مجلة مغرب القانونالقانون الخاصالأستاذ عبد الحليم النوري : تأملات في ظهير الالتزامات والعقود المغربي.

الأستاذ عبد الحليم النوري : تأملات في ظهير الالتزامات والعقود المغربي.

عبد الحليم النوري

أستاذ التعليم العالي

كلية الحقوق- عين الشق

بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

وبعد،

يشرفني أعظم ما يكون التشريف أن أشارك في أشغال هذه الندوة التي تنظمها شعبة القانون الخاص بكلية الحقوق بالبيضاء بعد مائة سنة من صدور الظهير الشريف بمثابة قانون الالتزامات والعقود. في موضوع الثابت فيه والمتغير بعرض بعض التأملات وطرح بعض القواعد التي أصبح العمل بها ضروريا واستشراف آفاق المستقبل في عالم يتغير ويتطور ويعرف الجديد بين الفينة والأخرى والمملكة المغربية باعتبارها النهج الذي اعتمدته والتي يقوم على الانفتاح والتعامل دون حدود مع كل العالم باختلاف مناهجهم ومشاربهم تسعى لتجديد وتطوير منظومتها القانونية عامة بما يساير ويتماشى مع الطفرة النوعية العالمية محافظة على ثوبها وقيمها ومقوماتها وهذا ما يستدعي عملا التفكير في إنشاء علاقات شراكة من أجل البحث والتطوير والتجديد مع كل المعنيين والفاعلين وطنيا ودوليا.

وعليه فإن معالجتي تقوم بداية على إعطاء فكرة عامة على النظرية العامة للالتزامات وثانيا: طرح اللبس أو الغموض الذي يكتنف ما يصطلح عليه-التصرف-الالتزام-العقد، وثالثا أهمية ذلك على كل المستويات.

أولا: إن النظرة العامة للالتزامات تشكل في حد ذاتها قسما نظريا عاما بطبيعته كما يقول بذلك الفقيه المعروف (سالي) “فهي من القانون المدني ومن القانون عامة بمثابة العمود الفقري من الجسد الذي يمكنه ممارسة وظائفه في تناسق وتكامل دونه”.

ومن تم تثبت لها خاصية عامة تتجسد في أنها مبثوثة في كل التصرفات والعقود مما يكسبها:

أ) القدرة لأن تكون أقرب للتوحيد دون غيرها من نظريات القانون الخاص إذ أن آثار الإرادة الإنسانية-كما يتفق الفقه على ذلك- “تكاد تكون واحدة في كل جهة”.

ب) احتواءها التماثل والتشابه  والترابط ما دامت التصرفات والعقود والضرورات القانونية تؤدي إلى عقد اتفاقات متماثلة ومتشابهة ومرتبطة وهكذا فقد اتجهت مجهودات كثير من المنظمات مثلا على صعيد العالم العربي انطلاقا من ذلك إلى دراسة وبحث إمكانية توحيد القانون المدني على الصعيد العربي ووصلت إلى مستوى من الاستيعاب والفهم ما يساعدها على التطبيق إلا أن بعض العوائق المصطنعة والمقصودة من بعض الجهات الأجنبية حالت دون ذلك-وهنا أذكر بالخصوص مشاركة كلية الحقوق بالبيضاء في هذه المجهودات على صعيد الجامعة العربية وبعض منظماتها المتخصصة على عهد وزير العدل السابق-النقيب المرحوم الأستاذ المعطي بوعبيد.

ومن ثم فإن هذه الندوة العلمية والاستشرافية تفيد كثيرا في:

1- الوقوف على الواقع وتقييمه.

2- فتح آفاق النظر والتفكير من أجل التطوير والارتقاء ضمن منهج علمي هادف.

من أجل عرض واستخلاص ما يصطلح عليه-إمكانات وحدود وجدوى الظهير الشريف بمثابة قانون الالتزامات والعقود-الذي أصبحت كثير من مقتضياته محدودة أو متجاوزة أو غير قادرة على استيعاب المستحدث والجديد والطارئ والمتغير.

مقال قد يهمك :   عبد الرحمان المتقي : الهبة و الصدقة في التشريع المغربي

3- ضرورة تكريس ما يصطلح عليه:-الاحترام المطلق لحرية الاتفاقات- الذي هو مبدأ مهم اليوم إذ أن كثيرا من القوانين المقارنة تأخذ به لدوره الفاعل في تحقيق دور-علوم القانون- في التنمية الحقيقية والشاملة التي تسعى إليها كل دول العالم دون استثناء.

