عمر علوي هشماني: الآليات الرقابية الحديثة ودورها في تخليق الحياة العام داخل الادارة العمومية

هيئة المحامين بوجدة تفوز بمقعد رسمي ضمن كتاب ندوة التمرين الوطنية 2022 المنظمة من جمعية هيآت المحامين

ناجم توفيق: رؤية الخطاب الرسمي في تحديث الإدارة العمومية بالمغرب

8 يونيو 2022 - 11:58 ص مقالات , القانون العام , في الواجهة , مقالات
  • حجم الخط A+A-

ناجم توفيق دكتور في القانون العام باحث في العلوم الإدارية

تمهيد:

لقد باتت الإدارة العمومية أحد الدعامات والركائز الأساسية لتحقيق التنمية بمفهومها الشامل، حيث لها القدرة على بلورة القرارات الاقتصادية والسياسية على أرض الواقع، انطلاقا من أنها أحد مكونات المجتمع التي هي تعمل على خدمته في علاقتها المترابطة معه، والذي يتطلب حقيقة وجود إدارة عمومية فاعلة في جميع المجالات سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية في صورة منتظمة ومستمرة، والتي لها تأثير على علاقة الإدارة بالمجتمع.

إلا أن الإدارة العمومية بالمغرب لم تستطع إلى حد ما تحقيق هذه الأهداف والغايات المتوخاة منها، مما انعكس سلبا على المجتمع في تقدمه ومواصلته الركب، وهذا راجع بالأساس إلى الدور السلبي الذي لعبه كل من الجهاز الإداري بهياكله وعقليته ونوعية الساهرين على دواليبه، وكذلك تخلف الوعي عند بعض الفئات داخل المجتمع.

فمنذ خمسين سنة خلت، كانت بلادنا قد عقدت آمالا كبيرة على الجهاز الإداري لحل مجموعة من المشاكل العويصة والخطيرة في مختلف المجالات. ولكن واقع بلادنا يؤكد اليوم على أن الإدارة ليست فقط أنها لم تحل أي مشكل بل أصبحت مشكلا قائما بذاته.

أما عند دراسة واقع الإدارة العمومية المغربية، نلاحظ أنها تحتل مكانة خاصة في المجتمع المغربي، وذلك لارتباطها بمفهوم الدولة حديثا وقديما، واقترانها بمفهوم القوة العمومية في الضمير الجماعي للمغاربة، إضافة إلى أنها اتسمت بُعَيْد الاستقلال بالتعقيد، إذ فرقت بين نظام الإدارة العتيق الذي شكل لعدة قرون الذراع التنظيمي لمؤسسة “المخزن” وبين البيروقراطية المستمدة من النظام الفرنسي، وقد أفرز هذا الواقع هياكل ومؤسسات يشرف عليها ويديرها مجموعة من كبار الموظفين الحريصين على استمرارها على شكلها السائد، وذلك لارتباطها بمصالحهم الشخصية أو مصالح ذوي النفوذ، وقد وصل بهم الأمر إلى تشكيل لوبيات إدارية يصعب زعزعتها.

وعلى ضوء هذا التأطير، سننطلق في مقالنا من المؤسسة الملكية مركزين عليها على اعتبار مكانتها داخل النظام السياسي المغربي، باعتبارها الفاعل والرائد في تحريك ديناميكية الإصلاح والتحديث الإداري، فكما قال الملك محمد السادس لمجلة التايم: “إنه يريد الأفضل للمغرب، وإن كثيرا من الأشياء ما يزال المغرب في حاجة للقيام بها في المجال الديمقراطي”.

وهذا باختصار شديد ما سنتناوله في (المبحث الأول)، الذي يدور حول المؤسسة الملكية ودورها في الإصلاح الإداري، ثم في إطار استقرار وتنمية المجهودات على المستوى المؤسساتي والقانوني، يأتي دور المؤسسات الوطنية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: منظور المؤسسة  ودورها في تحديث الإدارة العمومية.

يشكل الخطاب الملكي أحد الركائز الأساسية على مستوى التوجيهات الصادرة عن الملك. إذ أن “التحديث” داخل الخطاب السياسي للملكية ليس عنصرا لإضفاء الشرعية على نفسها، لأن الشرعية مكتسبة، ولكنه يعد إحدى تمظهرات ممارسة الإمامة. ومن هنا الاستناد على المرجعية الدينية داخل خطاب الإصلاح من خلال إنهاء بعض الخطب الملكية مثلا بالآيات القرآنية: (إن أريد الإصلاح ما استعطت وما توفيقي إلا بالله)، وهذا في إطار الرؤية الشمولية للحياة السياسية والإدارية.

