كورونا يمدد آجال الترشح لجائزة مركز إدريس الفاخوري للتميز في العلوم القانونية

حنان سعيدي: حق سكنى المحضون ومسألة التناغم والتنافر بين قواعد قانون الأسرة والقانون العقاري

هل قلتم الفقه القانوني؟ أي فقه تقصدون؟

27 نوفمبر 2020 - 10:22 م المنبر القانوني , في الواجهة , متفرقات قانونية
  • حجم الخط A+A-

رضوان الطريبق باحث في سلك الدكتوراه – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة جامعة عبد المالك السعدي – تطوان

الفقه، مؤسسة لها أدوارها ومكانتها وأبعادها ودلالاتها المتعددة والمختلفة باختلاف المجالات التي تحضر أو تستعمل فيه الكلمة، ولاسيما في مجال العلم والبحث العلمي، وبالأخص البحث في العلوم القانونية، وذلك لما لاحظناه ووقفنا عليه من غزارة إن لم نقل تضخم في توظيف التعابير الدالة على “الفقه”، مع تداخل ولخطبة وضبابية تعتري عملية توظيفها.

فإذا كان الفقه وصف دائما بأنه المظهر العلمي للقانون، مما قد يوحي بأن أي دراسة وبحث يندرج في مجال علم القانون هو فقه من حيث الأصل، وأن أي فاعل في ذلك العلم هو “فقيه”، وعلى هذا الأساس تجد العديد من الدراسات القانونية تستعمل العبارة، فتجد بعضها تستشهد أو تعضداً موقفاً فتقول حسب بعض “الفقه”، أو حسب “الفقيه” الفلاني، أو حسب ما اتفق حوله “الفقهاء”، إلا أنه في الكثير من الأحيان تجد العديد من الدراسات القانونية تستعمل مجموعة من العبارات الأخرى المتغيرة، حتى ضمن الدراسة نفسها، للدلالة على الفاعلين في علم القانون، فهناك من يستعمل عبارة “الخبير”، و”الباحث”، و”الدارس”، و”الأستاذ”، و”الدكتور”، وغيرها من العبارات، وإذا كانت بعض تلك العبارات هي مبنية على درجات علمية وأكاديمية أو بيداغوجية، فإن عبارات أخرى قد تجمع كل تلك الدرجات وغيرها.

مما يدل على وجود إشكالية حقيقية في دلالة مؤسسة “الفقه”،  ولطالما طرحت لدينا حولها  العديد من الأسئلة، حول الماهية أو الكينونة الحقيقة للفقه، ولاسيما الفقه القانوني المعاصر، والفقيه القانوني، وهل يوجد في الوقت المعاصر فقهاء القانون ؟ وهل أي بحث في مجال القانون يصل ليكون فقهاً قانونيا ؟ وهل كل فقيه ينتج فقهاً ؟

بداية الفقه مع ظهور الفقه الديني :

في الحقيقة، إن الجواب على هذه الأسئلة، ليتطلب القيام ببعض الحفريات للوقوف على الجدور والتطورات التاريخية التي نتج عنها ظهور “الفقه”، حيث ظهر أولا كفقه ديني، سواء في أوروبا، مع الكنيسة أو ما عرف “بالفقه الكنيسي”، الذي هيمن على الفكر والفهم والشرح الديني، والأمر كذلك بالنسبة للتاريخ الإسلامي، حيث ظهر “الفقه الإسلامي” مع ظهور وتكون المدارس الفقهية الكبرى، وهو ما يعرف بعصر الفقهاء وكبار الأئمة المجتهدين، المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي وغيرهم، ولطالما قصد بالفقه ذلك المجهود العقلي والذهني والفكري في استنباط واستخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنة، ويشكل الفقه بهذا مصدراً من المصادر العقلية للتشريع الإسلامي وليس الشريعة الإسلامية.

