رسالة المحاماة والتحول الرقمي: تحديات وآفاق

18 يونيو 2022 - 11:43 م مقالات , مقالات منوعة
  • حجم الخط A+A-

حسوني محمد أمين  محامي متمرن بهيئة وجدة

المقدمة العامة

«… لو لم أكن ملكا لفرنسا لوددت أن أكون محاميا في بوردو…»

هكذا عبر الملك الفرنسي لويس الرابع عشر عن عشقه لمهنة المحاماة واحترامه لها، وهذا أقوى دليل على مدى سمو ونبل وعظمة رسالة المحاماة … رسالة الدفاع عن الحق والحرية والعدالة.

فالمحاماة ليست كما يظن العامة بأنها مهنة كباقي المهن، وإنما هي رسالة إنسانية اجتماعية وأخلاقية خالدة عبر التاريخ من أهم وأعظم أهدافها وغاياتها ومقاصدها النبيلة الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته وتحقيق العدالة، وسيلتها في ذلك الالتزام التام بالأعراف والتقاليد والأخلاقيات المهنية التي منها تستمد سموها ونبلها ورفعتها وقوتها، هذه الأعراف والتقاليد التي توارثها المحامون عبر التاريخ جيلا بعد جيل إلى أن وصلت إلينا والتي واكبت جميع مراحل تطور رسالة الدفاع مع صمودها وحفاظها على جوهرها ومقاصدها، فهي قبل أن تصبح واجبا قانونيا مجسدا على أرض الواقع من خلال القانون المنظم للمهنة، كانت واجبا دينيا وأخلاقيا يحترمه ويقدسه جميع المحامين ويلتزمون به وبما جاءت به تلك الأعراف، التي تجد سندها الشرعي في القسم العظيم الذي يؤديه المحامي قبل مزاولته لمهامه والذي يعتبر ميلادا جديدا له وبداية حياة جديدة تسمو به وترفعه إلى أعلى المراتب المجتمعية.

إن أعراف وتقاليد رسالة المحاماة تعتبر دستورا عالميا للمحامين، وهي رغم عراقتها وقدمها قدم التاريخ البشري، فهي صالحة لكل زمان ومكان، مواكبة ومسايرة لتطور الإنسان، الذي عرفه الفلاسفة والمفكرين بأنه مدني بطبعه، يتأثر ويؤثر في المجتمع الذي يعيش فيه، وتطوره هذا أدى إلى اندلاع عدة ثورات غيرت مجرى التاريخ، فكانت أهمها وأكثرها تأثيرا هي الثورة الرقمية الهائلة التي ألغت الحواجز بين الأفراد والجماعات، وقربت المسافات، وجعلت العالم الكبير أشبه بقرية افتراضية صغيرة يعرف سكانها بعضهم البعض، بل وصلوا درجات من التعارف والتواصل كأنهم في مجلس واحد يتحدثون مع بعضهم البعض، صوتا وصورة وبشكل مباشر.

       ونظرا للدور الرئيسي والحيوي للمحاماة في تحقيق العدالة، فهي بذلك من أكثر المعنيين والمتأثرين بموضوع الرقمنة، وهذا الاهتمام لم يكن وليد اللحظة وإنما دعا إليه جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده منذ اعتلائه العرش من خلال الرسائل الملكية السامية الموجهة لأشغال المؤتمرات واللقاءات المرتبطة بقطاع العدالة، فكانت الدعوة الأولى إلى تحديث الوسائل التي يعتمد عليها المحامي في أداء مهامه، وتحكمه في التقنيات والآليات التكنولوجية المبتكرة وتمكنه منها من خلال الرسالة الملكية الموجهة إلى المحامين العرب أثناء افتتاح أشغال الدورة الثانية للمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب بتاريخ 20/11/2000 بالدار البيضاء والتي جاء فيها: «… كما أن كسب هذا الرهان الحيوي لن يتم إلا بتأمين الضمانات الأخلاقية للمهنة وأعرافها الأصيلة الملزمة والعمل على الرفع من مؤهلات ومستوى أداء المحامي لرسالته لا ليكون أكثر دراية بالمجال القانوني فقط ولكن ليكون أيضا فعالا في ممارسته متحكما في التقنيات الحديثة للمعرفة والاتصال متفتحا على الثقافة الإنسانية ملما بالأساليب المبتكرة في ميدان التسيير والتدبير لأن كل تفريط في هذه المقومات  من شأنه أن يرهن حرية المحامي واستقلاله والحال أن هذين الشرطين هما قوام رسالته وضمان نجاحه مهنيا …» وكذلك من خلال الرسالة الملكية السامية الموجهة للمؤتمر الدولي للعدالة في دورته الثانية بمراكش: «… وفي نفس السياق، ندعو لاستثمار ما توفره الوسائل التكنولوجية الحديثة من إمكانيات لنشر المعلومة القانونية والقضائية، والتقاضي عن بعد، باعتبارها وسائل فعالة تساهم في تحقيق السرعة والنجاعة، وذلك انسجاما مع متطلبات منازعات المال والأعمال مع الحرص على تقعيدها قانونيا، وانخراط كل مكونات منظومة العدالة في ورش التحول الرقمي…»