ثانيا: هل أن الظهير الشريف بمثابة قانون الالتزامات والعقود يملك قدرة وإمكانية تحقيق هذا الاتجاه في إطار هذا المبدأ العالي والسير فيه؟ وهل يمكن الإرادة من الآليات والوسائل القانونية اللامتناهية أحيانا في تركيبتها وأهدافها على أساس ما يتجاذب العالم مما يصطلح عليه-بالعولمة- والفوضى الخلاقة وصلاحية ونجاعة كل التصرفات والتي لا شك تؤثر في الأصول والقواعد العامة التي تقوم عليها نظرية الالتزامات التي يشهد لها الفقه العالمي أن لها-صبغة عالمية- أو كما قال الفقيه الأستاذ الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري: “إن نظرية الالتزامات لها لونا عالميا حيث  لا يمكنه-للباحث المغربي مثلا أو الباحث الكندي- أن يعطيها لونا مغربيا أو لونا كنديا.وهذا يتفق مع تحليل الفقيه-تارد- الذي ذهب إلى أن نظرية الالتزامات بمكان نظرية القيمة في علم الاقتصاد السياسي، فهي نقطة الارتكاز وإليها تتجه النواحي المختلفة…”.

مما يؤكد على مستوى النظر العام:

أن أية نهضة إنسانية وحضارية تتطلب لزوما نهضة قانونية وهذه الأخيرة تقتضي ضرورة إعادة النظر أخذا بالمبادئ بمعاييرها الجديدة ومؤشراتها المتعددة في إطار يتميز:

أ) بالضبط وبعد النظر.

ب) الإضافة والتوسع.

ج) الترتيب والتقيد بالنسق.

د) الصياغة المنهجية ذات الدلالة والبعد.

إن دراسة هذه الموضوعات له أهمية كبيرة جدا في جعل-الشريعة العامة- أي القانون المدني-بكل مشتملاته- يتحقق له:

1- الكنه الفقهي المتأصل الواسع.

2- التنظير القانوني المتجدد والمتابع.

3- العمل والاجتهاد القضائي الفاعل والهادف.

وهذه هي مهمة البحث العلمي الموكولة للسادة الأساتذة الأجلاء كأكاديميين لهم ملكة البحث والتقصي والتعمق والتحليل والمعالجة- وهي تندرج أيضا ضمن المؤشرات المعتمدة لقياس جودة الجامعات ودخولها مصاف جامعات النخبة العالمية وهذا يعني الضرورة الأكيدة والحتمية لإشراك هؤلاء إشراكا تاما وكاملا في كل ما يخص-تشريع مدونة القانون المدني الجديدة. والتي لا بد من أن يشد النظر إليها، وبفعل العمل بشأنها فورا بعيدا عن آلية التعديل والتتميم التي:

أ) لا تترجم الإرادة التشريعية كاملة لضيقها.

ب) لضعف نسقها وافتقادها القدرة على ضم كل الفكرة أو الاتجاه.

ج) لعدم امتلاكها لذاتها آلية تطوير القانون.

ثالثا: إن هناك إشكالا لاحظت أكثر من مرة أنه يكاد  يهيمن على بعض البحوث أو الدراسات حيث ارتأيت في هذه المداخلة التي تشكل أيضا إسهاما-لماستر الدراسات العقارية- في هذا اللقاء العلمي المفتوح والمتنوع أن أطرحه لإزالة ما يتسبب فيه من لبس أو غموض:

مقال قد يهمك :   أي دور للإعلام في عدالة المحاكمة الجنائية ؟

فمن المعروف أن القانون المدني يتميز بخاصية الشمول حيث يتضمن ما يهم التصرفات والالتزامات والعقود-وهي مصطلحات ثلاث يرد ذكرها في ثنايا بحوث الفقهاء والأكاديميين ويختلط أمرها أحيانا على بعض القارئين لما بين معانيها من التشابه من بعض الوجوه ذلك:

أ) أن الإنسان المميز عادة ما تصدر عنه أقوال وأفعال باختياره وإرادته يكون لها اعتبار في نظر الشارع فيرتب عليها:

– نتائج في صالح الفرد نفسه أو في صالح غيره.

– وهي عديدة متنوعة منها:

1- ما يتضمن إرادة إنشاء حق لم يكن موجودا من قبل: كالوقف مثلا: فهو “حبس لعين من الأعيان المالية لتنفق ثمرتها وغلتها على جهة من جهات الخير”.

2- أو يتضمن إسقاط حق من الحقوق الثابتة:

– كإبراء الدائن للمدين مما عليه من الدين.

– فإنه أسقط بفعله هذا حق المطالبة والمقاضاة الذي كان ثابتا له بسبب شغل ذمة المدين.

3- أو يتضمن إنهاء حق ثابت كما في الطلاق أو التطليق: فإن الزوج أو الزوجة ينهي به ما كان لكل من الزوجين على الآخر من الحقوق:

– كالإقرار بحق من الحقوق:

* فإنه اعترف بثبوت حق وليس إنشاء له.

* وكذا اليمين والدعوى على الغير.

5- كما أن منها ما يكون مستقلا بالغرض الذي من أجله صدر كالأمثلة السابقة ومنها ما لا يكون مستقلا بذلك بل لا بد من انضمام فعل من فرد آخر ليتحقق ذلك الغرض.