وعليه، فتحديث الإدارة ظل من إحدى انشغالات واهتمامات المؤسسة الملكية، وذلك من خلال المفهوم الجديد للسلطة (المطلب الأول)، وتوخي البعد الديمقراطي للتحديث الإداري (المطلب الثاني).

المطلب الأول: المفهوم الجديد للسلطة

تجدر الإشارة إلى أن المفهوم الجديد للسلطة دخل القاموس السياسي المغربي بقوة، كأحد معالم اعتلاء الملك محمد السادس العرش، وبالتالي تجسيد مجموعة من الإشارات، تؤشر بهبوب رياح التغيير على نمط أسلوب تدبير الشأن العام،[1] حيث كان مطلب كل مرحلة انتقالية بتاريخ المغرب تصب في قناة الإصلاح، والذي تنامی المطالبون به خاصة فيما يتعلق بالسلطة التي هم على علاقة يومية بها في الإدارة.[2]

في هذا الصدد، جاء الخطاب الملكي الموجه إلى مسؤولي الجهات والولايات والعمالات والأقاليم بتاريخ 12 أكتوبر 1999: “إن مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة الحقوق وأداء الواجبات، وإتاحة الظروف اللازمة لذلك على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون، في ضوء الاختبارات التي تسير على هديها من ملكية دستورية وتعددية حزبية وليبرالية اقتصادية، وواجبات اجتماعية بما كرسه الدستور وبلورته الممارسة.

نريد في هذه المناسبة أن نعرض لمفهوم جديد للسلطة وما يفترض بها مبني على رعاية المصالح العمومية”.[3]

إن السلطة وفقا للمفهوم الجديد تستهدف رعاية المصالح العمومية، والشؤون المحلية وترعى الحريات على الأمن والاستقرار، وتحافظ على السلم الاجتماعي، وهذه المهام يقتصر تحقيقها على محددات رئيسية اعتبرت بمقاربة مداخيل أساسية للسلطة، في مفهومها الجديد، والمتجلية في تفعيل إدارة متطورة قادرة على التفاعل مع محيطها وتساير وتتكيف مع التطورات التي سيشهدها المجتمع، كما عليها أن تعكس انشغالاته من خلال التركيز على الميادين التي تحظى بالأولوية والأهمية، من قبل مكونات المجتمع المدني.[4]

ومن ناحية أخرى، اتسم تدبير الشأن العام أثناء المرحلة الماضية بالعشوائية، فالأمر الآن معقود على المفهوم الجديد للسلطة المقرون بالإدارة القوية على تغيير جل المفاهيم السلبية التي كانت سائدة، وحان الوقت لمراجعتها وتطوير الصالح منها والتخلي عن السلبي فيها، وإدماج عناصر أخرى مغيبة للأداء الجيد،[5] “مع الالتزام بالفعالية والمردودية وترتيب الأولويات وفق جدول زمني محدد، وكل ذلك في نطاق التقيد بسياسة حسن تدبير الشأن العام… من أجل تحقيق التحديث الاقتصادي والتنمية المستدامة”.[6]

مقال قد يهمك :   محكمة النقض : ولوج الحيوانات للطريق السيار تتحمل الدولة مسؤوليته طبقا للفصل 79 ق.ل.ع

وقصد إعادة النظر في مهام الإدارة على ضوء التوجه الجديد للدولة، أكد الملك محمد السادس على ضرورة تأسیس شمولي لمسألة التحديث الإداري بكل آلياته وقواعده، حيث احتل التواصل إحدى المجالات الأساسية لتحديث التدبير العمومي.[7]

وسيرا على نهج جميع الخطب والتوجيهات الملكية التي ما فتئت بين الفينة والأخرى تذكر بالإصلاح الإداري وتخليق المرفق العام، وتأكد على ضرورة الإصلاح حيث تعتبره أمرا لا محيد عنه، وهذا ما نلمسه جيدا من هذا المقتطف من الخطاب الملكي بتاريخ 06 نونبر 2003: “… جاعلين من الجهوية واللامركزية، وعدم التركيز والديمقراطية والمشاركة والقرب مشروعا استراتيجيا يزداد بلورة وتجسيدا على أرض الواقع”.[8]

إن خطاب 12 أكتوبر حول المفهوم الجديد للسلطة ضمن طياته، يعتبر مرحلة وسطی بین مؤشرات أولية، وعناصر أساسية مكملة ومركبة لهذا المفهوم، وهذا ما حبلت به جل الخطب الملكية.