ولكن مدلول” الفقه” لا يخلوا من جدل حتى ضمن المجال الشرعي الأصلي لظهور “الفقه الإسلامي”، فمن الدراسات من جعلت “الفقه” يقتصر على عملية اجتهادية مفادها استنباط الحكم الشرعي لأول مرة مباشرة من الكتاب والسنة، وتقصي ما دونها، ولا تعتبره فقها، وإنما هو إن لم يتضمن استخراجاً  للحكم الشرعي يبقى مجرد نقل وتحليل وفهم، أو ما أسموه بـ “الفقه الناقل”.

مقال قد يهمك :   موقع "نوابك" فكرة شبابية متميزة تحاول تجسيد الديمقراطية التشاركية

التحول من الفقه الديني إلى الفقه القانوني وخصوصية الفقه المغربي

وتبعا لذلك، ومع ظهور القانون الوضعي في أوربا -نسبة للنظرية الوضعية وليس القانون الموضوع من قبل الناس أو البشر حسب ما يذهب البعض- عقب الفصل بين الدين والدولة، وبداية التدوين القانوني، لاسيما بعد التقنينين المدني الفرنسي والألماني،  تم التحول شيئا فشيئا من الفقه الديني الأوروبي الكنيسي إلى الفقه القانوني، أي إلى التفكير والتحليل العلمي المنبعث من مجال علم القانون والمنصب على النصوص القانونية، ولاسيما ببداية تكون ما يسمى بعلم أصول القانون، وتكون الحلقة التداولية لعلم القانون، التي تجمعه وتربطه بباقي العلوم، كفلسفة القانون، والتاريخ القانون، والأنتروبولوجيا القانونية، وعلم الاجتماع القانوني، وغيرها، وهنا كانت بداية الفقه القانوني في أوروبا.

وفي المغرب، كما باقي الدول العربية والإسلامية المقارنة، التي عرفت بدورها تحولا تدريجيا في مرجعيتها التشريعية، من المرجعية الدينية الإسلامية إلى المرجعية الوضعية القانونية، لوحظ أنه بعد تطبيق الحماية مباشرة، وبعد إغداق المغرب من قبل سلطات الحماية بترسانة قانونية ذات مرجعية وضعية، عملت تلك السلطات على تهميش الفقه الديني الإسلامي وتعويضه بالفقه القانوني الوضعي الفرنسي، هذا الأخير الذي عمل على تسخير كل إمكاناته الفكرية والذهنية والعلمية من أجل الدفاع عن تطبيق القانون الفرنسي أو بالأحرى القانون المغربي ذي الأصول الفرنسية، فكانت بذلك بداية أولى إرهاصات تكون الفقه القانوني بالمغرب، وعرف الفقه القانوني بالمغرب بعدها تطورا مطردا بشكل إرادي أكثر إن صح التعبير، وذلك ببداية برمجة الدراسات القانونية على مستوى الجامعات المغربية، وإحداث كليات للعلوم القانونية، وبداية تكوين الحقيبة الوثائقية للفقه القانوني بالمغرب داخل المكتبات ودور النشر، خاصة مع غزو الكتب والمراجع القانونية المشرقية للجامعيات المغربية، وبالأخص الكتب القانونية العراقية والمصرية، وقدوم كبار أساتذة القانون المشرقيين للتدريس والمحاضرة في المجال القانوني بالمغرب، أمثال الأستاذ مأمون الكزبري، وغيره، فتخرجت بكل ذلك أفواج من القانونيين المغاربة.

التلاقح بين الفقه الديني الإسلامي والفقه القانوني

هذا، وإذا كان الفقه الأوربي، تحول بشكل حاسم من الفقه الديني إلى الفقه القانوني، وعرف هيمنة هذا الأخير على مجالات البحث العلمي القانوني، وصار مفهوما من حيث الأصل أنه عند التحدث  عن الفقه في المجال القانوني الأوربي، فيكون المقصود منه الفقه القانوني، فإنه في المغرب ليس الأمر كذلك، ونحن نتحدث هنا عن المجال المدني بطبيعة الحال، حيث لم تتم القطيعة مع الفقه الديني الإسلامي، وإنما استمر حضوره في المجال القانوني كمصدر تاريخي ومادي مباشر واحتياطي في نفس الوقت للمنظومة القانونية المغربية، ولاسيما في النظام القانوني العقاري والأوقاف والأحوال الشخصية، وترسخ الأمر حتى في المنظومة القانونية المعاصر، حيث جرى تقنينه في تلك المجالات وغيرها، لعل أهمها الصيغ التمويلية التشاركية والتأمين التكافلي.

