرى بإعاقات تترتب عنها مآسي أسرية واجتماعية كثيرة، إضافة إلى أنه من بين 1775 امرأة تحبل يوميا في المغرب، تحتاج 266 منهن إلى تدخل ورعاية طبيين عاجلين، نظرا لأن أعلى نسبة لوفيات الأمهات أثناء الوضع تحدث في المنازل، إذ تتوفى حوالي 200 أم في السنة عندما يلدن في المنازل و50 حالة في المراكز والمستشفيات العمومية وكذا حالة واحدة سجلت بالمصحات الخاصة، كما تم تقليص نسبة الوفيات لدى الأمهات من 112 وفاة في كل 100 ألف في سنة 2013 إلى 50 وفاة كل 100 ألف في أفق سنة 2015، مع نقص 3/2 من نسبة وفيات الأطفال دون سن 5 سنوات خاصة المرضى منهم والتي تشكل نسبة 62% من نسبة وفيات الأطفال حديثي الولادة في المغرب، وهذا لا يتأتى تحقيقه كأهداف صحية خاصة بالأم والطفل، إلا بتحسين خدمات الصحة الإنجابية، أنظر: المعطيات الإحصائية لوزارة الصحة وجمعية “الحياة” المغربية.

[42] محمد البوطي: “تحديد النسل”، مرجع سابق، ص: 63. كما نجد أ أغلب الفقهاء يميلون لإباحة الحنين المشوه ومنهم الدكتور محمد الزحيلي والشيخ محمد الغزالي الذي اعتبر أن الجنين المشوه تشويها كبيرا يعوقه عن حياته الطبيعية يجوز إسقاطه في أي مرحلة من مراحل حياته الجنينية، كما أباح مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي إجهاضه في دورته 2 في مكة المكرمة بتاريخ 15 رجب 1410هـ،

[43]  جاء في بداية المجتهد لابن رشد (ج2، ص: 312): “واختلفوا في الخلقة التي توجب الغرة والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه”.

+ وفي المغني لابن قدامة (ج2، ص: 202) قوله: “وقبل ذلك –أي قبل نفخ الروح- فلا يكون نسمة فلا يصلي عليه، كالجمادات والدم”.

+ وفي المحلى لابن حزم، (ج11، ص: 33) حول إسقاط الجنين قوله: “لأن الجنين الذي لم ينفخ فيه الروح لم يقتل قط”.+ وفي حاشية ابن عابدين (ج3، ص: 176) قوله: “قال ابن وهبان ومن الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه”.

[44] راجع مداخلات محمد البار: “الجنين المشوه والأمراض الوراثية”، ومسفر القحطاني: “إسقاط الجنين المشوه”، منشورات مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، المنظم من طرف جامعة الإمارات، في الفترة 22-24 صفر 1423هـ/5-7 ماي 2002م، ص: 132.

[45] قرار لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، في دورته 12 المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة الممتدة من 15-22 رجب 1410هـ/10-17 فبراير 1990م، تجيز إجهاض الحمل المشوه قبل نفخ الروح للضرورة الطبية وبموافقة والديه (https://islamqa.info/ar).

[46] أحمد الريسوني: مرجع سابق، ص: 12. + كما يؤيد هذا الرأي من العلماء المعاصرين شيخ الأزهر السابق جاد الحق الذي بقوله: “إن الإجهاض قبل استكمال الجنين مئة وعشرين يوما رحميا يجوز عند الضرورة التي عبر عنها الفقهاء بالعذر، والمعيار هنا أن يثبت علميا وواقعيا خطورة ما بالجنين من عيوب وراثية، وأن هذه العيوب تدخل في النطاق المرضي الذي لا شفاء منه وأنها تنتقل منه إلى الذرية، أما العيوب الجسدية والتي من الممكن أن تتلاءم معها الحياة العادية فلا تعتبر عذرا شرعيا مبيحا للإجهاض، كما أنه متى أخذ الجنين خصائص الإنسان وصار نفسا من الأنفس التي حرم الله قتلها فإنه يحرم قتله بالإجهاض”. كتاب الفتاوي الإسلامية، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، المجلد 9، ص: 3105. كما نجد رأي الشيخ يوسف القرضاوي المؤيد لقضية إجهاض الجنين المشوه، في كتابه: “الحلال والحرام في الإسلام”، مرجع سابق، ص: 166.

