إبراهيم البعلي : عنصر الضرر في دعوى المطالبة بالشرط الجزائي بين إشكالية تحققه و الإكتفاء بافتراضه

  • من إعداد إبراهيم البعلي خريج الماستر المتخصص في المهن القانونية و القضائية.

تمهيد : 

بما أن الشرط الجزائي عبارة عن تعويض يستحقه الدائن في حالات الامتناع عن التنفيذ أو التأخير في التنفيذ، فإنه يشترط شروطا لاستحقاقه وهي التي تناولتها محكمة التمييز الأردنية في أحد قراراتها إذ جاء فيه:

“من المقرر فقها وقضاءا أنه يشترط لإستحقاق الشرط الجزائي في العقد ما يشترط لقيام المسؤولية العقدية التي استقرت قواعدها في التشريع والفقه المدني على أن أركانها هي: خطأ من جانب المدين، وضرر يصيب الدائن، وعلاقة سببية بين الخطأ والضرر، وإعذار المدين، وهي بذاتها شروط استحقاق الشرط الجزائي”[1]

بناءا على هذا القرار يتضح أنه لا يكفي لقيام مسؤولية المدين العقدية أن يرتكب الخطأ العقدي المتمثل في عدم التنفيذ أو التأخير في التنفيذ، وإنما يجب أن يسبب هذا الخطأ ضررا للطرف الدائن، فالضرر يعتبر ركنا أساسيا لقيام المسؤولية العقدية[2]، لأن من القواعد المتأصلة في القانون المدني أنه لا مسؤولية بدون خطأ ولا تعويض بدون ضرر.

والضرر هو الصورة الملموسة التي تتمثل فيها نتائج الخطأ العقدي، وهذا يعني أن الخطأ إذا لم يترتب عنه أي ضرر فإنه لا مجال لإعمال قواعد المسؤولية العقدية[3]، فلا يكفي أن يخل شخص بالتزامه لكي يصبح ملزما بالتعويض، بل لابد من أن يترتب عن هذا الإخلال ضرر يصيب المدعي وإلا ردت دعواه، لأن ضرورة تحقق الضرر ما هي إلا تطبيق للقاعدة العامة التي تقضي بأنه “لا مصلحة لا دعوى”[4]، ويقصد بالضرر حسب الفصل 264 من ق.ل.ع بأنه: “ما لحق الدائن من خسارة حقيقية وما فاته من كسب متى كانا ناتجين مباشرة عن عدم الوفاء بالإلتزام”.

فإذا كان هذا هو الوضع في القواعد العامة للمسؤولية العقدية، فإن الأمر عندما يتعلق بالشرط الجزائي يطرح مجموعة إشكالات ولعل أبرزها وأهمها: هل يستحق الشرط الجزائي بمجرد الإخلال ؟ أم أن الأمر يستلزم ضرورة تحقق الضرر؟ خصوصا عندما نعلم أن الأطراف قد افترضوا هذا العنصر وقدروا هذا الضرر قبل تحققه، وذلك إبعادا منهم لسلطة القضاء في تقديره، وتوفيرا للوقت وتجنبا للإجراءات القضائية البطيئة، إن الأمر يتطلب مزيد من التفصيل والتدقيق للإجابة عن هذا الإشكال الذي اختلفت حوله الآراء الفقهية وتضاربت فيه الإجتهادات القضائية، بحيث هناك من يعتبر تحقق الضرر شرط ضروري لاستحقاق الشرط الجزائي ولهم في ذلك حجج (الفقرة الأولى)، بينما الموقف الثاني يرى أن الضرر مفترض الوقوع وأن عناصر استحقاق الشرط الجزائي لها خصوصية تميزها عن القواعد العامة في المسؤولية المدنية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : الموقف القائل بضرورة تحقق الضرر للحكم بالشرط الجزائي

لا يتحقق الشرط الجزائي إذا لم يكن هناك ضرر أصاب الدائن، ذلك أن الضرر من أركان استحقاق التعويض، فإذا لم يوجد ضرر لم يكن التعويض مستحقا[5]، فهذا التوجه يستند على المادة 1229 من القانون المدني الفرنسي والتي جاء فيها: “أن الشرط الجزائي هو مقابل التعويض عن الأضرار والعطل الذي يتحمله المدين من جراء عدم تنفيذ الإلتزام الأصلي”[6].

