مجلة مغرب القانونالمنبر القانونيالاختصاص الولائي و الاختصاص القضائي لرؤساء المحاكم الابتدائية على ضوء قانون المسطرة المدنية

الاختصاص الولائي و الاختصاص القضائي لرؤساء المحاكم الابتدائية على ضوء قانون المسطرة المدنية

  • من إعداد : موسى بن داود  طالب باحث بماستر القانون المدني و الأعمال بطنجة.

لقد اعتبرت المجتمعات المتحضرة القضاء صمام الأمن ودرع الأمان لجميع مواطنيها حكاما كانوا أو محكومين والحارس الطبيعي لحقوق أفرادها وحرياتها حاملا لواء الحق والعدل وحاميا للديمقراطية وسيادة القانون باعتباره احدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها الدولة العصرية التي تعمل على تنظيم حق التقاضي وتعتبره واجبا عليها نحو مواطنيها نظرا لكون الإنسان المدني بطبعه كما يقول ابن خلدون منساق وراء المال والسلطة والشهرة والشهوة، وفي سعيه هذا قد يدخل في منافسة مع أخيه الإنسان تؤدي في كثير من الأحيان إلى تضارب المصالح والمواقف تنشأ عنها نزاعات يتعين حلها بطرق سليمة لاستمرار النظام الاجتماعي مع مراعات الوصول إلى حل عادل للنزاع بالاعتماد على نصوص سماوية أو وضعية وروح العدالة[1].

      والعدالة، قبل كل شيء تهتم بتوفير أقوى الضمانات الممكنة لحماية الحقوق واستقرار المعاملات، وهي تتفاعل بالضرورة في نسق رفيع مع واقع المجتمع في تطوره ومع حبل الحياة في تعقده، ومع ألوان الحضارة في تغيرها وتشابكها[2].

      والتشريع الاجرائي المغربي كغيره من التشريعات الأخرى عمد إلى تخصيص قواعد متميزة لبعض المنازعات تساير طابعها الاستعجالي وجعل أمر البت فيها موكول لرؤساء المحاكم الابتدائية نظرا لأهميتها وخصوصية قواعدها المسطرية، وتعرف هذه القواعد عادة بالمساطر الاستعجالية.

      وتشمل هذه المساطر الأوامر المبنية على طلب والمعاينات ومسطرة الأمر بالأداء[3]، وقضايا الأمور المستعجلة بمفهومها الضيق المنصوص عليها في الفصول 149 إلى 154 من قانون المسطرة المدنية.

      هذه المهام والاختصاصات التي أوكلها المشرع المغربي لرؤساء المحاكم الابتدائية يمارسونها حسب طبيعة كل إجراء على حدى، ونوعية الاجراء تحدد طبيعة العمل، هل هو عمل ولائي يدخل في السلطة الولائية التي يملكونها، أم عمل قضائي باعتبارهم قضاة للأمور المستعجلة.

      إضافة إلى هذا، فاختلاف الاجراء يحدد الشكليات التي يجب اتباعها وكذا السرعة المتطلبة للقيام به. فلاجراء العادي يختلف عن الاجراء الوقتي كما يختلف هذا الأخير عن الاجراء الاستعجالي. فكما قلنا فلكل إجراء طبيعته الخاصة واجراءات محددة للتعامل معه. وهذا ما يدفعنا لطرح مجموعة من التساءلات وهي كالتالي: ماهي المعايير القانونية التي تفصل بين الإختصاص الولائي والإختصاص القضائي لرؤساء المحاكم الابتدائية؟ وماهي أوجه التفرقة بين الاجراء المستعجل والاجراء الوقتي؟ وكيف تعامل القضاء مع بعض الإشكالات المطروحة على مستوى قانون المسطرة المدنية؟

      لذلك فمن خلال هذه الدراسة المتواضعة سنحاول الوقوف على ثلاث نقط رئيسية، أولها تتمحور حول التمييز بين كل من الاجراء الوقتي والاجراء الاستعجالي، والنقطة الثانية سنركز فيها على بيان أوجه التمييز بين قاضي الأمور الوقتية وقاضي الأمور المستعجلة أو بصيغة أخرى بين الاختصاص الولائي والاختصاص القضائي، وأخيرا سنقف على بعض الاشكالات المطروحة في هذا الصدد على مستوى قانون المسطرة المدنية وكذا إبراز الدور الذي لعبه القضاء في التصدي لها وحلها.

