أثر انقضاء دعوى الزوجية على إثبات النسب: قراءة في ضوء أبرز الإجتهادات القضائية

إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية المتعلقة بالنفقة

تطور حدود المنفعة العامة لأجل نزع الملكية من زاوية القضاء  

13 أكتوبر 2019 - 12:04 ص المنبر القانوني
  • حجم الخط A+A-

محمد براد طالب باحث بسلك ماستر العقار و التعمير جامعة ابن زهر أكادير

تقديم :

تعتبر مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة مسطرة استثنائية ،اذ القاعدة انه لا يجوز حرمان أي احد من ملكيته الا في الأحوال و  الشروط المنصوص عليها في القانون، وهذا ما يجد سنده في الفصل 35 من الدستور المغربي، و بالتالي فان نزع الملكية لا تكون مشروعة الا اذا رامت تحقيق المنفعة العامة ، و التي تعلن بمقرر اداري يعين المنطقة التي يمكن نزع ملكيتها.

و ما دام ان المرسوم المعلن للمنفعة العامة يعتبر مقررا تنظيميا، فانه من المنطقي ان يهتم القضاء بمراقبة شرعيته من اجل ضمان احترام حقوق الافراد و صون حق الملكية الفردية ، و تتجلى هذه الحماية في بسط القانون الإداري لرقابته على مدى احترام الإدارة نازعة الملكية لمقتضيات قانون نزع الملكية، اذ في هذا الصدد كان للقضاء دور بارز في تحديد و رسم معالم و حدود المنفعة العامة كمدخل لنزع الملكية .

المطلب الأول : الرقابة الكلاسيكية لشرط المنفعة العامة

علق المشرع نزع الملكية على شرط المنفعة العامة ، الا انه لم يقم بتعريفها و بتحديد ضوابط معنية لها ، بل ترك للإدارة سلطة تقديرية ، ذلك ان مفهوم المنفعة العامة قد اصبح في الوقت الراهن فضفاضا جدا ، يتغير بتغير الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الدينية التي تعيش في ظلها او عليها الجماعة.

و قد وقف القضاء الإداري سواء في فرنسا او في مصر (فقرة أولى) او في المغرب (فقرة ثانية) في رقابته التقليدية للشرعية الداخلية لقرارات نزع الملكية للمنفعة العامة  عند فحص عيب انحراف السلطة  رغم ما يكتنف اثباته  من صعوبة ، لذلك كانت توصف هذه الرقابة بانها رقابة ضيقة و ضعيفة ، و ان سلطة القاضي الإداري بشان قرارات نزع الملكية سلطة محدودة تتمثل  في بحث ما اذا كانت الحالة محل نزع الملكية ترد ضمن الحالات التي أوردها القانون ، وما اذا كان من شان العملية تحقيق المنفعة العامة.

الفقرة الأولى : موقف القضاء المقارن من شرط المنفعة العامة

أولا : موقف القضاء الفرنسي

مر القضاء الفرنسي في مراقبته لشرط المنفعة العامة من ثلاث مراحل  تمسك خلالها بشرط المنفعة العامة باعتباره المبرر الوحيد لنزع الملكية ، و قد عرف هذا المفهوم تطورا كبيرا من جانب المشرع و وسع القضاء الإداري الفرنسي ، من سلطاته  في الرقابة على توافر او تخلف ” المنفعة العامة ” خلال هذه المراحل الثلاث.

المرحلة الأولى : في هذه المرحلة كان القضاء الاداري الفرنسي يقر بقيام المنفعة العامة المبررة لنزع الملكية مثال ذلك ( نزع الملكية للقيام بأشغال عامة كإقامة الطرق او الميادين العامة …) فهذه الاشغال هي التي كانت وحدها ، من جهة القضاء تبرر نزع الملكية ، ففي هذه المرحلة كانت  حالات نزع الملكية محدودة للغاية ، اذ كانت  تلخص لدى القضاء الفرنسي في فكرة الضرورة العامة ، لكن تماشيا مع المشرع الفرنسي حل القضاء  فكرة المنفعة العامة محل الضرورة العامة حتى تتمكن الإدارة من المضي قدما في تنفيذ الاعمال اللازمة لتحقيق المنفعة العامة في شتى المجالات الاجتماعية و الصحية و الاقتصادية  بل حتى الجمالية.