فكانت الأزمة التي عرفها العالم خلال بداية سنة 2020 المتمثلة في جائحة كورونا بمثابة ناقوس الخطر الذي تسبب في التسريع بإخراج هذا المشروع للوجود والتحول بقطاع العدالة من الممارسة التقليدية المحضة إلى عالم رقمي شبه افتراضي، فما هو إذن مفهوم هذا التحول الرقمي؟

ويمكن تحديد مفهوم التحول الرقمي على أنه مجمل التغيرات الثقافية والتنظيمية والعملية لمنظومة أو تنظيم ما وذلك بفضل القيام بإدماج ملائم للتطورات التكنولوجية التي أحدثتها «الثورة الرقمية» وهو يرتكز على المستخدمين وعلى القيمة التي تحملها إليهم هذه التطورات من خلال تحسين أداء المنظومات وإحداث قطائع هامة في النماذج الاقتصادية[1].

إن رسالة المحاماة منذ نشأتها وهي تدافع عن قواعدها وأعرافها وتقاليدها وتناضل من أجل حمايتها في مواجهة جميع التحديات التي عرفتها عبر مسارها التاريخي الطويل، إلا أن هذا لا يمنع من تطوير وتحديث أنظمة وقوانين المهنة شريطة أن يتم التوفيق بين الحداثة والتطور والحفاظ على أعراف وتقاليد المهنة وعدم المساس بها.

وهو المنطلق والطريق نحو طرح إشكالية رئيسية وجوهرية تتجلى في: مدى إمكانية الانتقال برسالة المحاماة من الممارسة التقليدية إلى الممارسة الرقمية مع عدم المساس والإخلال بأعراف وتقاليد وأخلاقيات المهنة؟

لتحليل ما جاء في هذه الإشكالية المركزية لابد من تقسيم هذا الموضوع إلى مبحثين:

الأول: التحول الرقمي للمحاماة أية حدود وتحديات

الثاني: رسالة المحاماة والرقمنة: أية آفاق

المبحث الأول: التحول الرقمي للمحاماة: أية حدود وتحديات؟

إن تحديث قطاع العدالة ورقمنته لا يمكنه أن يخلو من وجود تحديات تعيق إنزاله وتطبيقه (الفقرة الثانية) إلا أن هذه التحديات لا يمكن مواجهتها إلا بعد تحديد حدود هذه الرقمنة ومجال اشتغالها (الفقرة الأولى)

الفقرة الأولى: حدود رقمنة مهنة المحاماة

إن الحديث عن حدود رقمنة المحاماة يقتضي منا الانطلاق من التطورات الاقتصادية والسياسية التي عرفها العالم عقب نهاية الحرب الباردة ونهاية عهد الثنائية القطبية وبداية نظام عالمي جديد أدى إلى ظهور مفهوم جديد هو العولمة التي كانت سببا في نشوء اقتصاد عالمي موحد لا يعترف بالحدود الجغرافية والحواجز الجمركية، إلا أن هذا النظام الاقتصادي الجديد استلزم وجود عدالة متطورة وحديثة تواكب متطلبات العصر وتطوره، ما كان دافعا للانتقال من نظام العدالة التقليدية إلى العدالة الرقمية المعتمدة على تكنولوجيات المعلومات والاتصال الرقمي في تحقيق الولوج المستنير لمرفق العدالة وتسهيل التواصل بين مختلف الفاعلين في الميدان القانوني والقضائي، بإعفائهم من الحضور إلى المحكمة لتقديم مقالاتهم ومذكراتهم، والاكتفاء بالإيداع الإلكتروني أو توجيهها عبر البريد الإلكتروني المهني، وأداء المصاريف القضائية عبر وسائل الأداء الإلكتروني بمختلف أشكالها، ويتم قيد الدعوى إلكترونيا وتوجيه الاستدعاء عبر الوسائط الإلكترونية للطرف المدعى عليه الذي يقوم بالجواب بشكل إلكتروني.[2]