      أولا : الاجراء الوقتي و الاجراء الاستعجالي

      يكون الاجراء مستعجلا إذا توفر فيه ركنا الاستعجال وعدم المساس بالموضوع بما يستلزمه هذا الركن الثاني من كون الاجراء وقتيا، ويكون الاجراء وقتيا إذا كان لا يقيد قاضي الأمور الوقتية أو قاضي الموضوع حسب الأحوال وكان قابلا للعدول عنه دون حدوث ضرر يصعب تلافيه.

      وإذا كان الاجراء المستعجل يقتضي حتما أن يكون اجراء وقتيا حتى لا يمس بالموضوع، فإن الاجراء الوقتي لا يكون بالضرورة اجراء مستعجلا، لأنه قد لا يقترن بركن الاستعجال فيخرج البت فيه بالتالي عن اختصاص قاضي الأمور المستعجلة. “فالاجراء الوقتي لا يكون دائما استعجاليا، بينما الإجراء الاستعجالي يكون دائما وقتيا”.

وهذا ما عبر عنه الفصل 152 من ق.م.م[4] بقوله :

“لا تبت الأوامر الاستعجالية إلا في الاجراءات الوقتية ولا تمس بما يمكن أن يقضى به في الجوهر”.

و هذا يعني أن ثمة فرقا بين الاجراء المستعجل Mesure d’urgence والاجراء الوقتي Mesure provisoire وإن كان بعض الفقه والقضاء قد درج على استعمال الاجراء الوقتي ليعبر به عن الاجراء المستعجل وهو غير دقيق في ذلك إذا تمسكنا بالتعبير القانوني الدقيق.

      فالطلب بإجراء وقتي قد يكون طلبا استعجاليا إذا كان الاجراء الوقتي مقرونا بالاستعجال، فيختص بالنظر فيه قاضي الأمور المستعجلة، وقد يبقى طلبا وقتيا فقط لانعدام ركن الاستعجال فيه، أو لأن الفصل فيه يقتضي بحثا موضوعيا غير باد من ظاهر المستندات، فيخرج عن اختصاص القضاء المستعجل ويختص بالبت فيه قاضي الأمور الوقتية أو قاضي الموضوع حسب الأحوال. لكن الاجراء في الحالتين هو إجراء وقتي، فلكي يصبح الاجراء الوقتي اجراء مستعجلا وبالتالي يخرج من يد قاضي الأمور الوقتية إلى يد قاضي الأمور المستعجلة يجب أن يطبعه الاستعجال[5]. وهذا ما أكد عليه قرار صادر عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) إذ جاء فيه : “يشترط لاختصاص قاضي المستعجلات أن يكون المطلوب إجراء وقتيا وأن تكون هناك حالة استعجال”[6].  

      والتمييز بين الاجراء الوقتي والاجراء المستعجل يجرنا إلى القول بأنه يمكن تقسيم الاجراءات هنا إلى ثلاثة أنواع: اجراءات عادية واجراءات وقتية واجراءات استعجالية. فالاجراء العادي هو الذي تتبع فيه المسطرة العادية، سواء من حيث رفع الدعوى به أو الحكم فيه أو طرق الطعن في هذا الحكم. والأصل في الاجراء أنه عادي ما لم ينص القانون على أنه وقتي أو استعجالي، ويكون قاضي الموضوع هو صاحب الاختصاص فيه[7].

      أما الاجراء الوقتي كما سبق بيانه لا يكون وقتيا إلا إذا نص المشرع على ذلك صراحة، ولهذا الإجراء مسطرة خاصة تتفق مع صفة التوقيت التي يتميز بها، وهي المسطرة التي نص عليها المشرع في الفصل 148 من ق.م.م[8].

      أما الاجراء الاستعجالي فهو الذي وصفناه سابقا بأنه الاجراء المقرون بعنصر الاستعجال، والخاضع للمسطرة الاستعجالية التي نص عليها المشرع في الفصول 149 إلى 154 من ق.م.م، والذي يدخل في اختصاص قاضي الأمور المستعجلة وهو حسب مقتضيات الفصل 149 من المسطرة إما رئيس المحكمة الابتدائية بصفته قاضيا للمستعجلات أو أقدم القضاة إذا عاق الرئيس مانع قانوني. أما إذا كان النزاع معروضا على محكمة الاستئناف مارس مهام قاضي الأمور المستعجلة رئيسها الأول.