المرحلة الثانية :  الربط بين المرفق العام و المنفعة العامة فخلال هذه المرحلة توسع  المشرع الفرنسي في حالات نزع الملكية من اجل تحقيق المنفعة العامة ، فقد أجاز نزع الملكية من اجل حماية الصحة العامة او تحقيق اهداف اجتماعية ، بل أجاز نزع الملكية من اجل تجميل المدن.

و عليه فان الأنشطة التي تقوم بها المرافق العامة ، كانت تبرر استخدام نزع الملكية ، و بناء على ذلك قضى مجلس الدولة الفرنسي بصحة القرار الصادر بنزع الملكية من اجل إقامة معرض دائم او سوق مغطى او توسيع المعسكرات الصيفية او إقامة احدى دور الشباب.

الا ان اتساع تدخل الدولة  في الحياة اليومية و اتخاذها لأساليب اخرى غير المرفق العام لتحقيق المنفعة العامة ، و تطور نظرية المرفق العام و ما عرفته هذه النظرية من ازمة في تحديد نطاقها  و ابعادها ، جعل القضاء الفرنسي يتجه للبحث عن معيار جديد.

المرحلة الثالثة : فكرة المصلحة العامة

ففي هذه المرحلة عرف القضاء الفرنسي ، تطورا هائلا حيث في أحد قراراته انه ” يتوفر شرط المنفعة العامة المبررة لنزع الملكية حيث يكون هناك مصلحة عامة يستند اليها  قرار نزع الملكية ، ففي قضية (كامبييرو) كتب مفوض الحكومة يقول ” ليس من الضروري لتبرير نزع الملكية ، التمسك بنظرية المرفق العام ، يكفي توافر المصلحة العامة، لذلك فان القرار الصادر بنزع الملكية في القضية المذكورة ، من  اجل إقامة احد دور الشباب نظرا لما يحققه من مصلحة عامة يتوافر بالنسبة له شرط المنفعة العامة ، و بذلك لم يعد من الضروري ان يستند قرار نزع الملكية على نص صريح يقرر ان الهدف الذي يسعى القرار الى تحقيقه شرط ” المنفعة العامة” فهذا الشرط يعتبر متوافرا متى كان القصد من وراء القرار تحقيق المصلحة العامة ، و هذا الاتجاه الذي اخذ به القضاء الفرنسي في هذا السياق في هذه المرحلة يعتبر تمهيدا لتحول هائل سنناقشه في المطلب الموالي بعد الوقوف على موقف كلمن القضاء المصري و القضاء المغربي في هذا السياق

ثانيا : موقف القضاء المصري

قبل صدور الحكم الخاص بقضية “عزبة الخير الله” كان للقضاء الإداري المصري موقفا تقليديا  لا يختلف كثيرا عن موقف القضاء الإداري الفرنسي فيما يتعلق برقابة القضاء على قرارات نزع الملكية فقد كان القاضي الإداري المصري يقف برقابته عند مراقبة “مدى صحة الوقائع المادية ” دون الخوض في مدى تقدير ملاءمة القرار.

و باستقراء احكام القضاء الإداري في مصر تؤكد هذا الاتجاه فقد درجت احكامه ـ منذ زمن طويل ـ على التسليم بسلطة الإدارة التقديرية في تعزيز توافر منفعة لمشروع معين و ضرورة نزع ملكية عقار بعينه دون غيره لإقامة هذا المشروع .

فمناط نزع الملكية هو ان تتوافر في الواقع المنفعة العامة التي تدعيها الإدارة من وراء إقامة هذا المشروع و راي الإدارة في هذا المجال لا معقب عليه من طرف القضاء فلا يسمح لاحد بان يدعي ان ما تراه الإدارة محققا للنفع العام ، لا تحقق معه هذه المنفعة او ان العقارات التي اختارت الإدارة نزع ملكيتها او المسار الذي حددته لطريق ليس الخيار الأمثل و ان عقار او مسارا آخر كان سيحقق على نحو افضل المنفعة التي تدعيها الإدارة .