[47] عبد الله حسين باسلامة: “الجنين المشوه والأمراض الوراثية”، الطبعة الأولى، دار القلم، دمشق، ص:490.

[48] وفي ذلك يقول الدكتور محمد البار: “ولا أعلم أن هناك من الأمراض ما يجعل هلاك الأم محققا إذا هي استمرت في الحمل إلا حالة واحدة هي تسمم الحمل، وحتى في هذه الحالة لا يحتاج الطبيب إلى قتل الجنين بل إجراء الولادة قبل الموعد المحدد إما بحقن الأم بمادة الأكسيتوس أو البروستاجلاندين أو بإرجاء عملية قيصرية، وأغلب الحالات تسلم ويسلم ولديها”. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، مرجع سابق، ص: 44.

[49] قرار المجمع الفقهي الإسلامي: موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة، الطبعة الأولى 1421هـ/2000م، دار النفائس، بيروت، ص: 701.

[50] رضا عبد الحليم: “الحماية القانونية للجين البشري”، الطبعة الأولى 1998م، دار النهضة العربية، القاهرة، ص: 65.

+ وللتذكير فقد عرف الفقه الجزائي الأوربي منذ القرن الثامن عشر مناقشات مذهلة حول شخصية هذا المشوه الذي كان يباح قتله، أما بالنسبة للمولود الغريب الشكل فلم يكتفوا بإباحة قتله بل حتى قتل أمه وإحراقها حية لاعتقادهم بأن هذا المولود ليس بشرا وإنما هو هجين من الإنسان والحيوان وثمرة لقاء محرم بين أمه والحيوان الذي يشبهه، وهي فكرة ما تزال تسيطر على بعض الأفكار في المجتمع.

[51] عبد الله أشركي أفقير: “الحق في الحياة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس أكدال، الرباط، السنة الجامعية 2000/2001م، ص: 70.

+ كما عرف القضاء الفرنسي حادثة جمعت بين صفة الجنين المشوه وصفة المولود المشوه ويمكن تلخيصها فيما يلي: “إنه في سنة 1982 عندما شعرت أم (المعاق الذي يسمى نيقولا) بأنها حامل، لاحظت وجود بقع صفراء على جسمها، ففكرت بالإجهاض حتى لا يكون حملها مصابا بالأمراض المعاقة، فعمدت إلى فعل تحاليل طبية، إلا أن المسؤولين ارتكبوا خطأ وزاد طبيبها الخاص أن شجعها على مواصلة حملها في فترة لم يمر على حملها سوى عشرة أسابيع في فترة يمكن أن تقوم بها بالإجهاض على حسب ما يسمح به القانون الفرنسي ودون أن يكون خطرا عليها. على الرغم من ذلك أنجبت (نقولا) مشوها فطالبت بدعوى على المسؤولين الذين ساهموا في استمرارية الحمل المشوه أمام المحاكم الفرنسية، فحكمت محكمة النقض الفرنسية لصالح الأم لأنه من الواجب إخبار الأم بالحالة المرضية حتى يمكن لها إجهاض ما في بطنها”. هذا الحكم الذي صدر بعد 17 سنة من الدعوى، وتم صدوره في 3 نونبر 2000، أثار جدلا مجتمعيا خاصة وأن المحكمة أخذت كذلك بالجانب الأخلاقي للقضية.

[52] أسامة القايد: “المسؤولية الجنائية للأطباء”، الطبعة الأولى 1990م، دار النهضة العربية، القاهرة، ص: 93.

[53] أنظر القوانين الجنائية العربية في فصولها: 306 الجزائري، 532 السوري، بمقابل سمح التشريع التركي والإيراني بإيقاف الحمل طبيا إذا تأكد تشوهه. + في الفصول الجنائية المغربية من 408 إلى 411 نلمس أن حماية العاجز أقوى من حماية الإنسان السليم إلى درجة أن المشرع شدد في العقوبات وأثبت أنه إذا كان لدى الجاني نية القتل فإن العقوبة تصبح الإعدام، وتزداد تضاعفا إذا كان الجاني أحد أصول الضحية أو له سلطة عليها أو مكلفا برعايتها، كما نص الفصل 453 على أنه: “لا عقاب على الإجهاض إذا استوجبته ضرورة إنقاذ حياة الأم من الخطر”.