مقال قد يهمك :   قرار المحكمة العليا الإسبانية والبوليساريو..حقائق قضائية

وباعتبار المحامي فاعل رئيسي داخل منظومة العدالة، قامت وزارة العدل بمحاولة تطوير آليات اشتغاله، من خلال الانتقال به من الممارسة التقليدية لمهامه المنصوص عليها في المواد 30 و 32 من القانون رقم 28.08، إلى ممارسة رقمية عبر إحداث منصة رقمية تساعده على أداء مهامه ببساطة وسهولة، وهي عبارة عن بوابة الكترونية يتم الولوج إليها عبر شبكة الانترنت، غايتها توفير عدة وظائف للمحامي كتوقيع المقالات والوثائق المرفقة والمذكرات بطريقة الكترونية وإرسالها بشكل الكتروني، ويمكن للمحامي التوصل بكل ما يتعلق بالملف بطريقة الكترونية وإرسالها بشكل الكتروني، إضافة إلى إمكانية أداء الرسوم القضائية عبر البطاقة البنكية دون عناء التنقل إلى صندوق المحكمة ربحا للوقت والجهد.[3]

       ولكن من الناحية التشريعية والتنظيمية، فإنه على الرغم من أهمية هذه المنصة وما ستوفره من امتيازات وتسهيلات للمحامي، إلا أنه لم يتم تأطيرها وتنظيمها ضمن مقتضيات القانون الحالي المنظم للمهنة وكذا الأنظمة الداخلية للهيئات، وإنما سمح فقط للمحامي بالتوفر على موقع في وسائل الاتصال الالكترونية، دون تحديد نوعها، يشير فيه باقتضاب إلى نبذة عن حياته، ومساره الدراسي والمهني، وميادين اهتماماته القانونية وأبحاثه، في انسجام مع ما جاء ضمن مقتضيات المادة 30 من قانون المهنة، بعد حصوله على الإذن المسبق من السيد نقيب الهيئة المسجل بها بمضمون الموقع[4].

       إلا أننا عمليا وواقعيا، نلاحظ انقسام وتشتت المحامين بين من يفضل التواصل مع الزملاء والأصدقاء عبر الفضاء الأزرق، عبر إنشاء حسابات فايسبوكية وصفحات وقنوات على اليوتيوب، وبين من يفضل اللجوء إلى تقنية المكاتب الافتراضية؛ وهي فضاء رقمي يمكن المحامي من عرض سيرته الذاتية بطريقة مفصلة ومدققة، ونشر مقالاته وإنتاجه الفكري، كما يسمح له بإمكانية إعطاء الاستشارات القانونية، من خلال منصة الخبرات عبر الانترنت eConseilBook، وهي أول مجتمع افتراضي للخبرات، والذي ابتكر تقنية المكاتب الافتراضية للتواصل مع المهنيين في مجالات تخصصهم.[5]

       إضافة لما سبق نشير إلى الخطوة التي اتخذتها فيدرالية جمعيات المحامين الشباب بالمغرب في إطار خطتها الوطنية الهادفة إلى رقمنة مكاتب المحامين وتهيء مكاتبهم بما يتلاءم ومتطلبات استعمال الوسائط الإلكترونية، تمهيدا للانطلاق نحو مكاتب وتعاملات رقمية تتيح لمهنة المحاماة التطور، من خلال إحداث برنامج أطلق عليه إسم  Federal book  وهو أحد أعمدة خطة رقمنة مكاتب المحامين، بقصد مساعدتهم على تنظيم عملهم وتسييره بشكل جيد وسهل و مريح.[6]

وبالتالي من خلال مقارنتنا لما سبقت الإشارة إليه مع ما جاء ضمن الفقرة الرابعة من المادة 35 من قانون المهنة، سنلاحظ عدم تحديد المشرع لطبيعة هذا الموقع، وكيفية إنشائه أو استخدامه، وكذا ضوابط وحدود التعامل معه، نظرا لكون شبكة الانترنت عالم عميق وواسع ويتوفر على عدد هائل من الشبكات والمواقع الاجتماعية النافعة والضارة، وبالتالي كان على المشرع أن يكون أكثر دقة ووضوحا في تحديده لطبيعة هذا الموقع، وحدود التعامل معه، وما يلاحظ أيضا هو الإبقاء على نفس الصيغة في مشروع القانون المنظم للمهنة.