وهو نفس النص الذي استندت عليه محكمة النقض الفرنسية عند إصدار قرارها الذي ينص على أنه “يشترط لتطبيق الشرط الجزائي وجود ضرر، لكن هذا التفسير لم يلاق إتباع الكثيرين وسارت أغلب المحاكم على تفسير مخالف”[7]، فإخلال المدين بالتزامه الأصلي، وإن كان يشكل قرينة على حصول الضرر للدائن، إلا أنه يبقى بإمكان المدين هدم هذه القرينة بإثبات غياب الضرر، وبالتالي التخلص من مبلغ الشرط الجزائي، لأن من شروط استحقاق التعويض بصفة عامة حصول ضرر للدائن، وقد سبق لمحكمة النقض الفرنسية أن نقضت حكما قضى بإعفاء المدين من تنفيذ الشرط الجزائي، لأنه مبالغ فيه كثيرا، معللة قرارها بأن الحكم المطعون فيه لم يتأكد-لإقرار ذلك الإعفاء- من أي ضرر لم يصب الدائن، مما يعني أن استحقاق الشرط الجزائي مرتبط بوقوع الضرر[8].

أما الوضع في مصر فقد كان يعرف اضطرابا كبيرا على مستوى العمل القضائي، بحيث كانت بعض المحاكم تشترط حصول الضرر مثل قرار محكمة الإستئناف الأهلية بمصر، والتي جاء في قرارها: “لا محل للأخذ بالشرط الجزائي إذا لم يثبت حصول الضرر”[9].

بينما توجه محاكم أخرى كان يقضي بعدم اشتراط تحقق الضرر، لتحسم بعدها محكمة الإستئناف الوطنية في الأمر مشترطة حصول ضرر لاستحقاق الشرط الجزائي، وقد تبنى المشرع المصري هذا الموقف في القانون المدني الصادر في 16 يوليوز 1948، بحيث نص في الفقرة الأولى من المادة 224 من القانون المدني :  “لا يكون التعويض الإتفاقي مستحقا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر”.

وبهذا يكون المشرع المصري قد اشترط بشكل صريح تحقق الضرر لاستحقاق الشرط الجزائي، كما يكون قد خرج عن الأصل في مسألة عبء الإثبات، وقلب القاعدة التي تقضي ب “أن البينة على المدعي”، فهذا من خصوصيات القواعد المنظمة للشرط الجزائي، بحيث أصبح الضرر مفترضا وقائما على قرينة يمكن دحضها وإبطالها بإثبات أن الدائن لم يلحقه أي ضرر.

وقد سار على هذا المنوال كل من المشرع الأردني في المادة 364[10] من القانون المدني، والقانون المدني الجزائري في المادة 184[11]، فكل هذه التشريعات لم تفرق بين الضرر في القواعد العامة للمسؤولية المدنية في شقها العقدي، والضرر في الشرط الجزائي إلا على مستوى الإثبات، بحيث كل هذه التشريعات قلبت القاعدة وجعلت عبء الإثبات على عاتق المدين لكونه ضرر مفترض.

وهذا ما أكده قرار محكمة التمييز الأردنية بتاريخ 2008-10-11 والذي جاء فيه:” يستفاد من المادة 364 من القانون المدني أنه إذا اتفق طرفا العقد على قيمة الضمان في حالة إخلال أحدهما بشروط العقد المتفق عليه وهو ما اصطلح على تسميته بالشرط الجزائي، فإن مثل هذا الشرط يجعل وقوع الضرر مفترضا”[12]، نفس التوجه تبنته محكمة النقض المصرية بحيث جاء في أحد قراراتها:” من المقرر عدم تنفيذ المدين لإلتزامه التعاقدي يعتبر خطأ بذاته يرتب مسؤوليته، وأن النص في العقد على الشرط الجزائي يجعل الضرر واقعا ومفترضا، ولا يكلف الدائن بإثباته، بل يقع على المدين إثبات عدم تحققه”[13].

