إدريس فجر يرصد ثغرات قانونية في مدونة الشغل المغربية

إدريس فجر دكتور في الحقوق

ثغرات في مدونة الشغل

تمهيد:

التشريعات الجيدة حتى لا أقول الناجحة أو المتفوقة -لأن التجربة والممارسة والتطبيقات هي خير من يحكم على التشريع بالنجاح أو الفشل- المهم أن التشريعات الجيدة هي من الناحية النظرية ((حكم على شيء معين))، والحكم على الشيء فرع من تصوره كما تقول القاعدة الأصولية و((المغزى من وراء هذه القاعدة أنه لكي يتم إصدار الأحكام على أشياء معينة (أقول أو أفعال أو تصرفات معينة)، لا بد من تصور ذلك الشيء المعروض لإصدار الحكم فيه، بمعنى فهمه واستيعابه بدرجة تمكن الناظر فيه من أخذ فكرة متكاملة عنه حتى يأتي حكمه مطابقاً لما يحمله ذلك الرأي أو الفعل من محاذير أو أخطاء ارتآها ذلك الناظر فيه، أو العكس في حالة القول بمزايا ومحاسن ذلك القول أو الفعل…)) (يوسف أبا الخيل، جريدة الرياض، 13/9/2005)، ولهذا فالمطلوب من المشرع قبل وضع القاعدة القانونية أن يتصور أو أن يتخيل كل الفرضيات والاحتمالات التي تصدر أو تنشأ بمناسبة التطبيق سواء لصالح هذا الطرف أو ذاك، مثلا كحالة الزوج والزوجة في مدونة الأسرة، المواطن في مواجهة الإدارة العمومية، الدائن والمدين في العقد، الأجير والمشغل في عقد الشغل الذي تنظمه كما هو معلوم مدونة الشغل التي لاحظ عليها البعض جملة من الثغرات، لأن المشرع -ربما- حكم على الشيء قبل أن يتصوره في كل تصوراته وتجلياته، بمعنى أنه لم يتوقع مختلف الحالات والإشكالات التطبيقية للنص التي قد تنجم عنه، وهو ما قد يلحق الضرر بهذا الطرف أو ذاك في علاقة الشغل، ونعطي مثالا لذلك من خلال قراءة بسيطة للمادة 39 من مدونة الشغل.

1 – النص القانوني:

المادة 39 من مدونة الشغل تنص على أنه يعتبر بمثابة خطأ جسيم يبرر إنهاء عقد الشغل فورا مع الأجير في حالة:

مقال قد يهمك :   الآثار القانونية لتصميم التهيئة بين النص القانوني و العمل القضائي

((… استعمال أي نوع من أنواع العنف والاعتداء البدني الموجه ضد أجير أو مشغل أو من ينوب عنه لعرقلة سير المقاولة. يقوم مفتش الشغل في هذه الحالة الأخيرة بمعاينة عرقلة سير المؤسسة وتحرير محضر بشأنها)).

2 – الإشكالية:

يتبين من استقراء نص المادة 39 في فقرتيها الأخيرة وما قبل الأخيرة أن مشرع مدونة الشغل حاول أن يضع معادلة متوازنة، تتجسد في ارتكاب الأجير لعنف أو اعتداء من جهة (الشق الأول)، نتجت عنه عرقلة لسير المقاولة من جهة أخرى (الشق الثاني)، وكيف المشرع كل ذلك بأنه خطأ جسيم بمفهوم المادة 39 من م.ش يبرر إنهاء عقد الشغل فورا، استنتاج مقبول، ومنطق معقول إلى حد ما، مع مراعاة المناقشة الآتية بعده.

3- المناقشة:

يلاحظ على مشرع مدونة الشغل لسنة 2003:

أ – انه تجنب القول ما إذا كان ذلك العنف او الاعتداء الصادر عن الاجير قد وقع بمناسبة القيام بالاضراب شنه العمال بشكل قانوني ، أم لا .

ب – المشرع جعل من مفتش الشغل احد شهود عادل إمام أي (( شاهد ما شاف شي حاجة )) لأن المشرع قصر دوره على معاينة الشق الثاني من المعادلة أي عرقلة سير المقاولة ، أما الشق الأول من المعادلة أي ارتكاب الأجير لعنف او اعتداء نتجت عنه عرقلة لسير المقاولة فلقد سكت عنه المشرع، وهنا اختل ميزان التشريع، مما أدى إلى وجود ثغرة بمدونة الشغل وفي المادة 39 منها.