مقال قد يهمك :   الحماية القانونية والقضائية للمحضون: دراسة في ضوء شروط استحقاق الحضانة وأسباب سقوطها

و هكذا جاء في احد احكام القضاء الإداري المصري ان ما اشترطه القانون لجواز نزع الملكية هو ان تكون ثمة منفعة عامة يراد تحقيقها من وراء نزع الملكية  فكلما كان هناك نفع عام جاز نزع الملكية من اجل تحقيقه ، و ما دام  ان القانون قد اطلق مجال التقدير في هذا الشأن للسلطة التنفيذية فلا محل  للقول  بوجوب قصر  سلطة الحكومة في نزع الملكية على مشروعات النفع  العام التي تقوم بها الشركات او  الافراد  لان النص مطلق فكلما كان هناك منفعة عامة يراد تحقيقها جاز نزع الملكية و لوكان القائم بالمشروع فردا او شركة خاصة .

و ذهب مجلس الدولة المصري في بسط سلطة الإدارة التقديرية في  نزع الملكية الى حد ان أجاز للإدارة نزع ملكية الأرض رغم كونها موقوفة على البر لان الوقف لا يسمو على إجراءات نزع الملكية كلاهما مقرر ليتحقق النفع العام.

و ما تجدر الإشارة اليه في هذا الصدد هو ان ما تم طرحه سلفا لا يجعنا نغفل على ان القضاء الإداري كان برقابته لقرارات نزع الملكية ، يراقب كذلك ، الغاية التي كانت الإدارة تسعى الى تحقيقها و ان هذه الغاية ـ تحقيق المنفعة العامة ـ اذا تبين للقاضي ان  الإدارة تسعى الى تحقيق غاية لا تتوافر فيها صفة المنفعة العامة ، انما تستخدم قرار نزع الملكية لتحقيق غايات أخرى تتوافر فيها هذه الصفة ، فانه و مازال في اطار الرقابة على صحة الوقائع يقضي ببطلان القرار.

الفقرة الثانية : الرقابة التقليدية لشرط المنفعة العامة في القضاء المغربي

كان المجلس الأعلى يمتنع في بداية الامر عن مراقبة السلطة التقديرية للإدارة في اعلان المنفعة العامة ، مكتفيا بالتأكد من وجود المشروع الذي اقتضت المنفعة العامة إنجازه ، معلنا بذلك ان الادارة تملك ان تقرر بمنتهى الحرية .

أولا : المنفعة العامة التي تبرر لجوئها الى نزع الملكية لا يمكن مناقشتها في طبيعة المنفعة العامة التي تخول لها حق نزع الملكية ما دامت هذه المنفعة العامة تختلف باختلاف الظروف و الأحوال ، فانحصرت رقابة المجلس الأعلى في البداية في التأكد من اعلان المنفعة و من اقتران نزع الملكية بها ، حيث ان الإدارة معترف لها بالسلطة التقديرية في اختيار المنفعة ، فمنذ تأسيس المجلس الأعلى درج على التسليم بسلطة الإدارة التقديرية في تقرير توافر منفعة لمشروع معين ، و ضرورة نزع ملكية عقار  بعينه دون غيره لإقامة هذا المشروع ، فمناط نزع الملكية هو ان تتوافر في الواقع المنفعة العامة التي تدعيها الإدارة  من وراء  إقامة هذا المشروع ، و رأي الإدارة في هذا المجال لا معقب عليه من القضاء ، و من  القرارات الصادرة في هذا الشأن ما يلي :

ما ورد في قضية (تاك تاك عبد العزيز ضد رئيس مجلس الجماعة) “لكن حيث انه بإنشاء مرآب لناقلات الجماعة، تكون المنفعة العامة  التي يتطلبها القانون لتبرير نزع الملكية  متوفرة ، و لهذا فان القرار المطلوب الغاؤه لا يشوبه أي شطط” .

فالمجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا)  في هذا القرار تجاهل كل ادعاءات المنزوعة ملكيته من كون السكنى موضوع نزع الملكية توجد بالقرب من المجزرة ، الشيء الذي له  انعكاسات سلبية على سلامة الذبائح و على الاقتصاد الوطني ، و اكتفى فقط بالتأكد من ان إنشاء مرآب  في العقار المنزوع ملكيته لاستعمال كمستودع لناقلات الجماعة يحقق المنفعة العامة التي تطلبها القانون لتبرير نزع الملكية.