لئن كان هذا هو الوضع في القانون المقارن فما هو موقف المشرع والقضاء المغربي؟ إن الآراء الفقهية اختلفت و الإجتهادات القضائية تضاربت حول مسألة تحقق الضرر للقول باستحقاق الشرط الجزائي، لكن ما يهمنا في هذا المحور هو موقف القائلين باشتراط تحقق الضرر، لنرجئ الحديث عن الموقف الآخر في حينه، فقبل التعديل الذي طال الفصل 264 من ق.ل.ع طالعتنا محكمة النقض المغربية في أحد قراراتها بقولها: ” لكن حيث إن القرار  بتعليله رفض الطلب…يكون المالك الذي لم يكن يتقاضى كراء المحل المستغل من طرف المكتري، والذي كان محروما من جهة أخرى، من كراء المحل موضوع النزاع خلال مدة البناء ليست له مصلحة في التماطل في إنهاء الأشغال وتسليم المحل للمكتري الذي كان يتعاطي تجارته بصفة عادية بالمحل الموضوع رهن إشارته من طرف المكري بدون كراء فلم يلحقه أي ضرر يكون قد علل ما قضى به تعليلا سليما وكافيا.

مقال قد يهمك :   الإشكاليات العملية لجنحة عدم وضع الكمامة الواقية

… و حيث إن الوسيلة لم تبين ما هو الخرق الذي ارتكبه القرار… فإنه أسس ما قضى به كما أشير في الوسيلة الأولى، على أن أي ضرر لم يحصل له يستوجب التعويض المطالب به[14].

وسيرا على خطاها محكمة الإستئناف بالدار البيضاء في قرارها الصادر في 7-03-1985 بحيث جاء في إحدى حيثياته  “وحيث إن التعويض المشروط بالعقد مبالغ فيه، وهو كشرط جزائي عن عدم تنفيذ الإلتزام. وقد استقر الإجتهاد على أن الشرط الجزائي يرجع للمحكمة حق تعديله لجعله مناسبا لتغطية الضرر، إذ الضرورات تقدر بقدرها، وحيث توصل البائع بنصف ثمن العقار المبيع… وحيث إن المحكمة بما لها من سلطة تقديرية ترى أن المبالغ المدفوعة والبالغة 5500 درهم كافية لتغطية التعويض..”[15].

وحتى بعد التعديل الذي طال الفصل 264 فإن محكمة النقض المغربية أصدرت قرارا يستنتج منه أن الضرر عنصر لازم التحقق للحكم بالشرط الجزائي، وهو ما يستفاد من هذه الحيثية ” لكن حيث إن الغرامة التعاقدية باعتبارها تسمية متداولة للشرط الجزائي الذي هو اتفاق مسبق للتعويض عن الأضرار التي قد تلحق الدائن من جراء عدم الوفاء بالإلتزام الأصلي كليا أو جزئيا أو عن التأخير في التنفيذ كما تقضي بذلك الفقرة الثانية من الفصل 264 من ق.ل.ع ويتعين على من يريد المطالبة بها-أي الغرامة التعاقدية- أن يقدم بذلك دعوى حتى تتحقق المحكمة من توافر شروط الحكم بها من عدمه وتعديلها بالزيادة أو النقصان وفق مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل المذكور”[16].

الملاحظ أن هذه القرارات القضائية لم تفصح بشكل واضح عن ضرورة تحقق الضرر، فالشرط الجزائي في نظر هذه الإتجاهات التشريعية والقضائية شأنه شأن التعويض القضائي المحكوم به في إطار القواعد العامة، حيث يشترط في تطبيقه حدوث ضرر في جانب الدائن، وإن كان هذا الضرر مفترض الوقوع عند عدم الوفاء بالإلتزام الأصلي، فلا يعدو أن يكون سوى شكلا أو وجها آخر للتعويض القضائي، كما يعتبرون أن تخويل القضاء سلطة المراجعة إما بالزيادة أو التخفيض من قيمته هو دليل قاطع على ضرورة تحقق الضرر، ومن ثم فإن المحكمة تعدل مقدار هذا التعويض كي يتناسب وحجم الضرر المحقق.

فإذا كان هذا هو توجه القائلين بضرورة تحقق الضرر لإستحقاق الشرط الجزائي، فإن هناك اتجاها آخر يقول بخلاف هذا، بحيث يكتفي بتحقق إخلال المدين للقول بالحق في المطالبة بالشرط الجزائي دون تحقق عنصر الضرر لأنه أمر مفترض.

فكيف دافع هؤلاء عن موقفهم ؟ وكيف يمكننا تقييم هذه المواقف وترجيح أحدهما عن الآخر.