ولعل تلك الازدواجية في المرجعية التشريعية، هي من أفرزت بعض صور التلاقح في التكوين بين المجال الشرعي والقانوني، ونتج عنها في كثير من الأحيان فقه مزدوج، فهو إما فقه ديني قانوني، أو فقه قانوني ديني، حسب غلبة أحد التكوينين على الآخر، ونكاد نجزم أنه في بعض المجالات القانونية بالمغرب، يصعب أن يلتزم فيها الفقه بتخصص منفرد دون آخر، ولاسيما المجالات السابق ذكرها كالعقار والأوقاف والأسرة، بل إنه لا يمكن التمكن  من تلك المجالات بما يصل بالبحث ضمنها لدرجة الفقه إن لم يتمتع الباحثين في مجالها بتكوين شرعي كونه المجال الأصل لها، مع صقله بتكوين قانوني معاصر.

مقال قد يهمك :   تجارية مكناس: يحق للوريث الاطلاع على حساب مورثه ولا يحق للبنك الاحتجاج بالسر المهني

أي مدلول الفقه القانوني المعاصر ؟

ورغم ذلك، في وقتنا المعاصر لازال مدلول مؤسسة الفقه القانوني يعرف إشكالا كبيراً، فإذا كانت أغلب كتب النظرية العامة للقانون ومداخل القانون وأصول القانون، تتناوله باعتباره ذلك المصدر التفسيري والتكميلي للقانون كما يطلق عليه عادة، وإذا كان الفقه في المجال القانوني كان في عهد ليس ببعيد معلوم المدلول والمجال والفاعلين،  فإن السؤال الذي لا زال يطرح حقيقة في الوقت المعاصر، هو حول مكنون هذا الفقه ؟ بداية بنطاقه ومداه والفاعلين فيه، فهل نطاق الفقه يشمل مختلف الدراسات المندرجة في مجال القانون ؟ باعتبار الفقه كما سبق وقلنا هو المظهر العلمي للقانون، أم أنه يقتصر فقط على نوع معين من تلك الدراسات وفق مواصفات ومعايير وشروط معينة قد ترتقي به إلى مصاف الفقه من عدمه ؟ وهل يقصد به الدراسات القانونية الميتودولوجية والملتزمة بالمنهجية القانونية، والمناهج القانونية في البحث ؟ أم يشمل حتى الدراسات غير المنهجية ؟

والأهم، من حيث طبيعة المنتوج الفقهي، ودرجة جودته، فهل يقصد بالفقه تلك الدراسات التي تتضمن اجتهاداً وتفكيراً إبداعياً خلاقاً ؟ أم أنه يستوعب حتى الدراسات المقتصرة على الشرح والتحليل بما يدخلها في خانة نقل المعرفة القانونية دون إبداعها ؟ وهل التفكير الإبداعي الخلاق يقصد به خلق المعرفة القانونية بما يقضيه ذلك من امتلاك الملكة القانونية أقرب ما تكون للمملكة التشريعية في علاقتها مع النصوص القانونية، ومحاولة استباق المشرع وتنبيهه إلى المخاطر والثغرات القانونية التي تعرفها المنظومة القانونية ؟ أم ينصرف ذلك الإبداع فقط إلى القدرة الإقتراحية على إبداء الآراء القانونية، ولاسيما المساهمة في انتقاد القانون وتقديم البدائل عن نواقصه بما قد يجعل الفقه يرتقي إلى مصاف القوى المتصارعة من أجل القانون، حسب منطق نظرية القوى الخلاقة للقانون، ويجعله ذلك قرينا ومتصارعا مع جماعات الضغط والشركات المتعددة الجنسيات والأحزاب السياسية والإعلام والمجتمع المدني وغيرها ؟