و ورد في حيثيات قرار ” حيث ان فكرة انشاء منطقة صناعية بمدينة مراكش ليس الهدف منها مجرد تجريد الخواص بمن فيهم الطاعنون من املاكهم ، و لكن جلب رؤوس أموال وطنية  قصد القيام بصناعات حيوية تعود على مدينة مراكش بالازدهار  مما يعني ان عناصر المصلحة العامة متوفرة و ان المرسوم المطعون فيه لا يتسم باي شطط في استعمال السلطة”

ثانيا : اختيار العقارات اللازمة للمشروع طالما ان الباعث على صدور القرار هو المنفعة العامة  سواء فيما يتعلق باختيار الموقع او القطع التي سيشملها المشروع ، فيما  يرجع لمساحة الأراضي الواجب نزع ملكيتها ، و من القرارات الصادرة في هذا الشأن عن المجلس الأعلى.

ما جاء في احدى حيثيات القرار ” حيث ان الإدارة تتوفر على سلطة تقديرية لتحديدها حاجياتها  فيما يرجع لمساحة الأراضي الواجب نزع ملكيتها لتحقيق المنفعة العامة المتوخاة من نزع الملكية ، الا اذا  ثبت ان هناك انحرافا في استعمال هذه السلطة كما اذا كانت الغاية الحقيقية للإدارة هي  حرمان بعض الملاك من أراضيهم عن طريق نزع الملكية دون ان يكون المشروع المزمع إنجازه في حاجة الى هذه الأراضي الشيء الذي لم يثبت في النازلة”

و دائما في نفس السياق حرص المجلس الأعلى على التأكيد بانه لا يمكن مقارنة المنجزات  التي تنوي الإدارة تحقيقها مع المشروع الذي يدعي الطاعن إنجازه على  قطعته الأرضية، فرغبة المنزوعة ملكيتهم في إقامة نفس المشاريع التي من اجلها تقرر نزع الملكية ، او مشاريع أخرى تحقق المنفعة العامة لا يكفي لإثبات انحراف السلطة النازعة ،وهو ما أكده المجلس الأعلى في مجموعة من القرارات.

و خلاصة القول ، ان القضاء المغربي في رقابته التقليدية على قرارات نزع الملكية لم يتجاوز فيها مراقبة الإدارة في قيامها بإجراءات اعلان نزع الملكية  للمنفعة العامة ، و لم تنصب على شرط المنفعة العامة ، و هكذا يتضح ان القضاء الإداري في المغرب يقف عند حد التأكد من صحة إجراءات  اعلان المنفعة العامة فقط دون ان يتجاوز ذلك الى الخوض في دائرة قيام شرط المنفعة العامة من عدمه

المطلب الثاني : التوجه الحديث للقاضي الإداري في الرقابة على شرط المنفعة العامة

مقال قد يهمك :   الأمـــن الــمـائي بــالـمغـرب

إن ازدياد الدور التدخلي للدولة بحيث أصبحت الدولة فاعلا حقيقيا يدافع عن المصالح الاقتصادية و المالية  ، كما ان قابلية مفهوم المنفعة العامة للتغير المستمر بهدف مواكبة تطور المجتمع و اتساع نطاقه جعل القضاء الفرنسي يسلك طريقا آخرا في بسط رقابته على شرط المنفعة العامة من خلال نظرية الموازنة (الفقرة الأولى ) التي لم تجد طريقها الى القضاء المغربي (الفقرة الثانية) الا في أواخر التسعينيات حيث كان القضاء المغربي وفيا للرقابة التقليدية.

الفقرة الأولى : نظرية الموازنة في القضاء المقارن

قبل التطرق الى التطبيق العملي لنظرية الموازنة من خلال قرارات القضاء الإداري (ثانيا) نحدد ماهية نظرية الموازنة (أولا)

أولا : ماهية نظرية الموازنة

لم يعر الفقه الإداري اهمية تذكر لتعريف نظرية الموازنة ، بل حتى الاحكام القضائية  لم تسهب في التعريف بهذه النظرية ، و يمكن ان  نعزو هذا القصور  الى الصبغة العملية التي تتصف بها هذه النظرية  و كذا اختلاف المعايير التي يستند اليها  القضاء لإعمالها باختلاف ظروف و ملابسات كل قضية.