الفقرة الثانية: تحديات رقمنة مهنة المحاماة

       يعتبر الانتقال الرقمي رافعة أساسية لنمو وتطور البلاد، فهو من أولويات النموذج التنموي الجديد، إذ أصبح نقطة مهمة ضمن البرنامج الحكومي الهادف لإصلاح الإدارة المغربية وتسريع وتيرة رقمنة المؤسسات العمومية، ما أدى إلى إحداث وزارة منتدبة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة[7].

ونظرا لكون قطاع العدالة من أهم القطاعات المعنية بمشروع الرقمنة، واعتبارا لكون المحاماة فاعل أساسي ومهم في قطاع العدل، إذا لا يمكن تصور عدالة بدون محاماة، فإن انتقال المحاماة من الممارسة التقليدية إلى الرقمية يعتبر ضرورة ملحة ولبنة أساسية لاستكمال ورش التحول الرقمي، إلا أن هذا الانتقال الرقمي لازالت تواجهه عدة تحديات ندرج أهمها من خلال ما يلي:

فقد حدد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي التحديات التي تواجه مشروع المغرب الرقمي في 4 تحديات مهمة وأساسية في رأي قدمه في إطار المادة 6 من القانون التنظيمي رقم 128.12 في إطار إحالة ذاتية وهي كما يلي:

  • وجود فجوة رقمية حقيقية:

إن نجاح مشروع رقمنة العدالة يتطلب انخراط جميع الفاعلين في القطاع والمتعاملين معه وفي مقدمتهم المحامون في هذا التوجه الرقمي، إلا أن الواقع العملي يشير إلى وجود نقص ملاحظ في التجهيزات الضرورية من هواتف ذكية ولوحات الكترونية أو حواسيب حديثة ومتطورة؛ هذا من جهة.

ومن جهة أخرى يلاحظ كذلك نقص على مستوى الولوج؛ يتجلى بوضوح في الاستعمال الضعيف للانترنت الثابت، مقارنة مع التوجه العام نحو استعمال انترنت الجيل الرابع عبر الهاتف المحمول باعتبارها الأفضل على صعيد التغطية (93 %)

أكثر من ذلك، يلاحظ نقص على مستوى إتقان التعامل مع الأدوات الرقمية؛ وضعف في التمكن من استخدام التكنولوجيات والتقنيات الرقمية.

  • بطء على مستوى التحول الرقمي

كملاحظة عامة ومهمة، فإن الإدارة المغربية لازالت تعرف نوعا من البطء في مجال رقمنة الخدمات المقدمة لعموم المرتفقين، من خلال رقمنة جزئية فقط واستمرار الطابع المادي طاغيا على القطاع.

  • ضعف الحضور المؤسساتي في المشهد الرقمي:

وفيما يخص المحتوى المؤسساتي، فإن حضور الإدارات في المشهد الرقمي يبقى حضورا غير كاف، إذ أغلب الفاعلين في هذا القطاع لا يتوفرون على إستراتيجية واضحة للاتصال الرقمي، وغالبا ما يقدم الموقع الخاص بها معلومات أولية غير محينة، في ظل غياب مسؤولين خاصين مكلفين بنشر المحتوى، وغالبا ما يتم تحيينها عبر مبادرات خاصة أو فردية داخل المؤسسة[8].