المطلب الثاني: البعد الديمقراطي للتحديث الإداري

يشكل البعد الحقوقي أحد المعالم الأساسية ضمن أي مقاربة تهدف إلى تحديث الإدارة بشكل خاص، في إطار سياق أعم، يهدف إلى مصالحة المجتمع مع الدولة وخلق جو الثقة وتطبيع العلاقات بين هذين المكونين، بحكم أن المغرب دخل مسلسل الدمقرطة، وحسب ما أعلن عنه القائمون على شؤون الدولة.[9]

فكما شغلت قضية دمقرطة الإدارة حيزا هاما في فكر الراحل الملك الحسن الثاني، فإن الملك محمد السادس لم يغب هذا الأمر في توجيهاته وخطبه، ففي خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2000 جاء فيه: “إننا ننتظر من حكومتنا ترسيخ دولة القانون، بإعطاء دفعة قوية للإصلاح الإداري والقضائي، والسهر على تخليق الحياة العامة وثقافة المرفق العام، وسنتعهد برعايتنا السامية الموصولة هذا المفهوم الذي قطعنا الخطوات الأولى لتفعيله، والذي ينتظر بذل مجهودات متواصلة ومتأنية حتى يصبح تشريعات عصرية وثقافة متجذرة وسلوكا يوميا وفعلا تلقائيا”.[10]

إن المشاركة الفعالة تقتضي في مجتمعنا تعميم التمدرس وسن سياسية تعليمية دقيقة، تمكن من إرساء ثقافة اجتماعية ديمقراطية كما أن سياسية التحديث الإداري لإدارة القرب تقتضي مصالحة مع المجتمع، الذي عانى من التهميش واللامبالاة، والذي لا يكتفي بأن يسهر على أمنه وسلمه الاجتماعي فقط، بل يطمح في مشاركة أرحب كأسلوب من أساليب التعبير الديمقراطي الذي ينبغي تشجيعها”.[11]

وجاءت الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى الاجتماع الأول للجنة المتابعة المنبثقة عن مؤتمر الهيئات الحكومية المكلفة بحقوق الإنسان في القضاء الفرنكفوني، بتاريخ 27 فبراير  ما يلي:2004 “لم نفتأ، منذ اعتلائنا العرش، نواصل العمل على ترسيخ دولة الحق والقانون، والنهوض بحقوق الإنسان وتوسيع فضاء الحريات وحل كل القضايا العالقة في هذا الشأن، وتدعيم وتحديث التشريعات والمؤسسات الكفيلة بإضفاء المزيد من صون كرامة المواطن ضمن منظور شمولي لحقوق الإنسان، تتكامل فيه أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في إطار ديمقراطية المشاركة والقرب، معبئين لهذه الغاية كل القوى الحية للأمة والسلطات العمومية، مشجعين القوة الاقتراحية البناءة”.[12]

وتجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من مصادقة المملكة على معظم المعاهدات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، فإنه ما زالت هناك بعض العوائق التي تحول دون تطور المغرب كليا في هذا المنحى، لذا يلزم القيام بجهود إضافية لتطوير هذا القطاع وبالتالي انعكاسه على التنمية الإدارية.

المبحث الثاني: المؤسسات الوطنية ومحاولة التحديث الإداري

إن مؤسسة الوسيط من بين ما تهدف إليه هو تلقي الشكايات التي يتقدم بها المرتفق، أو كما هو الحال بالنسبة للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، فهي تروم محاربة الفساد وتخليق الحياة العامة، إذاً فهي تعتبر كوسيط بين الإدارة والمواطن (المطلب الأول)، أما في (المطلب الثاني) سنتطرق لمؤسسة وطنية أخرى لا تقل أهمية وهي الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة.

