الدفع بعدم الاختصاص النوعي و فكرة النظام العام

لا يعذر أحد بجهله للقانون أم لا تعذر الدولة لعدم تبليغها للقانون ؟

قصة”عمر قتلني”: خط اليد وخطأ إملائي يكشفان خطأ قضائيا امتد لسنوات

14 نوفمبر 2020 - 3:19 م في الواجهة , متفرقات قانونية
  • حجم الخط A+A-

هناك العديد من الجرائم التي مازالت حتى الآن مجهولة الفاعلين ، ورغم محاولات الشرطة العديدة ، إلا أنهم لم يستطيعوا فك شفراتها ، وهناك من قام بإسنادها لمن وقعوا في دائرة الشك ، دون أن يتأكدوا من إدانتهم الفعلية.

فقط لمجرد غلق ملف القضية ، دون التفكير في العواقب الوخيمة التي قد تحول الشخص من إنسان بريء لقاتل منتقم ، أو تدفع به للانتحار ، أو يعدم من الأساس على فعلة لم يرتكبها ، ولم يكن حتى شاهدا عليها.

اختفاء جيزلين :

بدأت أحداث القصة حينما تلقت الشرطة الفرنسية ، عام 1991م اتصالًا من عائلة ، وأصدقاء السيدة جيزلين مارشال ، والذين تنبهوا لاختفائها ، وعدم ردها على المكالمات منذ فترة ؛ الأمر الذي دفع بالشرطة الفرنسية للتحرك ، واقتحام منزل السيدة المختفية ؛ ليكتشفوا بعد البحث أن جثتها مرمية في قبو فيلتها الفخمة التي تعيش بها .

وبالقرب منها على الحائط جملة كتبت الفرنسية بدم القتيلة تعلن القاتل عمر قتلني ، وتعد هذه الجريمة من أشهر جرائم القتل التي أثارت الرأي العام في فرنسا ، ولا تخدعكم سهولة القضية ، ووضوح القاتل ؛ فالأمر لا يخلو من بعض الغموض ، ولكن لنعرف أولًا من هو عمر ؟

من هو عمر الرداد :

عمر الرداد ، المهاجر المغربي الذي ارتاد فرنسا لإعالة أسرته المكونة من الزوجة ، وأمها ، وبعض الأبناء ، وهناك بحث عن العمل ، فلم يجد سوى وظيفة بستاني في حديقة السيدة جيزلين التي تخطت الستين عامًا .

ولم تكن تبدو على عمر أمارات الارتباك أو القلق حين وقوع الجريمة ، فلم يكن حينها بالمنزل حسب أقواله بل ذهب للاحتفال بعيد الأضحى مع أسرته ، ولكن القضاء لم يستمع للشخص الأمي الذي لا يجيد الفرنسية ، وحكم عليه بالإدانة في تلك الجريمة .

ملابسات القضية :

بعد الإبلاغ عن القضية ، وتوصل الشرطة لجثة السيدة جيزلين بقبو منزلها ، كان القبو مغلقا من الداخل ؛ فبعد أن قاموا بفتح البوابة الحديدية ، وكسر قفلها ، فوجئوا أن باب القبو لا يتزحزح من مكانه ، وذلك بسبب وضع سرير ، وأنبوب حديدي خلف الباب حتى يصعب فتحه .

وعلى الأرض كانت جثة جيزلين غارقة في دمائها ، وعلى الأبواب القريبة منها كتب جـــــــملــــة:

OMAR M’A TUER

وتعني عمر قتلني ، وكانت هذه هي الجملة التي أشارت بأصابع الاتهام على عمر الرداد ، ووضعته خلف القضبان الفرنسية لسنوات عديدة .

ولكن خلف هذه الرسالة التي تركت ، ثلاثة من الاحتمالات التي قد تبرئ ساحة عمر الرداد ، أو تدينه ، ولكن المحكمة لم تأخذ سوى أسهل احتمال ؛ لتدين به المهاجر المغربي عمر الرداد .

الاحتمال الأول :

مقال قد يهمك :   مؤتمر المحامين بفاس يدعو إلى إقرار نظام ضريبي يراعي خصوصيات المهنة ويعفي المتقاضي من الضريبة على القيمة المضافة

في البداية دعوني أنوه عن غلطة كبيرة وقعت فيها الأيدي الكاتبة لتلك الجملة ، عمر قتلني ، فالناطق بالفرنسية يعلم جيدًا أن الجملة لم تكتب بطريقة صحيحة من ناحية تصريف الفعل ، والأدق أن تكتب:

  omar m’a tué

وهذا الخطأ ليس تافها بالنسبة لامرأة فرنسية من طبقة الأثرياء مثقفة ومتعلمة تعليمًا جيدًا ، يجعلها بمنأى عن أخطاء اللغة خاصة مع نشأتها بمعقل اليمين المتطرف الذي يرى أن هوية الدولة الفرنسية تكمن في لغتها الأم ، وهذا ما أثار الريبة في نفوس هيئة التحقيق .