الفقرة الثانية : الإتجاه القائل باستحقاق الشرط الجزائي بمجرد الإخلال

بخلاف التوجه السابق الذي يربط استحقاق الشرط الجزائي بضرورة تحقق عنصر الضرر، فإن هناك توجها فقهيا[17] وقضائيا يرى خلاف هذا، بحيث يكتفي بالقول بتحقق الإخلال بالإلتزام لاستحقاق الشرط الجزائي، وهذا هو التوجه الذي نسايره ولنا في ذلك ما يفيد ويفند الطرح السابق، فهذا التوجه كان سائدا قبل تعديل سنة 1975 في فرنسا وذلك استنادا إلى المادة 1152 التي جاء فيها: “إذا ذكر في الإتفاق أن الطرف الذي يقصر في تنفيذ التزامه يدفع مبلغا معينا من النقود على سبيل التعويض، فلا يجوز أن يعطي للطرف الآخر مبلغا أقل ولا أكثر”.[18]

فالقضاء الفرنسي في غالبه كان مستقرا قبل التعديل وحتى بعده – رغم الإضطراب الذي حصل بعد صدور قانون رقم 597-75 بتاريخ 9 يوليوز 1975- على أن الشرط الجزائي يستحق بمجرد الإخلال بدون حاجة للتحقق من عنصر الضرر، لأنه أمر مفترض، ولأن اتفاق الأطراف على شرط جزائي كتعويض معناه أنهما مسلمان بأن إخلال المدين بالتزاماته يحدث ضررا، ومن الإجتهادات القضائية في هذا الصدد نجد قرارا لمحكمة النقض الفرنسية حيث قضت فيه بنقض قرار أعفى المدين من أداء الشرط الجزائي بدعوى أن الدائن لم يلحقه ضرر، وقد جاء فيه: “… أن الطرفين حرين في أن يحددا بإرادتهما الحرة وسائل الإكراه التي تستهدف حتى في غياب أي ضرر، ضمان تنفيذ الإتفاق… تكون قد خرقت المواد 1226 و 1152 من القانون المدني”[19].

نفس الأمر سار عليه القضاء المغربي قبل تعديل سنة 1995، لا بالنسبة لمحاكم الموضوع أو محكمة النقض في أغلب المقررات، و ذلك اقتداءا باجتهاد القضاء والقانون الفرنسي، بحيث يعتبر أن الشرط الجزائي تعويض مستحق بغض النظر عن تحقق الضرر في جانب المدين أم لا، وذلك استنادا إلى الفصل 230 من ق.ل.ع واحتراما لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، وقد جاء في قرار لمحكمة الإستئناف بالدار البيضاء ما يلي: ” وحيث إن اجتهاد هذه المحكمة وذلك سيرا على القانون المدني الفرنسي والقضاء الفرنسي الذي أكد أن الشرط الجزائي متحقق حتى لو لم يثبت الدائن أن هناك ضرر أصابه، فإن اتفاق الطرفين على الشرط الجزائي وتقديرهما مقدما للتعويض المستحق معناه أنهما مسلمان بأن إخلال المدين بالتزامه يحدث ضررا اتفقا على المقدار اللازم لتعويضه، إذ يكون الغرض من هذا الشرط الجزائي منع أي جدل يدور حول وقوع الضرر ومقدار تعويضه”[20].

وإن واقعة هذه القضية تتمثل في أن طرفي العقد ضمنا في العقد أنه في حالة عدم إفراغ محتل لمحل في تاريخ محدد، يلتزم هذا الأخير بأن يؤدي مبلغ 1000.00 درهم عن كل يوم تأخير، فإن هذا البند يشكل شرطا جزائيا، مما قضت معه المحكمة بأنه واجب التطبيق حتى إذا لم يثبت الدائن  حقيقة الضرر اللاحق به، لأن الغرض من الشرط الجزائي كما جاء في القرار هو منع أي جدل حول وقوع الضرر، لأنه ثابت ومفترض الوقوع.

كما كرست هذا التوجه ابتدائية فاس في حكمها من خلال ردها على المدعى عليه الذي التمس إعفاءه من الشرط الجزائي، على اعتبار أن المدعية لم يلحقها أي ضرر، بحيث جاء جواب المحكمة هكذا : ” حيث ثابت من العقد المضاف للنازلة في بنده السابع التزام الفريق المدعى عليه بإبرام البيع النهائي بتاريخ 15 نونبر 1988 تحت طائلة أداء تعويض شهري قدره 1500 درهم وأنه لم يحرر العقد النهائي إلا بتاريخ 10 -08-1989 مما يكون المدعي محقا في طلب تحقيق الشرط الجزائي”[21].