[54] الإشكال عندما “يعلن الطب أن البول السكري والتهاب المفاصل الروماتزمي وتصلب الأنسجة وفقر الدم والسرطان والفصام…إلخ من الأمراض، إذا كانت جميعها ذات أصل وراثي كما أكدت أبحاث الجين، هل سيباح للإجهاض كلما أبانت التحاليل أن الجنين يحمل مؤشرات تدل على احتمال تعرض الوليد المستقبلي لتلك الأوهان في أية مرحلة من عمره، خاصة وأن الاكتشافات العلمية والتجارب الطبية تعمل على علاج كل الأمراض التي تصيب الجنين وهو ما زال قيد التكوين”. للمزيد أنظر، رجاء الناجي: “قتل الرأفة والخلاص –الأوثانازيا-“، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية الحقوق بالرباط، السنة الجامعية 1986/1987م. ص: 193.

[55] عبد الوهاب حومد: “القانون الجنائي المغربي، القسم الخاص”، الطبعة الأولى 1968، مكتبة التومي، ص: 71.

ويضيف الفقيه ذ.أحمد الخمليشي في شرحه للقانون الجنائي الخاص قوله: “فتحريم الإجهاض لم يقصد به حماية مجرد مكوث الجنين في مستقره الطبيعي إلى أن ينفصل عنه تلقائيا وطبيعيا، وإنما المقصود هو حياة الجنين وحماية سلامته الجسمية والصحية، فإذا خرج تام الخلقة سليما لم يتحقق الإجهاض، وإن تم إخراجه بوسائل اصطناعية قبل موعد المخاض الطبيعي ودون أن تستدعي ذلك ضرورة طبيعة لصالح الأم أو الجنين نفسه، كما تقوم الجريمة إذا ترتب على تصرف الفاعل ضرر أو موت الجنين ولو كان القصد إخراجه حيا”. (مطبعة المعارف 1986م، الرباط، ص: 184).

[56] محمد علي البار: “الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهية”، الطبعة الأولى 1996م، دار المنارة، جدة، ص: 10.

[57]  يقدر عدد المصابين المحتملين بفيروس السيدا في المغرب عن سنة 2019 ب21 ألف شخص أي كمؤشر ايجابي بانخفاض ب25 في المئة منذ حوالي 30 سنة على تسجيل أول اصابة بالسيدا بالمغرب، كما أن نسبة 77 في المئة متعايشين مع المرض بمقابل 23 في المئة يجهلون إصابتهم بالسيدا. احصائيات وزارة الصحة: www.sante.gov.ma + جمعية محاربة السيدا: www.alcs.ma. + أما دوليا فيعرف فاتح دجنبر تخليد اليوم العالمي لمكافحة “السيدا” الذي سجل مؤشر عدد الإصابات عبر العالم رقم 37,9 مليون مصاب بداء السيدا ومتعايش معه سنة 2019، منهم 23,3 مليون يخضعون للعلاج، و2,5 مليون طفل ما دون سن 15 سنة، وبلغ عدد المتوفون 770 ألف شخص، أما مجموع الإحصاء منذ ظهور هذا المرض بمختلف دول العالم فبلغ 74,9 مليون شخص مصاب فيما عدد المتوفين بسببه ناهز 32 مليون شخص. راجع منشورات وإحصائيات حول السيدا لكل من: منظمة الصحة العالمية: www.who.int/ar + الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة: www.ippf.org .