فمثلا يشير مجلس الدولة الفرنسي في الحكم التأسيسي لنظرية الموازنة الى انه  ” لا يمكن تقرير المنفعة العامة لمشروع ما الا اذا كانت الاضرار على الملكية الخاصة و التكاليف المالية و اذى اقتضى الحال الاضرار الاجتماعية التي تضمنتها لم تكن مفرطة مراعاة للأهمية التي تقدمها “

و في هذا الصدد يذهب الأستاذ محمود سلامة جبر الى إعطاء تعريف لنظرية الموازنة اذ يقول ” تعني نظرية الموازنة أنه لتقدير شرعية مشروع او عملية ما و اعتبارها من المنفعة العامة يتعين معرفة ما تحققه من مزايا و فوائد  و الوقوف على ما ترتبه من اضرار و اعتداءات على الملكية الخاصة و ما تستلزمه من نفقات و تكاليف مالية مع الاخذ في الاعتبار الاضرار الاقتصادية و الاجتماعية للمشروع و إقامة موازنة بين هذه العناصر ، بحيث لا يمكن إقرار المشروع اذا جاءت الاضرار و الأعباء المترتبة عليه مفرطة بالنسبة للمزايا و المصلحة التي يحققها .

فقد عملت نظرية الموازنة على إعطاء طابع اخر لشرط المنفعة العامة بحيث تحول من مجرد شرط شكلي الى شرط موضوعي ، فلم تعد فكرة المنعة العامة فكرة مجردة ذات مضمون كلي ، بل أصبحت فكرة نوعية تقدر وفقا لظروف المشروع و ما يحققه من مزايا اقتصادية و اجتماعية تأخذ في الاعتبار الاضرار المترتبة عليه و ما يكلفه من أعباء مالية على نحو يقيم توازنا  بين هذه المزايا و الاضرار و التكاليف .

ثانيا : التطبيقات القضائية لنظرية الموازنة

  • في القضاء الفرنسي :

لقد سبق لمجلس الدولة الفرنسي ان طبق بعض عناصر نظرية الموازنة ، ففي احدى القضايا المشهورة بفرنسا اقر مجلس الدولة شرعية قرار نزع الملكية للمنفعة العامة لتوسيع حلقة لسباق الخيل لمجموعة قرى تطل على البحر لما يؤدي اليه من المساهمة في التنمية الاقتصادية و السياحية لقرى ” نيس” حيث شكلت ارهاصات أولية لحكمه المعروف باسم ” المدينة الشرقية الجديدة ” و الذي عمق فيه مجلس الدولة مراقبته للمنفعة العامة لأجل عملية نزع الملكية عن طريق تطوير نظرية الموازنة .

و تتلخص وقائع هذه القضية في انه في سنة 1966 قررت الحكومة الفرنسية انشاء تجمع سكاني جديد  شرق مدينة ليل يتضمن مركبا جامعيا و مدينة جديدة ، و هذا المشروع يغطي مساحة 500 هكتار و تصل كلفته الى مليار فرنك فرنسي و يتطلب نزع ملكية و تهديم حوالي 100 سكن.

و قد تم الإعلان عن المنفعة العامة لهذه العملية بموجب قرار مؤرخ في 03 ابريل 1968 ، فقامت جمعية بطرح هذا القرار على رقابة القضاء على أساس ان هدم مائة سكن يشكل ثمنا باهضا لإنجاز المشروع و بالتالي فهو ليس ذات منفعة عامة .

و في السابق كان القاضي الإداري يبحث فقط ما اذا كانت العملية بحد ذاتها ذات نفع عام دون النظر  الى مكان إقامة المشروع او مساوئه ، و قد أدى ذلك الاجتهاد القضائي الى اضعاف مراقبة القاضي ما دام ان عليه الاعتراف بطابع النفع العام لكل عملية تخدم المصلحة العامة ،

لكن بموجب هذا القرار أشار مجلس الدولة انه لا يمكن التصريح بان عملية ما هي ذات  نفع عام الا اذا كان المساس بالملكية  الفردية و الكلفة المالية و المضايقات الاجتماعية الناجمة عنها ليس مبالغا فيها بالنظر الى المصلحة العامة المرجوة منها.

و بهذا التفكير وضع مجلس الدولة الفرنسي موازنة بين مزايا المشروع و عيوبه ، سواء تعلق الامر بالكلفة  المالية او انعكاساته على المحيط او نتائجه على الملكية الفردية …

و في هذه القضية خلص المجلس الى ان هدم مائة سكن لا تنزع عن المشروع طابع النفع العام بالنظر الى أهمية المشروع ككل.