فهذا الإتجاه يرى أن المتعاقدين قد أرادا باتفاقهما على الشرط الجزائي إلزام المدين في جميع الحالات، وبمجرد حدوث إخلال، وأنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل تصور وقوع الإخلال دون حصول أي ضرر، وحتى مع إمكانية افتراض تحقق الضرر فإن الشرط الجزائي عند الإتفاق عليه في البداية كان أساسه هو الضرر الذي من المفروض أن يحدثه الإخلال، لذلك فإن مبدأ القوة الملزمة للعقد و الإحترام اللازم لإرادة الأفراد يبرر استحقاق مبلغ الشرط الجزائي حتى في حالة عدم وجود ضرر حقيقي، فالمتعاقدان أقرا باتفاقهما أن الضرر موجود فليس للقاضي أن يسير في نقيض توقعاتهما[22].

مقال قد يهمك :   محمد حاجي يناقش رسالة ماستر تحت عنوان: "الدعاوى الناجمة عن تأسيس الرسم العقاري"

لكن السؤال المطروح هو ما موقف المشرع المغربي بعد التعديل، وهل حافظ القضاء المغربي على نفس الموقف ؟

من خلال بحثنا في مختلف المراجع والبحوث التي تناولت الموضوع، وكذا الإطلاع على المقررات[23] القضائية المنشورة وغيرالمنشورة، يتضح أن التوجه الغالب والمسيطر هو الحكم بالشرط الجزائي بمجرد الإخلال، دون الإلتفات إلى تحقق الضرر كأصل، لأنه أمر مفترض ويعفى الدائن من إثباته، وهذا ما ثبت من خلال قرار محكمة النقض المغربية، إذ جاء فيه ما يلي: “حيث يستفاد من أوراق الملف ومن القرار المطعون فيه رقم 1-263 الصادر يوم 2011-01-17 عن محكمة الإستئناف بالدار البيضاء… أن المطلوبة في النقض ادعت أنها اشترت من الطاعنة فيلا في طور الإنجاز التزمت بتسليمها لها قبل 2007-06-30 تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها 500 درهم عن كل يم تأخير، غير أنها أي الطاعنة لم تمكنها من الفيلا إلا يوم 2008-06-04 والتمست الحكم عليها بأدائها لها 170000 درهم المترتب عن الغرامة التهديدية عن المدة من 07-07-01 إلى 08-06-04، وبعد استدعاء الطاعنة بقيم صدر الحكم الإبتدائي وفق الطلب…”[24].

فبحسب هذا القرار يتضح أن الحكم الإبتدائي والقرار الإستئنافي الذي أيد الحكم المستأنف، اكتفيا بالتأكد من وجود الإخلال بدون حاجة للتثبت من وجود ضرر أم لا، وذلك وفق ما وقع واتفق عليه أطراف الدعوى ، بل حتى رد محكمة النقض في نفس القرار على ما عابته الطاعنة في شأن الوسيلة الثانية ويتعلق الأمر بأن الطاعنة ترى خرق الفصول 319/347/350 من ق.ل.ع بحيث أن قرار المحكمة لم يأخذ بعين الإعتبار عقد البيع النهائي وأن الإلتزامات تنقضي بالتجديد، فجاء رد المحكمة هكذا: ” لكن حيث لما كان الالتزام ينقضي بأداء محله للدائن وفقا للشروط التي يحددها الإتفاق، ولما كان التجديد هو انقضاء التزام مقابل التزام يحل محله ويجب التصريح بالرغبة في إجرائه حسب الفصل 347 فإن عدم تنفيذ الطاعنة لالتزامها بتسليم المطلوبة في النقض من مشتراها قبل 2007/06/30 يبقي على الشرط الجزائي المنصوص عليه في الفصل 6 من عقد الوعد بالبيع، ولا يشكل تجديدا لهذا الإلتزام توقيع المطلوبة في النقض على العقد النهائي مادام لم  يرد به صراحة تنازلها عن ذلك الشرط الجزائي، والمحكمة مصدرة القرار لما أخذت بما ورد بالوعد بالبيع من جزاء في حالة عدم تنفيذ الطاعنة لالتزاماتها قبل 2007/06/30 لم تخرق المقتضيات المحتج بها التي لا ينطبق على الدعوى والوسيلة على غير أساس”

إذن هذا إقرار صريح من المحكمة الإبتدائية ومحكمة الإستئناف ومحكمة النقض بأن الشرط الجزائي يستحق بمجرد الإخلال بتنفيذ الإلتزام، وذلك من خلال هذه العبارات: “فإن عدم تنفيذ الطاعنة لإلتزامها بتسليم المطلوبة في النقض من مشتراها قبل 2007/06/30 يبقي على الشرط الجزائي”.