[58] من المؤيدين لإجهاض الحمل المصاب بالسيدا قبل نفخ الروح، نجد الدكتور محمد سليمان الأشقر في كتابه: “أبحاث اجتهادية في الفقه الطبي”، الطبعة الأولى 1422هـ/2001م، مؤسسة الرسالة للنشر، بيروت، ص: 45. وهذا ما أكدته كذلك الندوة الفقهية الطبية في دورتها السابعة، بفتواها بعمومية الجواز لوجود المصلحة ودفع الضرر، كما ذهبت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بالقول في تفصيل ضوابط مبررات إجهاض الحمل أنه: “إذا كان الحمل في الطور الأول وهي مدة الأربعين، وكان في إسقاطه مصلحة شرعية أو دفع ضرر متوقع جاز إسقاطه، أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقة في تربية أولاد أو خوفا من العجز عن تكاليف معيشتهم أو تعليمهم أو من أجل مستقبلهم أو اكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد فغير جائز”. فتوى صادرة تحت رقم 140، بتاريخ 20/06/1408هـ. + للمزيد أنظر موقع www.islamonline.net.

[59] من المؤيدين لعدم جواز إجهاض الحمل المصاب بالسيدا قبل نفخ الروح، نجد مجمع الفقه الإسلامي بجدة في قراره الذي صدر في دورة مؤتمره التاسع المنعقد بأبي ظبي الإمارتية في الفترة الممتدة من 1-6 ذي القعدة 1415هـ/1-6 أبريل 1995م، حيث جاء فيه: “بعد إطلاع المجمع على البحوث الواردة بخصوص موضوع مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) والأحكام المتعلقة به، والقرار رقم 82 (13/8)، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: “…ثالثا: إجهاض الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) نظرا لأن انتقال العدوى من الحامل المصابة بالمرض إلى جنينها لا تحدث غالبا إلا بعد تقدم الحمل –نفخ الروح في الجنين- أو أثناء الولادة، فلا يجوز إجهاض الجنين شرعا”. كما ذهبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء إلى القول: “لا يجوز إسقاط الحمل للخشية من الإصابة بالإيدز، لأن احتمال إصابته بعدوى فيروس الإيدز لا يسوغ إسقاطه”. أنظر: فتاوى اللجنة، جمع أحمد الدرويش، ط4/ 1424هـ-2003م، دار أولي النهى، القاهرة، ج19، ص: 332.

[60] عمر سليمان الأشقر: “الأحكام الشرعية لمرضى الإيدز”، بحث دراسات فقهية معاصرة، الطبعة الأولى 2001م، دار النفائس، بيروت، ص: 67.

[61] رضا عبد الحكيم إسماعيل رضوان: “إجهاض الأجنة في حالات مرض الإيدز في التشريع الإسلامي”، مقال منشور بمجلة منار الإسلام، العدد 365، صادر في جمادى الأولى 1426هـ/يونيو 2005م، ص: 28.

[62] قرار لمجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 90 (7/9)، بشأن مرض السيدا: “أولا: عزل المريض حيث إن المعلومات الطبية المتوافرة حاليا تؤكد أن العدوى بفيروس (الإيدز) لا تحدث عن طريق المعايشة أو الملامسة أو التنفس… وإنما تكون العدوى بصورة رئيسية منها الاتصال الجنسي بأي شكل كان، والانتقال من الأم المصابة إلى طفلها في أثناء الحمل والولادة…، وبناء على ما تقدم فإن عزل المصابين إذا لم تخش منه العدوى عن زملائهم غير واجب شرعا. + ثانيا: تعمد نقل العدوى بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) إلى السليم والمجتمع بأية صورة من صور التعمد عمل محرم، ويعد من كبائر الذنوب التي تستوجب العقوبة الدنيوية كنوع من الحرابة والإفساد في الأرض. + ثالثا: إجهاض الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب إلى جنينها لا تحدث غالبا إلا بعد تقدم الحمل بنفخ الروح أو أثناء الولادة، فلا يجوز إجهاض الجنين شرعا. + رابعا: حضانة الأم المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) لوليدها السليم وإرضاعه: لما كانت المعلومات الطبية الحاضرة تدل على أنه ليس هناك خطر مؤكد من حضانة الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب لوليدها السليم وإرضاعها له كالمعايشة العادية، فإنه لا مانع شرعا بقيام الأم بحضانته ورضاعته ما لم يمنع من ذلك تقرير طبي…”. منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد 8، ص: 7.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)