  • في القضاء المصري:

يمكن اعتبار الحكم الصادر في قضية “عزبة خير الله ” بداية الاتجاه الحديث لهذا القضاء ، و تتلخص وقائع هذا الحكم فيما يلي :

في ان محافظ القاهرة اصدر قرارا لصالح شركة ” المعادين للتنمية و التعمير ” يقضي بتسليم الأرض المملوكة للدولة المعروفة ” بعزبة خير الله ” بمنطقة دار السلام  ، و إزالة التعديلات على هذه  الأرض ، و هدم ما عليها من منشآت و مباني عندها ما يقارب عشرين الف مسكن و يقطن بها ما يقارب من خمسين الف نسمة ، و قد طعن اثنان من هؤلاء  السكان ، في قرار محافظ القاهرة ، و طلبا من القضاء الإداري بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه و في الموضوع بالغا ، هذا القرار  و اعتباره عديم الأثر و كأن لم يكن ، و ذلك لمجموعة من الأسباب من بينها

 ـ ان القرار يمس آلاف الكادحين الذين اقاموا مساكنهم من أموالهم الخاصة من عشرات السنين ، و يقيمون فيها بالكاد بما يحفظ كرامتهم و يلم شملهم ،

ـ ان قرار الازالة و التشريد المطعون فيه ولد معدوما لافتقاده شرط المصلحة  العامة اللازم لإصدار مثل هذا القرار ، اذ لا يعقل ان يتم تشريد عشرات الالاف  من الأرواح و هدم عشرات الالاف من المنازل بما يتناقض مع سياسة الدولة في التعمير و ذلك في سبيل إرضاء شركة لتقسيم الأراضي او مشروع استثماري  وفي عهد سيادة القانون.

مقال قد يهمك :   الجاذبية الترابية على ضوء القانون التنظيمي للجهات بالمغرب رقم 14-111

ونظرا لهذه الأسباب استجابت محكمة القضاء الإداري ، لطلب الطاعنين ، فأوقفت تنفيذ القرار المطعون فيه ، و هو ما لم يلق قبولا من جانب محافظة القاهرة ، و الشركة المستفيدة من القرار المطعون فيه ، فطعن كل منهما  في قرار محكمة القضاء الإداري امام المحكمة العليا ، فأصدرت حكمها بتاريخ 9/3/1991 الذي يقضي برفض الطعن .

فالحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري ، خالف المبادئ المستقرة ، في شان قرارات نزع الملكية ، انه لم يقف عند حد التأكد من توافر المنفعة العامة ، بل يلاحظ ان الإدارة تسعى الى تحقيق مصلحة (الحفاظ على أملاك الدولة) و لكن القاضي الإداري ، يبحث عن الاضرار التي قد تصيب  مصالح عامة أخرى ، و يقرر ان القرار  المطعون فيه يكون قد ضحى بوجه مصلحة عامة أخرى يتمثل فيما  سيلقاه عدد كبير من المواطنين من هدم منازلهم و تشريدهم و جعلهم دون مأوى يلجؤون اليه ، و انتهى الحكم الى الموازنة  بين وجهي المصلحة الحفاظ على أملاك الدولة ، وحماية  العدد الهائل من المواطنين من التشريد ، فرجح المصلحة  الثانية على الأولى ، مقدرا انها  أولى  بالعناية و احق بالتغليب.

الفقرة الثانية :رقابة القضاء المغربي على شرط المنفعة من خلال نظرية الموازنة

لم يكن القضاء المغربي في منأى عن التطور الذي عرفته مراقبة شرط المنفعة العامة في القضاء المقارن و لا سيما القضاء الفرنسي من خلال ما يعرف بنظرية الموازنة .

و يعتبر قرار المجلس الأعلى رقم 378 المؤرخ في 10 فبراير 1992 اول قرار شهير تمكن من خلاله القضاء المغربي بأحقيته في مراقبة مجال المنفعة العامة و مضمونها .