وفي قرار آخر حديث لمحكمة النقض قضت فيه بنقض القرار الإستئنافي لأنه أعمل سلطته التقديرية في تقدير التعويض بتخفيضه إلى 10000 درهم، في حين أن التعويض المتفق عليه في عقد التأمين محدد في 30000 درهم، فالشاهد عندنا هو ما جاء في رد محكمة النقض: “حيث إن المبلغ المحدد في عقد التأمين ليس بتعويض يمكن تحديده بناءا على نسبة العجز وإعمال السلطة التقديرية في تقديره وإنما هو تعويض اتفاقي التزمت المطلوبة في النقض بأدائه لسائق سيارة الأجرة الصغيرة ذات المأذونية رقم 868 بمجرد تحقق إصابته بعجز دائم أيا كانت نسبته ومحكمة الإستئناف بقضائها للطاعن بالمبلغ المحكوم به اعتمادا منها على نسبة العجز وعلى سلطتها التقديرية تكون قد طبقت عقد التأمين بين الطرفين تطبيقا خاطئا فجاء قرارها خارقا للفصل 230 ق.ل.ع وعرضته للنقض”[25].

أول ما يمكن ملاحظته على هذا القرار هو أنه اعتمد على قدسية العقد التي يكرسها الفصل 230 من ق.ل.ع، مستبعدا بذلك التعديل الذي طرأ على الفصل 264 من نفس القانون، واعتبر أن تدخل المحكمة في التعويض هو خرق للفصل 230 في حين أنه نص عام وأن الفقرة الأخيرة من الفصل 264 اسثتناء منه، أما الشاهد عندنا فهي العبارة المسطر عليها في القرار، والتي تدل على أن الشرط الجزائي يستحق بمجرد تحقق الإخلال الذي يتخذ هنا صورة إصابة السائق، لأن الضرر مفترض ومتفق عليه قبل العقد، وأن التعويض مستحق بمجرد الإصابة، إلا إذا أثبت المدين أن التعويض مبالغ فيه لدرجة كبيرة فإنه يبقى للمحكمة التدخل من أجل مراجعته.

كما سبق أن نقضت محكمة النقض المغربية قرارا لمحكمة الإستئناف التجارية بالدار البيضاء، لأنه اعتبر أن توقيع المشتري على العقد النهائي بمثابة تنازل عن عقد الوعد بالبيع، والذي تضمن التزام البائعة بالتسليم النهائي للمبيع في أجل لا يتعدى 2007/03/31، في حين أن التسليم لم يقع إلا بتاريخ 2008/12/17، أي بعد 21 شهر من التاريخ المتفق عليه، وبالتالي لا محل لإعمال الشرط الجزائي لأن إبرام العقد النهائي بمثابة تنازل في نظر محكمة الإستئناف، لكن محكمة النقض كانت متفقة مع الحكم الإبتدائي الذي حكم لفائدة المشتري بشرط جزائي نظرا للتأخير الحاصل في التسليم دون اعتبار لعنصر الضرر وقد كان قدره 160.000.00 درهم بعدما أعملت سلطتها في تعديله، وما كان من محكمة النقض إلا أن تنقض القرار الإستئنافي معللة قرارها بما يلي: ” ولا علاقة لهذا الشرط بالشروط الواردة في البيع الإبتدائي المتعلقة بأجل إنجاز الأشغال والجزاءات المترتبة عن ذلك في  حالة التأخير….وحيث إن الدعوى كما هو مأخوذ من مقالها الافتتاحي ترمي إلى الحكم بالتعويض المتفق عليه في عقد الوعد بالبيع الذي تضمن التزام البائعة بأن يكون التسليم النهائي للمبيع في أجل لا يتعدى 07/3/31 تحت طائلة أدائها تعويضا لفائدة المشتري الطاعن في حالة التأخير في تنفيذ الالتزام المتفق عليه…”[26].

فمن خلال هذه القرارات يتضح جليا أن المحكمة لا تتأكد إلا من وجود إخلال من جانب المدين لتقرير الشرط الجزائي، أما الضرر فهو عنصر مفترض من قبل الأطراف و بالتبع كان لزاما عدم البحث فيه.