المطلب الأول: مؤسسة الوسيط كفاعل في تحديث الإدارة

“الوسيط مؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة، مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون، وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية”.[13]

إن مؤسسة الوسيط قد حلت محل ديوان المظالم الذي كان قد تم إحداثه في ما مضى،[14] والتي تلعب دورا أساسيا في تقرير وجهات نظر المواطنين والإدارة والتخفيف من العبء القضائي، وذلك من خلال إعداد تقرير سنوي يرفع لجلالة الملك حول خطة عمل المؤسسة، خصوصا في الجانب المتعلق بالنظر في الشكايات و التظلمات والقيام بمساعي الوساطة وتقديم توصيات بشأن التدابير الكفيلة بإحقاق الحقوق وتحسين فعالية الإدارة، فهذا التقرير يقوم برفعه والي ديوان المظالم الذي يتم تعيينه من طرف جلالة الملك، هذا التعيين الذي له دلالة عميقة تتمثل في إعطاء استقلالية أكبر لهذه المؤسسة، خصوصا وأن تمويلها يتم من ميزانية القصر الملكي.[15]

كما أنها تختص بالنظر في الشكايات والتظلمات المقدمة إليها ضد قرار أو عمل يتنافى ومبادئ سيادة القانون والإنصاف صادر عن إدارات الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات العمومية أو أي هيئة عهد إليها بصلاحيات السلطة العمومية، باستثناء بعض القضايا الراجعة إلى اختصاص القضاء أو البرلمان أو المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أو القضايا التي لم يتم التظلم في شأنها مسبقا بأي مساع رسمية.[16]

مقال قد يهمك :   حكم قضائي يأمر عدول مكناس بإصلاح لوحاتهم وحذف صفة "موثق" منها

إن أول عملية يجب استيعابها بخصوص مؤسسة الوسيط، وإبلاغها لجميع المتعاملين معها، هي أن الوسيط ليس منافسا للإدارة ولا بديلا عن القضاء، فبخصوص العلاقة الأولى، من الواجب نسج علاقة قائمة على ثقة متبادلة بين الوسيط والإدارة، من أجل التوصل إلى الحلول المبنية على سيادة القانون ومبادئ العدل والإنصاف.

أما بشأن العلاقة مع القضاء، فالوساطة لا تلغي ولا تحل محل المساطر المتبعة في حل النزاعات الإدارية، ولكنها تؤسس لثقافة الحوار بين المرفق والمرتفق، وتضع حدا للعبة القطيعة والصدام بينهما، وإيجاد حلول حبية وسريعة في احترام تام للقانون بعيدا عن تعقد المساطر القضائية، وفي ذلك ربح وفائدة لكلا الطرفين.

ولدى الوسيط طريقتين للتدخل:

عن طريق الإقناع: وذلك بواسطة حث الإدارة على الأخذ بتوصياته وملاحظاته، والتراجع عما كان سببا في التظلم، وفي هذا الباب مطلوب عمل دؤوب على المسيرة، وهنا تظهر أهمية السلطة المعنوية للوسيط من خلال حنكته وكفاءته وإلمامه بالمجال المتدخل فيه، واستقلاليته وحياده وتمسكه بمبادئ العدالة، لأنه يمثل في هذه الحالة دور السلطة المعنوية التي للطبيب على المريض من خلال تشخيص المرض ووصف العلاج.

ويبقى نجاح مسعى الإقناع رهين بمدى تفتح وتعاون الإدارات والمرافق المعنية بالوساطة مع الوساطة.

أو عن طريق الردع: وهي وسيلة غير محبذة لأنها ستكون مصدر صراع بين الوسيط والإدارة المتنازع معها، وقد تمارس عن طريق النشر الواسع لتقارير الوسيط والإدارة المتنازع معها، وبالتالي تشكيل قوة ضغط من طرف الرأي العام على الإدارة التي يشار إلى عدم تعاونها مع الوسيط.[17]

المطلب الثاني: الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة كمراقب للنزاهة الإدارية

وقع المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في 09 دجنبر 2003 وتم التصديق عليها يوم 09 ماي 2007، حيث تنص المادة السادسة من الاتفاقية المذكورة على أن الدول الأطراف ملزمة بإحداث هيئة أو هيئات الوقاية من الرشوة، وفي إطار تطبيق مقتضيات هذه المادة تم بمقتضى المرسوم رقم 1228-05-2 بتاريخ 13 مارس 2007، إحداث الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة.[18]

إلا أن الاختصاصات التي خولت للهيئة والآليات القانونية التي وضعت رهن إشارتها، لم تكن كفيلة بتشييد منظومة وطنية حقيقية للنزاهة، ومواكبة للإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية التي يشهدها المغرب، حيث جاءت الإرادة الملكية قصد إعادة النظر في الإطار التشريعي المنظم لهذه الهيئة، في اتجاه توسيع اختصاصات وتقوية طرق عملها، ولا سيما بتخويلها صلاحيات التصدي التلقائي لحالات الارتشاء وكل أنواع الفساد، وكذا تمكينها من الموارد البشرية والمادية والآليات القانونية اللازمة للقيام بمهامها، بما يلزم من التجرد والنجاعة والتناسق المؤسسي الهادف لترسيخ المواطنة المسؤولة ومبادئ تخليق الحياة العامة.[19]