ج – ثم إذا أرادت النقابة أو الأجير الطعن في المحضر المحرر من طرف مفتش الشغل فأمام أية جهة قضائية سيفعل ذلك: هل أمام القضاء الاجتماعي / قاضي منازعات الشغل، وهو القاضي الطبيعي لمراقبة تطبيق مدونة الشغل؟ أم أمام القضاء الإداري على اعتبار أن المفتش المذكور هو جهة إدارية؟ أم أمام القضاء الجنائي في حالة متابعة الأجير بتهمة عرقلة حرية العمل التي ما فتئت المركزيات النقابية تطالب بإسقاطها من لائحة الجرائم المنصوص عليها في مجموعة القانون الجنائي؟ ورب قائل يقول بأن الطعن في محضر معاينة عرقلة سير المقاولة أمام تلك الجهات القضائية جائز من غير أن نغفل مبدأ “الجنائي يعقل المدني” وهو ما يعطي الأولوية للقضاء الجنائي على حساب باقي الجهات القضائية الأخرى للبت في مثل هذا الطعن في حالة ما إذا طرح عليه، على اعتبار أن القاضي الجنائي هو الحامي بالدرجة الأولى لحقوق وحريات الأفراد.

مقال قد يهمك :   مبدأ حسن النية (la bonne foi) في العقود: قراءة تأصيلية

ختاما:

نقول بأنه لم يكن على مدونة الشغل أن تقحم مؤسسة مفتش الشغل في نزاعات الشغل من هذا النوع، لما لها من حساسية شديدة أي ((معاينة عرقلة سير المقاولة)) حتى تحافظ هيئة مفتشي الشغل على استقلاليتها تجاه الأطراف كافة، كما تهدف إلى ذلك الاتفاقية الدولية للشغل رقم 81 أو الاتفاقية رقم 129 في مادتها السادسة، فلو اعتبرنا فرضا في الاحتمال المقابل أن رئيس المقاولة هو من يعرقل حرية العمل ويمنع الأجراء من ولوج المقاولة باستعمال سلطته في الإغلاق وهو ما يسمى بلغة فقه قانون الشغل lock- out، وطلب هؤلاء العمال من مفتش الشغل أن يقوم بتحرير محضر يعاين فيه قيام المشغل بـ ((عرقلة سير المقاولة))، فقد يستجيب للطلب من باب الاجتهاد الشخصي ولاتخاذ المبادرة لحل النزاع، وهو ما سيصفق له البعض أو ينتقده البعض الآخر، ولكن في حالة رفضه تحرير المحضر المذكور فلا لوم عليه، لأنه طبق القانون أي المادة 39 المشار اليها أعلاه والتي لا تعطي هذا الاختصاص لمفتش الشغل الذي بجنوحه نحو التطبيق الحرفي للقانون يكون قد جنح و لجأ إلى القانون، ومن لجأ إلى القانون نجا، ولكن الإشكالية تظل مطروحة وبعمق شديد وهو أن المشرع تعامل مع الإشكالية بمكيالين، وهنا اختل ميزان التشريع للمرة الثانية، ونفسر ذلك بأنه لما يطالب المشغل بتحرير محضر ((معاينة عرقلة سير المقاولة)) يجد في نص المادة 39 من م.ش ما يسعفه، ولما تطالب نقابة عمالية معاينة عرقلة سير المقاولة وعرقلة حرية العمل من قبل المشغل فلا شيء في المدونة يسند طلبها، ومن هنا يكون ما سقط تشريعا مثل ما سقط سهوا، وهو ما يكشف عن حجم الثغرات والفراغ التشريعي الذي لا زال يشوب بعض مضامين مدونة الشغل لسنة 2003، التي يجب الاعتراف بأنها تظل مع كل ذلك أهم مكسب حقوقي خلال عهد الاستقلال لفائدة المقاولة والطبقة العاملة ومعهما الممارسون للمادة الاجتماعية، منازعات الشغل، ونأمل أن تتكاثف جهود السلطة التشريعية ووزارة التشغيل والفرقاء الاجتماعيين والقضاء والفقه لسد بعض الثغرات وما أكثرها، ولعل مشروع القانون التنظيمي للإضراب المرتقب سيكون هو النص المناسب لمعالجة هذه الإشكالية، والله أعلم، والله ولي التوفيق.

مقال قد يهمك :   ملف "أحداث اكديم إزيك" يترقب صدور قرارات محكمة الــنقض

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)