  • ويبقى أهم تحدي يواجه الانتقال الرقمي هو بناء الثقة الرقمية :

فهذا المصطلح الثقة الرقمية digital trust يعني مدى ثقة المستخدمين بالأدوات الرقمية، وقد شاع استخدامه مع بداية التحول التكنولوجي السريع في العالم الذي فرضته جائحة كورونا، إلا أن الملاحظ هو ارتباط هذا المصطلح بمصطلح آخر لا يقل أهمية عنه، فالثقة دائما ما تكون مرتبطة بالأمن والأمان وتنعدم بانعدامهما، وهذا التحدي دفع جميع القطاعات والجهات الحكومية المعنية بتفعيل مخطط المغرب الرقمي إلى الأخذ بعين الاعتبار أربع قواعد أساسية لتحقيق عنصر الثقة :

  • مدى أمان ومصداقية البيئة الرقمية
  • جودة تجربة المستخدم الرقمية
  • مدى ثقة المستخدمين في بيئتهم الرقمية
  • مدى تفاعل المستخدمين الفعلي مع الأدوات الرقمية المتاحة لهم[9]
مقال قد يهمك :   محمد أمين بنعبد الله: من أجل العيش المشترك، حرية التعبير ليست مطلقة

وارتباطا بما سبق، فإن رسالة الدفاع تقوم منذ نشأتها على أعراف وتقاليد وأخلاقيات سامية ونبيلة هدفها حماية المحامي وصيانة سمعته وشرفه اللذان يعتبران رأسمال لامادي لا يمكن الاستغناء عنه، ومن أبرز الأعراف المرتبطة بهذا الموضوع والتي تتقاطع معه هي الالتزام بالسر المهني وكذلك التحلي بقيم الشرف والمروءة بالابتعاد عن السمسرة والإشهار وما شابه ذلك من الأفعال المنافية لقواعد المهنة والمسيئة لها، لذلك يبقى أصعب امتحان وتحدي يواجه المحامي وهو مقبل على الدخول لعالم رقمي مجهول المستقبل ولا يمكن توقع واحتمال مخاطره وسبل مواجهتها هو التوفيق بين تحديث وتطوير وسائل عمله ورقمنتها وبين احترامه لأعراف المهنة وتقاليدها والتزامه بها.

المطلب الثاني: رسالة المحاماة والرقمنة أية آفاق

موضوع الرقمنة هو بطبيعته موضوع متشعب وعميق لدراسته لابد من الإلمام بجميع المجالات والميادين حتى يتسنى لنا تحديد هفواته واستحضار آفاقه المستقبلية (الفقرة الثانية) لكن ذلك لن يتأتى لنا إلا بتحديد إيجابياته وسلبياته (الفقرة الأولى)

الفقرة الأولى: إيجابيات وسلبيات التحول الرقمي للمحاماة

التحول الرقمي للمحاماة لم يتم بين ليلة وضحاها وإنما مر بمراحل بدأت بالسماح بإحداث موقع الكتروني يكتفي من خلاله المحامي بالإشارة إلى سيرته الذاتية، وميادين اهتماماته القانونية وأبحاثه، ثم تطور وانتقل إلى ولوج عالم رقمي عميق أصبح فيه لكل محام حساب شخصي خاص به و صفحة رسمية أو موقع الكتروني بل هناك من أضحى يتوفر على قناة على اليوتيوب.

فأصبح التواصل بين المحامين مسألة جد سهلة، ومن إيجابياته أنه بنقرة زر يمكن لمحام في المغرب التحدث إلى محام في أمريكا أو آسيا صوتا وصورة، ومراسلته في بضع ثوان، عكس ما كان سابقا حيث كان يضطر إلى الانتظار عدة أسابيع للتوصل بالرد، أو انتظار ولوج زميله للمكتب للرد على مكالمة هاتفية أو رسالة مكتوبة.

فأصبح المحامون يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي، للاطلاع على مستجدات الساحة القانونية والاجتماعية والسياسية، واستخدامها وسيلة للتعبير عن آرائهم وأفكارهم الشخصية، فالمحامي يعتبر من أبرز وأقوى المدافعين عن حقوق الإنسان، فهو حر ومستقل ومن أسمى واجباته الدفاع عن حرية الرأي والتعبير وحمايتها[10]، مما جعلهم يجدون متنفسا للتعبير داخل هذا العالم الأزرق، فهو بمثابة سلطة رابعة تؤثر وتتأثر بما يحدث من أحداث محلية أو عالمية.