      فمما سبق يمكن القول أن الاجراء العادي أكثر بطئا من الاجراء الوقتي والاجراء الاستعجالي، بينما الاجراء الوقتي والمنظم بموجب الفصل 148 من ق.م.م هو أقل بطئا بل وأكثر سرعة حتى من الاجراء المستعجل لأن مسطرته سريعة جدا، فالأمر الذي يصدر في اجراء وقتي لا يحتاج إلى حضور الأطراف وكاتب الضبط. بينما الاجراء المستعجل يخضع لباب المستعجلات (الفصول 149 إلى 154 من ق.م.م)، وهو أقل بطئا وأكثر سرعة، لكن لا يصل إلى سرعة الاجراء الوقتي المنظم بالفصل 148، لأن مسطرة الاستعجال كيفما كانت سرعتها تحتاج إلى شكليات تتطلب بدورها وقتا كحضور الأطراف مثلا، ما عدا الاستثناء الذي أورده المشرع في الفصل 151 من ق.م.م ويتعلق الأمر بحالة الاستعجال القصوى، حيث يمكن الاستغناء عن استدعاء الطرف المدعى عليه اسراعا في اصدار الأمر الاستعجالي[9].

مقال قد يهمك :   مشروع قانون يهدف التقليل من نسبة الاعتقال الاحتياطي بسجون المملكة

      لذلك يمكن القول أن عنصر الإستعجال هو الحلقة الأبرز في نقل إجراء معين من إجراء وقتي إلى إجراء وقتي إستعجالي والقضاء هو صاحب السلطة في تقدير توفر عنصر الاستعجال أو عدم توفره وهو في هذا غير خاضع لرقابة قاضي النقض[10]، والأهم من هذا التمييز هو معرفة الجهة المختصة أي هل الاختصاص موكول للبت فيه من طرف قاضي الأمور الوقتية أم قاضي الأمور المستعجلة والمتمثل أيضا في رسم الحدود بين الفصل 148 والفصل 149 من ق.م.م والذي سنفصل الحديث فيه في النقطة الموالية.

      ثانيا : التمييز بين قاضي الأمور المستعجلة و قاضي الأمور الوقتية  

      إن مناط التمييز بين قاضي الأمور الوقتية وقاضي المستعجلات يكمن في رسم الحدود بين الفصلين 148 و149 من ق.م.م كما سبق ذكره نظرا لاختلاف الاختصاصات سواء من حيث سلطة القاضي وولايته، وكذا الأحوال التي ينظرها واجراءات التقاضي أمامه وكيفية صدور القرارات وطريقة التظلم منها أو الطعن فيها.

      فاختصاص قاضي الأمور الوقتية يكون ولائيا أو وظيفيا وهذا النوع من القضاء يجد أساسه في مقتضيات الفصل 148 من ق.م.م، بحيث أن رؤساء المحاكم أو نوابهم لا يصدرون أحكاما فاصلة بين خصمين أو أكثر، أحدهم قد يكون مدعي والآخر مدعى عليه وإنما يقتصر الأمر على إصدار أوامر مبنية على طلب أحد الأطراف في غياب نزاع قائم.

      وهنا يمارس رئيس المحكمة أو نائبه دورا ولائيا وليس قضائيا، فالأمر يصدر في غياب أي طرف مدعى عليه. وتمتاز هذه المسطرة الولائية بسهولتها وسرعتها، إذ تصدر عن قاض منفرد هو رئيس المحكمة أو أحد نوابه الذي يكتفي بمراقبة الطلب، واصدار أمره بشأنه على الفور إما بالموافقة أو الرفض[11].

      وتكون قرارت الرئيس الصادر بالرفض وحدها القابلة للاستئناف فيما عدا القرار الصادر باثبات حال أو توجيه انذار (الفقرة الثانية من الفصل 148 من ق.م.م).

      وتجدر الاشارة إلى أن اختصاص رئيس المحكمة في نطاق الفصل 148 من ق.م.م مشروط بعدم الاضرار بحقوق الأطراف من جهة، وغياب تنظيم خاص يتناول النازلة المعروضة من جهة أخرى[12].

      أما اختصاص قاضي الأمور المستعجلة يكون قضائيا وهذا يعني أنه لا يصدر الأحكام إلا بعد عرض النزاع عليه بالكيفيات المنصوص عليها قانونا لرفع الدعوى الاستعجالية (الفصل 149 من ق.م.م)[13]، وبحضور المدعي والمدعى عليه أو في غيبة المدعى عليه بعد استدعائه قانونا[14]. أو إذا كانت هناك حالة الاستعجال القصوى طبقا لمقتضيات الفصل 151 من ق.م.م. وبعد سماع أقوال ومناقشات الطرفين المتنازعين أو من ينوب عنهما قانونا، وبعد بحث ظاهر المستندات والأوراق المقدمة في الدعوى الاستعجالية، تكون قراراته كلها قابلة للاستئناف.