أما فيما يخص الاحتمال الأول ، فيرى البعض أن كاتبة تلك الجملة هي فعلًا جيزلين مارشال ، كما روت الشرطة ، وأنها قررت ألا ترحل عن العالم ، وتترك قاتلها يحيا منعمًا ؛ لذا اعترفت عليه قبل رحيلها ، وكشفت هويته للجميع .

ولكن المشككين في هذا الرأي قالوا ، أن جيزلين ما كنت لتخطأ ذلك الخطأ الإملائي ، وإذا كانت الضحية قادرة على الوقوف والكتابة ، وهي في سكرات الموت ، لما لم تستغيث ، أو تفتح الباب وتخرج ؟ ، وإن كان فعلًا عمر من قتلها ، فلما يكتفي بسرقة حقيبة يدها ، ويترك المجوهرات ، والأشياء الثمينة التي تملكها ؟

كل هذا جعل البعض يشكك في صحة هذه الرواية ، كما أن باب القبو كان مغلق من الداخل بوضع السرير ، وأنبوب الحائط خلفه ، وهذا أمر غير مفهوم في ظل عدم وجود منفذ أخر للخروج .

الاحتمال الثاني:

وهو أكثرهم غرابة ، فالبعض يزعم أن عمر نفسه هو من كتب تلك الجملة كنوع من التمويه ، لأنه مجرم ذكي ، وظن أن الشرطة الفرنسية ستكون أذكي منه ، وتظن أن هناك من يحاول توريطه ، فتستبعده من دائرة الشك.

ولكن هذه النظرية لا ترتقي لمستوى الصواب ، ليس فقط لغرابتها ، ولكن لأن عمر الرداد شخص أمي لا يتقن من الفرنسية حرفًا واحدًا ، وهذا هو ما جعله عاجزًا أمام المحكمة في الدفاع عن نفسه.

الاحتمال الثالث :

وقد يكون هو الأقرب للمنطق ، حيث يقول أن القاتل الحقيقي هو من كتب تلك الرسالة ، وسرقه بعض النقود في محاولة لتوريط البستاني الفقير ، والتمويه عن هويته الخفية ، بإلصاق التهمة إلى غيره ، حتى لا تحوم حوله الشكوك ، ولترجيح ذلك الاحتمال كان لابد من التأكد من أن الخط الذي كتبت به العبارة هو خط جيزلين أم لا.

تحقيقات حول خط جيزلين:

اختلفت التحقيقات حول خط جيزلين ، ففي عام 1991م ، سنة ارتكاب الجريمة ، أشارت التحقيقات أن خط الكتابة على الأبواب هو خط جيزلين ، ولكن في كل مره يستجوب فيها الدفاع المحللون ، كان يحدث تضاربًا في الآراء.

مقال قد يهمك :   النموذج التنموي الجديد: منطق جديد بمداخل مستهلكة

فطلبوا من النيابة الاستعانة بمحلل جديد ، وكان السيدة بويسون دو بار ، هي التي استعانوا بها ؛ فأكدت أن هناك تطابق بين خمس حروف من أصل عشرة مع خط السيدة جيزلين ، أما في التحقيق الثاني الذي فتح عام 1999م ، بعد إعادة فتح القضية تم الاستعانة بوسائل متقدمة في تحليل خط اليد ، والتي أثبتت أن الخط لم يكن خط الضحية جيزلين مارشال ، وإنما خط مختلف ، وهذا الأمر أدان تحقيقات النيابة التي تسببت في حبس عمر عام 1991م .

المحامي جاك فيرجيس  Jacques Vergès مع عمر الرداد

من الذي أغلق باب القبو ، وأين كان عمر حينها ؟

هناك أيضا لغز مفقود في تلك القضية سبق أن أشرت إليه ، وهو من وضع السرير خلف باب القبو وأغلقه على الضحية ، إن كان القاتل نفسه ، فكيف خرج إذن ، وان كانت جيزلين ، فنحن هنا نتحدث عن امرأة خارقة أو مختلة ، كتبت رسالة على الباب ، وسدته لكي لا تخرج ، ثم استلقت غارقة في دماءها على أرضية القبو .

وقد أثبت تقرير التشريح الأول للجثة أن الوفاة تمت في الرابع والعشرين من يونيو بين الساعة العاشرة صباحًا ، والواحدة بعد منتصف الليل ، وهذا ما يبرئ ساحة عمر الرداد حيث كان في هذا الوقت بمدينة تولون يحتفل مع عائلة زوجته بعيد الأضحى .