أما بخصوص دورها الاقتراحي، تقدمت الهيئة في إطار تقريرها السنوي لسنة 2009 إلى السلطات العمومية بمثابة توجهات استراتيجية ترجمت إلى 25 اقتراح، تم تصريفها في 113 إجراء عملي، همت بشكل عام الآليات الزجرية والشأن السياسي والحزبي، والصفقات العمومية والقطاع العام والخاص، والإعلام والتواصل والشراكات… وأما فيما يتعلق بمهمة التعاون والتنسيق، شرعت الهيئة في إحداث مرصد للأخلاقيات في المجال الجمركي.[20]

وقد لوحظ خلال سنتي 2010 و2011 أن وضعية المغرب بالرجوع إلى مختلف المؤشرات، ملامسة ظاهرة الرشوة المعتمدة لم تتحسن وأن الاستجابة العملية لمقترحات وتوصيات الهيئة المركزية بقيت محدودة، حيث اقتصرت الإنجازات المرصودة خلال هذه المرحلة على تعيين برنامج عمل الحكومة في مجال محاربة الرشوة (2010-2012) من إصدار قانون يتعلق بحماية الشهود والضحايا والمبلغين وقانون يتعلق بإحداث أقسام للجرائم المالية ببعض محاكم الاستئناف، ومرسوم يحدد صلاحيات المفتشيات العامة للوزارات.

وهكذا بقيت السياسة المتبعة في مجال الوقاية من الفساد ومكافحته -إلى الآن- غير ذات فعالية، حيث لم تستوعب جميع مقومات البعد الاستراتيجي ولم تولِ الأولوية اللازمة لتفعيل آليات إنفاذ القانون، ولم تكرس مقاربة قطاعية تشاركية فعالة، ولم تعتمد البعد الجهوي ومستلزمات الحكامة الترابية.[21]

خاتمة:

لقد بذل المغرب مجهودات إصلاحية في المجال الإداري مرت بمعطيات عديدة، غير أنها اتسمت بالمعالجة التجزيئية التراكمية والظرفية لقضايا إدارتنا المغربية، فالإصلاحات التي تبناها المسؤولون منذ الاستقلال اهتمت جلها بالجوانب التقنية مع كامل الأسف.

إن الجهود المبذولة في مجال تخليق المرفق العام، مكنت من القيام بالعديد من المبادرات خاصة على مستوى الجانب القانوني أو المؤسساتي، حيث تم سن العديد من النصوص القانونية “المؤطرة” لمجال التخليق، وخاصة تلك المتمثلة في إصدار حسن التدبير، والمصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة المواد السامة سنة 2005، وإحداث مؤسسة الوسيط وإصلاح قانون الصفقات العمومية، وهذه المكتسبات التشريعية الجديدة والمؤسسات المحدثة نقر من خلالها ضمنيا بالحالة المزرية التي تعرفها مختلف المرافق العمومية وحاجتها الماسة للإصلاح. غير أن الإصلاح الفعلي يجب أن ينطلق أولا من إصلاح العقليات وتطهير النفوس.

في هذه الظرفية بالذات، وجب على الإدارة العمومية أن ترقى بأدائها وتحسين جودة خدماتها وراء منطق المردودية والفعالية والشفافية، خاصة وأن القطاع العام فقد مشروعيته نتيجة البيروقراطية المعقدة وانعدام التواصل الفعال مع المواطنين وعدم التجاوب الضروري من طرف الموظفين العموميين مع التحولات التي طرأت على أشكال التدبير العمومي، وذلك راجع بالأساس كما سبق ووضحنا أنه هناك غياب منظومة “حقيقية” للمساءلة والمحاسبة لا على المستوى القانوني ولا على المستوى المؤسساتي.

إن إرساء الحكامة الإدارية يندرج ضمن سياق الهدف الرئيسي للدولة وإدارتها العمومية، وهو تنفيذ السياسات العامة وفق التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لبلوغ التنمية الشاملة للمجتمع، وتحقيق المصلحة العامة، وذلك يبقى رهين بالتركيز على هذه الآلية، ويتجلى من خلال مجموعة من المؤشرات والتقارير والأبحاث الميدانية المتعلقة بالإدارة العمومية، والتي كشفت عن مظاهر سوء التدبير ووجود “فوضى” حقيقية في إنفاق الأموال العمومية والسعي وراء المصالح الفئوية للعديد من الأفراد داخل الإدارة على حساب المصلحة العامة للمواطنين.