ختاما يستفاد مما سبق أن التوجه الثاني هو التوجه السليم ، وذلك لعدة اعتبارات:

لأن التعديل الذي طرأ على الفصل 264 مس فقط القرينة التى كانت تربط استحقاق الشرط الجزائي بالإخلال، بحيث كانت قبل التعديل قرينة قاطعة لا تقبل العكس، أما بعد التعديل فقد صار الإخلال بالإلتزام لا نقول عنه دليل يمكن دحضه، بل يمكن عن طريقه تخفيض التعويض إلى الحد الذي يتماشى والطبيعة الثنائية المزدوجة للشرط الجزائي، والمتمثلة في التهديد والتعويض، لأن الممارسة العقدية أبانت عن استغلال الطرف الضعيف عن طريق شروط جزائية مجحفة، وبالتالي فإن تخويل القضاء سلطة المراجعة هو من باب الحفاظ على حيوية هذه المؤسسة، وحماية الطرف الضعيف، فكما يمكن للمدين إثبات الغلو في تقدير الشرط الجزائي، فإن الدائن بإمكانه إثبات هزالة التعويض.

مقال قد يهمك :   إصلاح قطاع الأمن على ضوء التزامات المغرب في مجال حقوق الإنسان

أما الإعفاء الكلي من الشرط الجزائي فمن شأنه أن يفرغ هذه المؤسسة البالغة الأهمية من حقيقتها ودورها الرئيسي، وإن الإتجاه الأول الذي يرى إمكانية الإعفاء من الشرط الجزائي بمجرد إثبات عدم تحقق الضرر ينسى الوظيفة التهديدية المنوطة بالشرط الجزائي، كما يجرد الشرط الجزائي من طبيعته الاتفاقية وذلك بإعدامها، في حين أنه من خلالها يسعى أطراف العلاقة التعاقدية إلى تفادي الصعوبات التي يواجهها المتقاضين عند مطالبتهم بالتعويض القضائي، وبالتالي يساوي ذلك التوجه بين الشرط الجزائي كتعويض اتفاقي، والتعويض القضائي في حين أنهما مختلفان.

كما أنه لا ينتبه إلى أن الشرط الجزائي نشأ بإرادة الأطراف، وبالتالي وجب احترامه خصوصا أمام الفصل 230 الذي يرفع من قيمة الإلتزامات الصحيحة إلى درجة القانون، وأن له قدسية يجب احترامها وعدم المساس بها، إلا اسثتناءا عندما يتطلب القانون ذلك في حالة عدم استعمال الشرط الجزائي بالطريقة التي ينبغي أن يكون عليها، وذلك في إطار محاربة الشروط الجزائية التعسفية ومقاومة للإستغلال من أجل خلق نوع من التوازن العقدي.


الهوامش : 

[1] – قرار محكمة التمييز. رقم: 2002-444. تاريخ 25-6-.2002 أورده هشام علالي: “الشرط الجزائي”. مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 155 سنة 2017 ص: 111.

[2] – نزهة الخلدي: “الموجز في النظرية العامة للإلتزامات: مصادر الإلتزام، الكتاب الثاني المسؤولية المدنية” مطبعة تطوان، الطبعة الأولى سنة 2015، ص: 60.

[3] – عبد القادر العرعاري: “مصادر الإلتزامات: الكتاب الثاني: المسؤولية المدنية”، مطبعة الأمنية الرباط، الطبعة الثالثة سنة 2014 ص: 50.

[4] – مصطفى الكيلة: “التقدير القضائي للتعويض”. منشورات مجلة الحقوق المغربية، سلسلة دراسات قضائية، العدد الأول، نونبر 2008، مطبعة الأمنية الرباط، الطبعة الأولى، سنة: 2009، ص:34.

[5]– أمحمد الأمراني زنطار: “القانون الإجتماعي بين الطابع الحمائي الشرط الجزائي”، مقال منشور بمجلة: المحامي عدد: 21، سنة 1991 ص: 98.

[6]– Article 1229: “la clause pénale est la compensation des dommages-intérest que la créancier souffre de l’inexécution de l’lobligation principale”.

[7] – عبد الهادي نجار:”دور القاضي في تعديل العقد”، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، جامعة القاضي عياض كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية مراكش، السنة الدراسية 2009-2010. ص: 374.

[8] – عبد الرزاق أيوب:”سلطة القاضي في تعديل التعويض الإتفاقي دراسة مقارنة” سلسلة الدراسات القانونية المعاصرة، العدد 5 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2003.ص: 43.