      وبالرجوع إلى الفصلين 148 و149 من ق.م.م يتضح أن اختصاصات قاضي الأمور المستعجلة أشمل وأوسع من اختصاصات قاضي الأمور الوقتية. ذلك أن قاضي الأمور المستعجلة يختص بالحالات الواردة في الفصل 149 وهي “البت في الصعوبات المتعلقة بتنفيذ حكم أو سند قابل للتنفيذ أو الأمر بالحراسة القضائية أو أي اجراء آخر تحفظي” كما يختص بالحالات الواردة في فصل قاضي الأمور الوقتية أي الفصل 148 وهي “البت في كل مقال يستهدف الحصول على أمر بإثبات حال أو توجيه انذار أو أي اجراء مستعجل في أية مادة لم يرد بشأنها نص خاص ولا يضر بحقوق الأطراف”. وهذا الاختصاص الأخير مخول لقاضي الأمور المستعجلة بمقتضى العبارة الأخيرة من الفقرة الأولى من الفصل 149 التي جاء فيها: “بالاضافة إلى الحالات المشار إليها في الفصل  السابق والتي يمكن لرئيس المحكمة الابتدائية أن يبت فيها بصفته قاضيا للمستعجلات”.

      ولكن يشترط لاختصاص قاضي الأمور المستعجلة بالحالات الواردة في الفصلين المذكورين توافر شرط الاستعجال، فإذا لم يتوفر هذا الشرط في الحالات المنصوص عليها في الفصل 148 فإن رئيس المحكمة الابتدائية لا يكون مختصا بصددها في إطار مهمته كقاض للأمور المستعجلة إنما يعود له الاختصاص كقاض للأمور الوقتية، وفي هذه الحال يتعين تطبيق المقتضيات المسطرية المنصوص عليها في الفصل 148 وليس تلك المنصوص عليها في الفصل 149[15].

        فعلى الرغم من اختلاف الاختصاصات بين الفصلين 148 و149 كما سبق ذكره، إلا أن هناك تداخل كبير بينهما خصوصا في الشق المتعلق باختصاص قاضي الأمور المستعجلة حيث نجد هذا الأخير حاضرا أيضا في الفصل 148 في حالات خاصة – على الرغم من تعلقه بقاضي الأمور الوقتية – لكن اختصاصه مقرون بتوفر عنصر الاستعجال، ومتى انتفى هذا الشرط خرج اختصاصه من دائرة القضاء المستعجل إلى دائرة القضاء الولائي.

      وعلى الرغم من أن كلى الحالتين تدخل في اختصاص رئيس المحكمة الابتدائية، إلا أن الوضعية القانونية تختلف من عدة جوانب سواء من خلال الاجراءات المتبعة أو طرق الطعن  أو التظلم منها. وإن كان الأمر يسيرا من حيث المبدأ إلا أن التطبيق العملي طرح مجموعة من الاشكالات سواء على مستوى النصوص القانونية أو على مستوى الاجراءات أمام المحاكم والتي سنحاول الوقوف على البعض منها في النقطة الموالية.

      ثالثا : بعض الإشكالات المطروحة على مستوى ق.م.م المغربي

   إن الخوض في تفاصيل هذا الموضوع وتشعباته تثور من خلاله مجموعة من الإشكالات يمكن ابداءها من جهات ونواحي مختلفة أبرزها ما يلي:

      فمن جهة إذا كان المشرع المغربي أسند مهمة قاضي الأمور المستعجلة ومهم قاضي الأمور الوقتية إلى رئيس المحكمة الابتدائية حيث جاء في مطلع الفصل 149 “يختص رئيس المحكمة الابتدائية وحده بالبت بصفته قاضيا للمستعجلات” وجاء في مطلع الفصل 148 “يختص رؤساء المحاكم الابتدائية وحدهم بالبت في كل مقال يستهدف الحصول على أمر اثبات حال أو توجيه إنذار…”.

      فرئيس المحكمة الابتدائية اذن هو الذي يتولى مهام قاضي الأمور المستعجلة وقاضي الأمور الوقتية، لكن يجوز في كلتا الحالتين اسناد تلك المهام إلى أقدم القضاة إذا عاق الرئيس مانع[16].