فاستخدام هذه الوسيلة لم يتوقف عن هذا الحد فحسب، وبذلك تعتبر أبرز سلبياته هو اعتبارها من طرف بعض المحامين مكتبا افتراضيا لإعطاء الآراء والفتاوى والاستشارات القانونية، مخالفا بذلك الأعراف والتقاليد المهنية، فهي قبل أن تكون قواعد قانونية ملزمة سندها التشريعي القانون المنظم للمهنة والأنظمة الداخلية للهيئات، هي في الأصل قواعد أخلاقية تسمو بالمهنة وممارسيها إلى أسمى وأعلى المراتب الاجتماعية، وسندها الشرعي هو القسم الذي يؤديه المحامي قبل بداية مسيرته المهنية النبيلة[11].

         إن إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من طرف المحامي سواء كان رسميا أو متمرنا، تعتبر مخالفة لقواعد المهنة وأعرافها وإخلالا بالمروءة والشرف وخطأ مهنيا يعرضه للمتابعة التأديبية من طرف مجلس الهيئة، ولو تعلق الأمر بأعمال خارجة عن النطاق المهني.[12]

فالجميع، يعلم أن من مهام المحامي، تقديم الاستشارة أو الفتوى القانونية، وهي أسمى وأهم وظائفه لما توفره للمواطن من طمأنينة على حقوقه ومصالح المادية والمعنوية، ولما ترفعه من لبس وغموض بخصوص نص قانوني يصعب على غير المتمكن من علوم القانون فهمه وتفسير مضامينه[13]، لذلك وضع المشرع مجموعة قواعد وضوابط تنظم عمل المحامي، عليه الالتزام بها أثناء تقديمه للاستشارات القانونية، حماية لسمعة المهنة، من خلال  تقديمها  بمكتبه وليس خارجه[14]، وهنا يمكننا تفسير معنى خارج المكتب بوسائل التواصل الاجتماعي، والمكاتب الافتراضية لما يوفرانه من علانية وتشهير بطالب الاستشارة.

         كما أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من طرف المحامي للقيام بالإشهار لمكتبه أو خدماته[15] أو لسمسرة الزبناء أو جلبهم يعتبر مخالفة مهنية خطيرة تعرضه للعقاب التأديبي إضافة إلى المسؤولية الجنائية.[16]

         فالمحامي الناجح، يجب أن يكون صادقا وأمينا، متشبعا بالقيم والمبادئ الإنسانية الرفيعة، لأنه مؤتمن على أسرار الناس، ولا يجوز له البوح بها بصفة مطلقة[17]، فهو يحافظ على سر موكله كمن يمسك بجمرة متوهجة داخل فمه[18]، وأي إخلال بهذا الواجب المهني والأخلاقي من خلال نشره لأسرار مكتبه عبر صفحته أو إعطائه لأمثلة من قضايا رائجة بمكتبه أثناء إعطائه لاستشارة عبر الانترنت أو إخلاله بسرية التحقيق والبحث وسرية المراسلات مع الزملاء[19] يعرضه للمتابعة التأديبية[20] بل وحتى المسؤولية المدنية والجنائية[21].

         إن مجلس الهيئة، بما له من صلاحيات في المجال التأديبي يملك سلطة رقابية على المحامي أثناء ممارسته لمهنته، من خلال وضع يده تلقائيا على كل إخلال بالنصوص القانونية والتنظيمية، أو قواعد وأعراف المهنة أو أي إخلال بالمروءة والشرف[22].

الفقرة الثانية: الآفاق المستقبلية لرقمنة رسالة الدفاع

تتجلى الآفاق المستقبلية سواء على المدى القريب أو البعيد لإنجاح مشروع رقمنة رسالة المحاماة على وجه الخصوص، من خلال عدة آليات وتدابير اقترحها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي على ضوء دراسات وأبحاث ميدانية وهي:

  • العمل على تمكين جميع المحامين من الولوج إلى الانترنت واستخدامها في عملهم عبر البرامج المرتبطة برقمنة مكاتب المحامين انسجاما مع ما جاء في التوجه الحكومي في هذا المجال باعتماد مخطط المغرب الرقمي وتحديد أجل لانجازه محدد في 3 سنوات.
  • تحديث الخدمات الإدارية عن طريق رقمنة جميع المساطر الإدارية والقضائية في إطار رقمنة المعاملات وإزالة الطابع المادي (dématérialisation).
  • في إطار الرؤية الرقمية الوطنية العمل على تكوين المحامين الجدد المتمرنين في مجال الرقمنة والتحول الرقمي ضمن برنامج تكوينهم المعتمد من طرف الهيئات في إطار ندوات التمرين، إضافة للتكوين المستمر للمحامين الرسميين في مجال العالم الرقمي للحد من الفجوة الرقمية ما بين الأجيال.