و تتلخص وقائع هذا الملف في ان شركة ” ميموزا ” حصلت على رخصة إدارية لإنجاز تجزئة سكنية و أنجزت الشطر الأول ، و بعد شروعها في انجاز الشطر الثاني صدر مرسوم بإعلان المنفعة العامة يقضي بإنجاز مشروع التنمية الحضرية لمدينة القنيطرة المتمثل في القضاء على مدن الصفيح و وضع التجهيزات الأساسية الضرورية فعمدت الشركة المذكورة الى الطعن في المرسوم متمسكة بدفوعاتها التالية :

ـ انها لم تبادر بإنجاز مشروعها الا بعد الحصول على ترخيص من الجهة المختصة

ـ و انها انهت الشطر الأول من المشروع و انفقت في ذلك أموالا ضخمة ، دون ان يصدر من الإدارة ما يفيد  رغبتها في إيقاف المشروع.

و غيرها من الدفوعات الأخرى .

و قد عللت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى قرارها بانه ” اذا كانت  الإدارة تتوفر على السلطة التقديرية بخصوص المنفعة العامة التي تسعى الى تحقيقها من وراء نزع الملكية ، فان ذلك  لا يمنع القضاء الإداري من مراقبة مضمون و أغراض المنفعة المذكورة ، و ما اذا كان المنزوع ملكيته كما هو  الحال في النازلة  يسعى الى تحقيق نفس الأغراض و الأهداف بموافقة الإدارة المسبقة لإنجاز هذا المشروع ، مما يعني ان الإدارة التي رخصت للطاعنة بتحقيق هذا المشروع و تركها تحقق جزءا منه و تنفق مبالغ مالية هامة لا يمكنها ان تسعى الى نزع الملكية للمنفعة العامة لتحقيق نفس الأغراض ،فإنها تكون مشتطة في استعمال السلطة.

و يعتبر القرار الصادر عن الغرفة الادارية  بالمجلس الأعلى سنة 1997 من بين اهم القرارات التي أسست لميلاد نظرية الموازنة بين المنافع و الاضرار في القضاء الإداري المغربي ، على ان تعبيرها بشكل صريح و أوضح عن اتجاهها الجديد هذا قد كان من خلال  القرار المذكور الذي جاء فيه بصريح العبارة

” وحيث ان الاتجاه الجديد في القضاء الإداري لا يكتفي  بالنظر الى تحقيق المنفعة العامة نظرة مجردة و انما تجاوز ذلك الى النظر فيما يعود به القرار من فائدة تحقق اكبر قدر من المصلحة العامة و ذلك عن طريق الموازنة بين الفوائد و التي يحققها  المشروع المزمع إنشاؤه و المصالح الخاصة التي سيمس بها ، و بالتالي تقييم قرار نزع الملكية على ضوء مزاياه و سلبياته و المقارنة بين المصالح المتعارضة للإدارة و الخواص المنزوع ملكيتهم ، كل ذلك في نطاق المشروعية  المخولة لقاضي الإلغاء.

فمبدأ الموازنة يبقى سلاحا مهما لحماية المشروعية ، و على القضاء الإداري ان يمارس من خلال وظيفته كقاضي للمشروعية دورا متعاظما في الحد من السلطة التقديرية المخولة للإدارة للحيلولة دون تحولها الى سلطة تعسفية ، و هو بذلك لن يقف في طريق الإدارة و انما سيقف في طريق انحرافها.  


    المراجع المعتمدة

  • هناء خزيبة ” رقابة القاضي لشرط المنفعة العامة في نزع الملكية ” رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص 2008/2009
  • رشيد بوسكري ” شرط المنعة العامة في مسطرة نزع الملكية بين سلطة القضاء و اكراهات الواقع ” مقال منشور بالموقع الالكتروني ( المجلة القانونية العربية)
  • سمير احيذار “قرار نزع الملكية في القانون العام المغربي ” أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام ” جامعة محمد الأول: وجدة 2004/2005
  • بنجلون عصام ” قضاء الموازنة و قرارات نزع الملكية للمنفعة العامة بالمغرب” مقال منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية يوليوزـ غشت عدد 75 2007
  • الدكتور سلامة محمود جبر ” نظرية الغلط البين في قضاء الإلغاء”
  • العربي محمد مياد “نزع الملكية لأجل المنفعة العامة على ضوء التشريع و احكام الدستور” الطبعة الأولى 2014 مطبعة الأمنية ـ الرباط
  • عزبة خير الله الصراع على الأرض “دراسة منشورة بالموقع الالكتروني التضامن

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)