مقال قد يهمك :   الوقت من ذهب في التجارة.. وفي المحاكمة العادلة أيضا

الهوامش:

(=) تم تحكيم هذا المقال من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون للدراسات والأبحاث القانونية

[1] علي ناصر بنحيدوش، الإصلاح الإداري في الخطب والرسائل الملكية، يوليوز 1999 إلى دجنبر 2006، مقارنة تحليلية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال، الرباط، موسم 2006/2007، ص: 132.

[2] محمد ياسين التيدي، الإصلاح الإداري بين الطموح السياسي والانتقال الديمقراطي، رسالة لنيل دبلوم ماستر في القانون العام المعمق تخصص العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة، موسم 2007/2008، ص: 106.

[3] مقتطف من الخطاب الملكي الموجه إلى مسؤولي الجهات والولايات والعاملات والأقاليم من رجال الإدارة وممثلي المواطنين بتاريخ 12 أكتوبر 1999.

[4] محمد سالم السبطي، المفهوم الجديد للسلطة: الإطار العام والأبعاد، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، عدد 2001/25، ص: 27.

[5] ناصر بنحيدوش، الإصلاح الإداري في الخطب والرسائل الملكية، مرجع سابق، ص: 137.

[6] مقتطف من الخطاب الملكي الموجه إلى الأمة بمناسبة عيد العرش، بتاريخ 30 يوليوز 2002.

[7] مريم فضال، الإدارة العمومية بالمغرب بين مطلب التحديث ورهان التنمية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة، موسم 2013/2014، ص: 79.

[8] مقتطفات من نص الخطاب الملكي الموجه للأمة بمناسبة الذكرى الثامنة والعشرين لانطلاق المسيرة الخضراء بتاريخ 6 نونبر 2003.

[9] ناصر بنحيدوش، الإصلاح الإداري في الخطب والرسائل الملكية، مرجع سابق، ص ص: 141-142.

[10] مقتطف من الخطاب الملكي الموجه للأمة بمناسبة عيد العرش بتاريخ 30يوليوز 2000.

[11] Michel ROUSSI : « pouvoir administratif et participation in (ouvrage collectif) représentation médiation participation dans le système politique marocain, Edite par l’imprimerie annajah Al Jadida 1997, P 130.

[12] مقتطف من الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى الاجتماع الأول للجنة المتابعة المنبثقة عن مؤتمر الهيئات الحكومية المكلفة بحقوق الإنسان في الفضاء الفرانكفوني، بتاريخ 27 فبراير 2004.

[13] الفصل 162 من دستور المملكة المغربية 2011.

[14] ظهير شريف رقم 1.01.298صادر في 2 رمضان 1422 (9 ديسمبر 2001)، المتعلق بإحداث ديوان المظالم، جريدة رسمية عدد 4963، 8 شوال 1422 الموافق لــ 24 سبتمبر 2001، ص: 4281.

[15] محمد الداودي، الإدارة العمومية وإشكالية التنمية الاقتصادية بالمغرب، بدون دار نشر، الطبعة الأولى، 2017، ص ص: 184-185.

[16] خالد بوشمال، رهانات تحديث الإدارة العمومية بالمغرب من خلال نظام الإدارة الإلكترونية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة، موسم 2013/2014، ص: 119.

[17] إبراهيم الشافعي، المرافق العامة على ضوء الدستور الجديد، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بجامعة عبد المالك السعدي، طنجة، السنة الجامعية 2011/2012، ص: 114.

[18] الموقع الرسمي للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة:

www.icpc.ma

[19] عفيفي فاطمة الزهراء، المبادئ الجديدة للمرافق العمومية المعلنة في الدستور المغربي لسنة 2011، بحث لنبل دبلوم الماستر في شعبة القانون العام بجامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة، السنة الجامعة 2012-2013، ص: 112.

[20] محمد الكميري، حکامة تخليق المرافق العامة على ضوء دستور 2011: الواقع والرهانات، بحث لنبل دبلوم الماستر في شعبة القانون العام، تخصص القانون والعلوم الإدارية للتنمية، بجامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة، السنة الجامعة 2012/2013، ص: 135.

[21] مريم فضال، الإدارة العمومية بالمغرب بين مطلب التحديث ورهان التنمية، مرجع سابق، ص: 280.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)