العمل على تقاسم المسؤوليات المتعلقة بسياسة التحول الرقمي على مستوى مختلف القطاعات الوزارية والهيئات واعتماد مقاربة أفقية (whole-of-government) ترتكز على التعاون والبناء المشترك لاعتماد نظام رقمي حداثي يستجيب لمتطلبات العصر وينسجم مع جوهر أعراف وتقاليد المهنة[23].

مقال قد يهمك :   التخليق و إصلاح منظومة العدالة-مقاربة في الأهداف و الآليات-

الخاتمة العامة

تعتبر الأخلاق، شرط أساسي لولوج مهنة المحاماة، فهي ليست كباقي المهن، وإنما هي رسالة إنسانية غايتها الدفاع عن الحقوق والحريات ونشر قيم العدالة والإنصاف، وسيلتها في ذلك التحلي بالأخلاق الحميدة والترفع عن كل ما يسيء إلى المهنة وأعضائها.

فهذه الأعراف والتقاليد، هي قواعد أخلاقية توارثها المحامون عن أسلافهم، جيلا بعد جيل، والتي واكبت وسايرت تطور رسالة الدفاع، إلى أن أصبحت قواعد قانونية آمرة نتيجة لتقنين مهنة المحاماة.

إن تخليق رسالة المحاماة، يقتضي الحرص على احترام المحامين للأعراف والتقاليد المهنية، وهذا الاحترام نابع أولا وقبل كل شيء من التربية الأخلاقية السليمة التي يتلقاها المحامي داخل بيته، لذلك كانت مجالس الهيئات أشد حرصا على اختيار من يتحلى بالأخلاق الحميدة لحمل مشعل الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات، وحماية للمهنة وسمعتها وشرفها، فإن التأديب والتهذيب يكون مصير كل من سولت له نفسه الانحراف عن قواعد المهنة وأعرافها وتقاليدها والإخلال بها.

فالمحامي، يعتبره أفراد المجتمع قدوة لهم، وهو نخبة المجتمع، لما يتحلى به من حرية وشجاعة ومروءة وشرف، وبالتالي يجب أن يكون ملما بكل ما يمكن أن يساعده على أداء واجبه الإنساني النبيل على أكمل وجه، ويتجلى ذلك في استخدامه للمعلوميات وإتقانه لها ولتقنياتها على أكمل وجه في حدود ما تسمح به قواعد المهنة وأعرافها وتقاليدها، وفي احترام تام لأخلاقيات مهنة المحاماة.

فعلى الرغم من سماح القانون المنظم للمهنة للمحامي بإنشاء موقع الكتروني لمشاركة إنتاجه الفكري في ميدان العلوم القانونية، وللتعبير عن رأيه بكل حرية وشجاعة في حدود ما يسمح به القانون والأعراف المهنية، فهذا لا يمنع من كون هذا العالم الرقمي مليء بالمخاطر التي قد تهدد سلامة المحامي، وتنتهك خصوصية مكتبه وتمس بمبدأ الالتزام بالسر المهني.

وهذا يقتضي منا، ملاحظة ما يلي:

  • المشرع المغربي سمح للمحامي باستعمال موقع في وسائل الاتصال الالكترونية، في نشر كل ما يتعلق بسيرته الذاتية وأبحاثه ودراساته القانونية فقط دون تجاوز ذلك؛ ودون أن يحدد له حدود استعمال هذا الحق وضوابط ممارسته.
  • المشرع المغربي تحدث في القانون المنظم للمهنة عن موقع الكتروني مرتبط بشكة الانترنت العالمية وليس وسيلة التواصل الاجتماعي “الفايسبوك” أو قناة عبر موقع اليوتيوب.