[9]– قرار محكمة الإستئناف الأهلية، بتاريخ: 1923-01-30، أورده عبد الهادي نجار: م.س.ص: 376.

[10]– تنص المادة 364 “ويجوز للمحكمة في جميع الأحوال بناءا على طلب أحد الطرفين أن تعدل في هذا الإتفاق بما يجعل التقدير مساويا للضرر ويقع باطلا كل شرط مخالف”.

[11]– تنص المادة 184 ” لا يكون التعويض المحدد في الإتفاق مستحقا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر”.

[12]– قرار محكمة التمييز الأردنية بتاريخ 11\10\2008 (د.ذ.ر.م.ق) أشار إليه محمد بالفقير: “حدود سلطة القاضي في تعديل التعويض الإتفاقي” مقال منشور بكتاب قانون الإلتزامات والعقود بعد مرور 100 سنة، أشغال الملتقى الدولي الذي نظمه مختبر الدراسات المدنية والعقارية بكلية الحقوق بمراكش، ونادي قضاة المغرب يومي 14 و 15 يونيو 2013 تكريما للدكتور المختار العطار، سلسلة الندوات والأيام الدراسية، العدد 42، الطبعة الأولى سنة 2013. ص:439.

[13] – قرار أشار إليه هشام علالي: م.س. ص: 115.

[14]– قرار المجلس الأعلى عدد: 1422. بتاريخ: 1983-09-21، في الملف عدد: 90301، لدى عبد الهادي نجار.م.س.ص: 378.

[15] – قرار محكمة الإستئناف الدار البيضاء، عدد: 748، في الملف المدني، عدد: 2759-83، أنظر القرار كاملا لدى أحمد ادريوش:الاجتهاد القضائي المغربي في ميدان ق.ل.ع. كموضوع للبحوث والدراسات، ويليه القانون رقم 27.95 المتعلق بالتعويض الإتفاقي، وتعليق على قرار المجلس الأعلى متعلق بشروط ضمان البائع للصفات” سلسلة المعرفة القانونية، العدد 4 سنة 1996، ص ص: 171 – 174.

[16]– قرار المجلس الأعلى، عدد 605، في الملف التجاري عدد: 2007-1-3-367 بتاريخ 23 ماي 2007، أشار إليه محمد شكور: “سلطة القاضي في تعديل العقد دراسة في ضوء هير الإلتزامات والعقود والقانون رقم 31.08” رسالة لنيل شهادة الماستر، جامعة الحسن الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسطات، السنة الجامعية 2015\2016، ص: 139.

[17]– يمثله في المغرب كل من الأساتذة:

– فؤاد معلال:  “الشرط الجزائي في القانون المغربي” أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبدالله، كلية الحقوق فاس، السنة الجامعبة، 1992\1993، ص:160

– عبد الرزاق أيوب:م.س.ص:46.

[18]– Article 1152:” lorsque la convention porte que celui qui manquera de l’exécuter paye une certaine somme à titre dommage-interest, il ne peut être alloué à l’autre partie une somme plus forte, ni moindre”.

[19]– قرار أشار إليه عبد الهادي نجار.م.س.ص: 375.

[20]– قرار محكمة الإستئناف التجارية بالدار البيضاء- الغرفة التجارية- عدد 144 بتاريخ 19 يناير 1988.

–  ورد كاملا لدى أحمد ادريوش:م.س.ص ص: 177 – 179.

[21]– أشار إليه فؤاد معلال.م.س.ص: 159.

[22]– فؤاد معلال.م.س.ص: 138.

[23]– يطلق لفظ المقرر القضائي على كل من الحكم الذي يصدر عن المحاكم الإبتدائية، والقرار الذي يصدر عن محاكم الإستئناف ومحكمة النقض والغرف الإستئنافية بالمحاكم الإبتدائية، لذا عندما نستعين في تحليلنا بأحكام وقرارات فإننا نفضل إطلاق لفظ المقرر القضائي لأنه يشملها جميعها.

[24]– قرار محكمة النقض، عدد 2/78. بتاريخ 2013/02/05، ملف مدني، عدد: 2012/2/1/521، غير منشور.

[25]– قرار محكمة النقض، عدد 2/296، بتاريخ 2014/04/22، ملف مدني عدد 2013/2/1/4833، غير منشور.

[26] – قرار محكمة نقض، عدد 2/660، المؤرخ في 2013/12/12، ملف تجاري عدد 2011/2/3/953، غير منشور.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)