هذا كله وغيره يصطلح عليه-تصرف- لا فرق فيه بين الأقوال والأفعال المستقلة بإفادة الغرض وغير مستقلة، وسواء كانت النتائج مفيدة له أو غير مفيدة.

حيث يلاحظ مما تم عرضه:

أن التصرف قد لا يكون فيه:

أ) التزام بحق: كالدعوى التي يدعيها فرد على غيره؛

ب) قد يكون فيه التزام: إما بإنشاء حق كالوقف والبيع والهبة.

– أو بإسقاطه: كالإبراء من الدين والتنازل عن حق الشفعة.

– أو بإنهائه كما في الطلاق.

وهكذا يمكن أن يوصف التصرف:

– أنه أعم وأوسع دائرة من الالتزام فكل التزام تصرف ولا عكس.

ويحدد بأنه-ما يصدر عن الفرد المميز بإرادته ويرتب الشارع عليه نتيجة من النتائج سواء كانت في صالحه أم لا.

أما الالتزام باعتباره أخص من التصرف فهو تتبث له صفة: أنه تصرف متضمن إرادة إنشاء حق من الحقوق أو إنهائه أو إسقاطه سواء أكان من شخص واحد كالوقف والطلاق والإبراء أم من شخصين كالبيع والإجارة.

ومن ثم يثور التساؤل: ما مرتبة العقد بين التصرف والالتزام: أهو مرادف لأحدهما أو هو أخص منهما؟

إن الباحث في ثنايا الفقه يجد اختلافا في مواقف الفقهاء فبينما يتوسع بعضهم في العقد، فيستعمله في كل التزام إذ يقصره آخرون على نوع خاص من الالتزام وهو ما كان صادرا من شخصين.

مقال قد يهمك :   محمد مسعودي: انتهاء آثار المنفعة العامة بتصميم التهيئة بين النص والممارسة والعمل القضائي-دراسة ومقترحات عملية-

إلا أنه يلاحظ رغم هذا الاختلاف أن هناك اتفاق على أن العقد أخص من التصرف، لأنه من التصرف أشياء لا تتفق ومعنى العقد.

ولعل هذا الاختلاف راجع إلى الاستعمال اللغوي لكلمة العقد فهو يطلق في اللغة: على الجمع بين أطراف الشيء والربط بينهما. يقال عند العرب: “عقد الحبل إذا جمع أحد طرفيه على الآخر وربط بينهما” ومن هذا المعنى أخذ:

– العقد بمعنى الربط بين الكلامين في الاتفاقات التبادلية.

فإن فيه ربطا لكنه غير حسي. ويقصد به إحكام الشيء وتقويته ومن هذا المعنى أخذ العقد بمعنى العهد واليمين.

فالعهد يحكم الصلة بين المتعاقدين ويقويها واليمين يقوي عزم الحالف على فعل المحلوف عليه أو تركه.

ومن الفقه من توسع في إطلاق العقد حيث أن كل التزام لا يخلو من عهد والعهد عقد في لغة العرب.

ومنه من قصره على ما كان من شخصين يرتبط كل منهما بالآخر فمن هذا أرى أن العقد عند الفقهاء له معنيان:

أحدهما أخص من الآخر فيطلق على الالتزام مطلقا.

سواء كان من طرفين أو من طرف واحد، ويطلق على الالتزام من طرفين فقط، والأول مختلف فيه والثاني متفق عليه ومعناه الأعم هو معنى الالتزام السابق.

وهكذا فالعقد بالمعنى الأخص: “هو ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محله”.

والمراد بالإيجاب والقبول كل ما يصدر عن المتعاقدين دالا على إرادتهما سواء كان كلاما أو ما يقوم مقام الكلام من الأفعال أو الكتابة أو الإشارة.

وفي كلام بعض الفقهاء ما يفيد أن العقد ليس هو الارتباط فقط، بل هو مجموع الأمور الثلاث الإيجاب-القبول-الارتباط بينهما.

وفي كلام آخرين ما يفيد أنه- ارتباط أجزاء التصرف الشرعي –كما ورد- في رد المختار لابن عابدين وفتح القدير والبحر الرائق في باب البيع-.

وهذا التحديد لهذه المصطلحات الثلاث مفيد جدا وله أهمية كبرى في الدراسة والبحث والتأويل ومن ثم فإن موضوع الندوة الهامة والهادفة مطلوب تواصله وإطراده حتى تكون الفرصة سانحة لتداول الرأي ومناقشة الفكرة وتقييم النتائج وخلق لجنة علمية مهمتها جمع كل ما يتعلق بالدراسات المقارنة والقيام بدراسة واقعية لمقتضيات الظهير المذكور والوقوف على ما يتطلب من قواعد وأحكام في إطار السعي للتجديد والتطوير والارتقاء.

 

 

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]