وبالتالي، نصل إلى اقتراح ما يلي:

  • الإسراع بتعديل وتحديث القانون المنظم للمهنة ومسايرته للتطور الرقمي ونتائجه، بإدخال المقتضيات التي تنظم ولوج المحامي إلى العالم الرقمي والمنصة الالكترونية للمحامي، والمحامي الرقمي ومحامي الجيل الجديد وتحديد قواعد وحدود صارمة لاستخدام هذه الآليات الرقمية توفق بين ضمان حرية الرأي التعبير من جهة والاستفادة من التطور الرقمي الحديث واحترام الأعراف والتقاليد المهنية من جهة أخرى؛
  • وضع مقتضيات زجرية صارمة تحمي المهنة والمحامي من خطر الجريمة الالكترونية؛
  • الإسراع بإحداث معاهد جهوية لتكوين المحامين المتمرنين والتكوين المستمر للمحامين، خاصة في مجال العالم الرقمي، ووضع برنامج علمي يتضمن كل ما له علاقة بالتطورات القانونية التي نعيشها، خاصة مادة تعالج الإجرام السيبراني وسبل محاربته، وكيفية حماية المحامي للأجهزة الرقمية التي يستعملها وحماية ومعالجة معطياته الالكترونية ذات الطابع الشخصي، من خطر الاختراق والقرصنة؛

الهوامش:

[1]– المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، رأي .. نحو تحول رقمي مسؤول ومدمج، إحالة ذاتية، منشور بالموقع الرسمي للمجلس https :www.cese.ma تاريخ الزيارة 20/04/2022 على الساعة 00h37.

[2]– الخامس فاضلي، العدالة الرقمية من النظرية على التطبيق، مقال منشور بتاريخ 24/01/2020 بالموقع الالكتروني juris.ma، https://juris.ma، تاريخ الزيارة 10/05/2020 على الساعة 13h20.

[3]– وزارة العدل تحدث منصة رقمية للمحامين للتقاضي عن بعد، مغرب القانون 13/05/2018 https :www.maroclaw.com تاريخ الزيارة 17/04/2022 على الساعة 13h15

[4]– المادة 35 من القانون المنظم للمهنة.

[5]– منصة الخبرات عبر الانترنت eConseilBook، https://www.econseilbook.com/، تاريخ الزيارة 10/05/2020 على الساعة 13h49.

[6]– خطة الرقمنة، الموقع الالكتروني الرسمي لفيدرالية جمعيات المحامين الشباب بالمغرب https :www.fja.ma تاريخ الزيارة 17/04/2022 على الساعة 15h27.

[7]– وئام فراج، 2022… 5 تحديات تواجه التحول الرقمي بالمغرب، موقع SNRT NEWS، https :www.snrtnews.com تاريخ الزيارة 17/04/2022 على الساعة 15h30.

[8]– رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، نحو تحول رقمي مسؤول ومدمج – إحالة ذاتية

[9]– المفاهيم الإدارية – الثقة الرقمية  موقع مجلة هارفارد بزنس ريفيو https://hbrarabic.com/

[10]– « l’avocat doit, chaque jour, se poser en gardien du droit et en garant des libertés des justiciables. » Hassouni kaddour ben moussa, le rôle de l’avocat dans la protection effective des droits de l’homme, journal Libération, lundi 26 janvier 2015, p. 6 et 7.

[11]– المادة 12 من القانون رقم 28.08 المنظم لمهنة المحاماة، صادر بتنفيذه ظهير شريف رقم 1.08.101 20 شوال 1429 (20 أكتوبر 2008)، الجريدة الرسمية عدد 5680 (6 نوفمبر 2008)، ص. 4044.

[12]– المادة 61 من القانون رقم 28.08.

[13]– المادة 30 من القانون 28.08.

[14]– المادة 42 من القانون رقم 28.08 .

[15]– المادة 35 من القانون رقم 28.08 .

[16]– المادة 100 من القانون رقم 28.08 .

[17]– المادة 36 من القانون رقم 28.08 .

[18]– يراجع مقال السيد الأمين العام الأستاذ النقيب بنعيسى المكاوي، السر المهني لدى المحامي بين الإفشاء الممنوع والإفشاء المباح، مجلة المناظرة عدد مزدوج 19/20 – شتنبر 2017، ص. 11 – 33.

[19]– المادة 36 من القانون رقم 28.08 .

[20]– المادة 61 من القانون رقم 28.08.

[21]– الفصل 446 من القانون الجنائي ظهير شريف رقم 1.59.413 28 جمادى الثانية 1382 (26 نونبر 1962) الجريدة الرسمية عدد 2640 مكرر 12 محرم 1382 (5 يونيو 1963)، ص. 1253.

[22]– المادة 69 من القانون رقم 28.08.

[23]– رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، نحو تحول رقمي مسؤول ومدمج – إحالة ذاتية

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)