ثم ما مجال اشتغال الفقه القانوني، هل يقتصر على دراسة علم القانون بشكل بحت، تنظيراً وتأصيلاً وتقعيداً وتفسيراً وتعريفاً وغيره ؟ أم يشمل علم القانون ودائرته التداولية التي تربطه بباقي العلوم الأخرى، ولاسيما بعض العلوم ذات الطبيعة التقنية المرتبطة بتوسع مجالات تدخل القانون ؟ وهل الدراسات التي تجمع بين القانون وبعض العلوم التقنية والاقتصادية، خاصة الدراسات المعاصرة التي تبحث على سبيل المثال مجال القانون والتكنولوجيا، والقانون والذكاء الاقتصادي أو الاصطناعي، والقانون والتنمية، وغيرها، فهل يمكن اعتبارها فقها قانونياً ذو طبيعة خاصة ؟

مقال قد يهمك :   قرار محكمة النقض في حالة ترك الموصي وصيتين بالثلث في زمن واحد

والأعقد، من هو الفقيه القانوني ؟ هل هو الأكاديمي، أي الأستاذ الجامعي القانوني ؟ وهل يشمل الوصف جميع الأساتذة الجامعيون، أم الأمر يتوقف على درجتهم الأكاديمية بحيث ما يكونون أستاذة التعليم العالي أو مؤهلون أو مساعدون ؟ أم الأمر يتوقف على درجة الإنتاج العلمي من المؤلفات والمقالات والدراسات ؟ وهل المعيار هنا كمي بعدد تلك الإنتاجات أم هو كيفي بجودة تلك الإنتاجات ؟ أم أن المعيار زمني بطول عمر الممارس أو طول مدة عطاءه العلمي ؟ وهل طول المدة دون إنتاج بحثي كفيل بالترقي لهذه الصفة ؟

وهل يمكن للفقه القانوني أن ينصرف إلى فقهي مهني يدخل ضمنه كل من الممارسين للمهن القانونية والقضائية ؟ وكذا مختلف الممارسين لوظائف قانونية في مختلف الإدارات العمومية والمؤسسات والهيئات العامة وشركات الدولة والمقاولات العمومية وشبه العمومية ؟ بل وحتى العاملين في القطاع الخاص القانوني، ولاسيما ظاهرة مكاتب أو شركات الاستشارة والدراسات القانونية ؟

كما أن التساؤل يطرح كذلك حول بعض الأصناف الجديدة من الفاعلين في الفقه، ولاسيما الفقه المؤسساتي، ومن أمثلتها مراكز الأبحاث والدراسات « THINK TANK »، هذه الأخيرة التي عرف المغرب مؤخراً، طفرة نوعية في عددها، فنشأت بذلك العديد من المراكز القانونية المتخصصة في القانون عامة، وكذا في بعض المجالات القانونية المتخصصة.

ونحمد الله، أننا في المغرب لا نسمي الاجتهاد القضائي بالفقه القضائي أو “فقه القضاء” كما تفعل ذلك بعض الأدبيات القانونية المقارنة، وإلا لكان المدلول أكثر حيرة وتداخل، ونحن نتفهم قصدهم، كونهم يقصدون به تلك العمليات الذهنية والفكرية التي يقوم بها القاضي للبحث عن حلول خارج أسواء النصوص القانونية لما يعرض أمامه من نوازل ونزاعات، وهذه العملية نسميها في المغرب بالاجتهاد القضائي تحديداً، تمييزا له عن العمل القضائي الذي يُعْنَى بتطبيق القانون، كوظيفة قضائية تقليدية بامتياز.

الحقيقة، نحن في حاجة لوضع دراسات أكثر تدقيقا وتفصيلا لمؤسسة الفقه، من أجل الإجابة بكيفية علمية لا ينقصها الحجاج، ولا الميتودولوجية، ولعل الفقه أصبح مدعوا أكثر من أي وقت مضى من أجل القيام بقراءة ذاته بذاته، بل هو أصبح في حاجة للقيام بمراقبة ذاتية ورصد ذاتي أقرب ما يكون للكشف عن صحة هذا الجسد، الجسد الفقهي، ولما لا معالجة اكتشاف ما قد يكون يعانيه من أعراض قبل أن يتطور الأمر به إلى مضاعفات أكثر حدة.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)