ولكن القضاة زعموا أن الوفاة كانت يوم 23 ، وما حدث مجرد خطأ مطبعي في التقرير ، أيعقل أن يحدث هذا في محاكمة قلبت الرأي العام رأسًا على عقب ، والكل كان ينتظر نتائجها ؟ خطأ مطبعي !

ولكن حتى مع تغيير تاريخ الوفاة ليوم 23 ، لم يكن عمر الرداد بالفيلا حينها ، فقد كان لديه عمل عند السيدة فرانسيس صديقة جيزلين ، وجارتها ، وهو ما أكدته السيدة فرانسيس وابنتها ، وانه لم يظهر عليه أي أمارات للارتباك يومها ، وثيابه كانت نظيفة.

وقال عمر أنه بعد إنهاء العمل بمنزل السيدة فرانسيس في ذلك اليوم ، ذهب إلى الفرن القريب ، وبقي هناك فترة طويلة نتيجة ازدحام الناس على شراء الخبز ، وكانت هذه هي القشة التي قسمت ظهر البعير.

فحينما توجه فريق التحقيق إلى الفرن ، اتضح أنه كان مغلق يومها ، وهذا ما جعلهم يعتبرونه المجرم الأساسي في الجريمة ، خاصة وأنه كان أمي لا يجيد الفرنسية ، مما جعل الحوار بينهم وبينه عقيمًا ، وغير دقيق ، ولا يفيد بأي معلومات مثمرة.

ولكن بعد القبض على عمر استطاعت إحدى الصحفيات أن تجد فرنا قريبًا لبيت جيزلين غير الذي أجريت به التحقيقات ، تنطبق عليه المواصفات التي أدلى بها عمر ، وأكدتها تحريات الصحفية ، وقد أكدت صاحبة الفرن حين رأت صورته ، أنه كان زبونا مستديمًا لديها.

مقال قد يهمك :   مداخلات مهمة حول التطور الدستوري للمغرب-الجذور التاريخية و التجليات الراهنة و الرهانات المستقبلية-

خادمة جيزلين طرف غامض في القضية :

أمر أخر ورط عمر في تلك القضية ، فقد قال أنه كان يلعب القمار ، وهذا ما جعل دافع السرقة يتربع على عرش القديمة ، فقد ظن مسئولي التحقيقات أن عمر قتل السيدة جيزلين لأنها رفضت إعطاءه مال المقامرة ؛ فقرر التخلص منها ، وسرقة المال.

خاصة بعد شهادة الخادمة التي لم تكن في صالح عمر ؛ حيث قالت أنه طلب من السيدة جيزلين عدة مرات ، أن تعطيه الراتب مقدما ، ولمحت أنه ربما يكون قد سرق المال من حقيبة جيزلين ، ولكن عمر كذب تلك الأقوال.

وقال أن السيدة جيزلين كانت تشك في نظافة يد الخادمة ، وأن تسرق من أموالها ، ولكن الغريب في الأمر أن التحقيقات وقفت مع الخادمة ، رغم أنها كانت في دائرة الشك ، ولكنها قالت أن جيزلين أعطتها أجازه يومها ، وهذا ما لم يرد ذكره في التصريحات الأولى .

إطلاق سراح عمر الرداد بعد سنوات الحبس :

في منتصف فبراير عام 1994م تم الحكم على عمر الرداد بالسجن 18 سنة ، ورغم محاولته المتكررة للانتحار ، والإضراب عن الطعام ؛ لإثبات براءته ؛ إلا أن كل هذا باء بالفشل ، وبعد ثورة الرأي العام ، وفتح التحقيقات في القضية ، تمكن ملك المغرب من عقد اتفاق لتبادل المساجين بين الدولتين .

وفي عام 1998م تم إطلاق صراح عمر الرداد ، والذي خرج من السجن مصممًا أنه كان بريء مما نسب إليه ، وأتقن في تلك الفترة اللغة الفرنسية ؛ فانفكت عقدة لسانه ، وبدأ رحلة طويلة في الدفاع عن نفسه من قضية اصطفت بها الأدلة كلها ضده ، وألف في ذلك كتابًا يحكي فيه تفاصيل المحاكمة وسنوات السجن .

وفي عام 2000م ، بعد فتح القضية مرة أخرى بطلب من عمر الرداد ، ظهرت المفاجأة ، حيث تم اكتشاف ثلاثة أثار حمض نووي ذكري على أداة الجريمة ، وفي القبو ، وبعد تحليلها تبين أنها لا تتطابق مع الحمض النووي الخاص بعمر ، ولم يعرف حتى الآن لمن هذه الآثار ، ولا لما تظهر في التحقيقات من قبل ؛

لتبقى قضية عمر قتلني لغزًا محيرًا للشرطة الفرنسية حتى اليوم .


المصدر : الرابط

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)