      لكن الإشكال يثور في التعيين بين قاضي الأمور المستعجلة وقاضي الأمور الوقتية أمام محكمة الاستئناف، فإذا كانت مهمة قاضي الأمور المستعجلة تسند إلى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف عندما يكون النزاع في الموضوع معروضا على محكمته طبقا للفقرة الثالثة من الفصل 149 من ق.م.م[17]، فإن المشرع قد لزم الصمت بخصوص مهمة قاضي الأمور الوقتية إذ أن الفصل 148 من ق.م.م جاء خاليا من أي عبارة تحدد الجهة المختصة إذا كان النزاع معروضا على محكمة الاستئناف. هل الاختصاص يعود للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف أم يبقى من اختصاص رئيس المحكمة الابتدائية وإن كان النزاع معروضا على محكمة الدرجة الثانية؟

مقال قد يهمك :   محكمة النقض : المغرب ليس "فردا" و التشهير العلني جريمة ضد الأفراد

      وقد تدخل القضاء وعالج هذه الإشكالية إذ جاء في أمر صادر عن الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ما يلي: “الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف غير مختص لإصدار الأوامر المبنية على طلب طبقا للفصل 148 من ق.م.م التي يتم البت فيها من طرف السادة رؤساء المحاكم الابتدائية دون استدعاء الأطراف وحصور كاتب الضبط”[18].

      وفي قرار آخر جاء فيه: “وحيث إن الباب الأول المتضمن للفصل 148 من نفس القانون (أي قانون المسطرة المدنية) عنوانه “الأوامر المبنية  على طلب والمعاينات” ونص في بداية الفصل على أن رؤساء المحاكم الابتدائية وحدهم هم المختصون بالبت في تلك الأوامر والمعاينات ولم تشر أية فقرة من فقرات الفصل الخمسة إلى أن الرئيس الأول يكتسب تلك الاختصاصات عندما يكون النزاع معروضا على محكمة الدرجة الثانية وبالتالي فإنه لا يوجد استثناء من سلطة رؤساء المحاكم الابتدائية في هذا الموضوع …”[19].

      وانطلاقا من هذا نجد أن الأمر يبقى من اختصاص رئيس المحكمة الابتدائية بصفته قاضيا للأمور الوقتية كلما تعلق الأمر بالفصل 148 (أي الاختصاص الولائي) ولو كان النزاع معروضا أمام محكمة الاستئناف. وبالتالي يتعين على صاحب الطلب الوقتي الرجوع إلى المحكمة الابتدائية وتقديم طلبه لدى رئيسها.

     ومن جهة ثانية لئن كان الفصل 149 يعطي الحق للأطراف في مباشرة طرق الطعن خاصة الاستئناف ضد الأوامر الاستعجالية فإن الفصل 148 لا يسمح بمباشرة الاستئناف إلا في حالة الرفض فحسب، أي أنه حق ممنوح للمدعي فقط دون المدعى عليه الذي يجب عليه أن يرضخ للأمر ولو كان ضارا بحقوقه، بل إن الفصل 148 لا يجيز سلوك الطعن بالاستئناف نهائيا إذا تعلق الأمر بطلب إثبات حال أو بتوجيه إنذار. فلنفترض أن أحد الأشخاص تقدم بطلب إلى رئيس المحكمة الابتدائية بإثبات حال في إطار الفصل 149 وصدر الأمر بالموافقة، فهل يجوز للطرف الآخر أن يطعن فيه بالاستئناف ؟

      نتيجة لهذا التمييز بين مسطرتي الفصل 148 والفصل 149، ورفعا للبس أبى المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) إلا أن يقول كلمته في الموضوع، فقد جاء في قرار صادر عنه ما يلي:

      “حيث أنه يتجلى من القرار المطعون فيه، ومن أوراق الملف أن الطلب في حد ذاته يرمي إلى إثبات حال، وتقديمه إلى رئيس المحكمة الابتدائية بصفته قاضيا للمستعجلات وفي نطاق الفصل 149 من ق.م.م لا يغير سبب الدعوى وما ترمي إليه، وبما أن الأوامر المبنية على طلب أو المعاينات المتعلقة بإثبات حال أو توجيه إنذار والصادرة في نطاق الفصل 148 غير قابلة للاستئناف طبقا للفقرة الثانية من الفصل المذكور التي تنص على ما يلي: “يكون الأمر في حالة الرفض قابلا للاستئناف عدا إذا تعلق الأمر بإثبات حال أو توجيه إنذار” فإنها غير قابلة للاستئناف كذلك حتى ولو صدرت عن رئيس المحكمة الابتدائية بصفته قاضيا للأمور المستعجلة وفي نطاق الفصل 149 من ق.م.م الذي خول لقاضي المستعجلات البت في الحالات المشار إليها في الفصل 148 المذكور وذلك اعتبارا لمقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 153 من نفس القانون التي نصت على ما يلي: “يجب تقديم الاستئناف داخل خمسة عشر يوما من تبليغ الأمر عدا في الحالات التي يقرر فيها القانون خلاف ذلك” وهي ما إذا تعلق الأمر بإثبات حال أو توجيه إنذار حسبما هو مبين أعلاه ولذلك فإن المحكمة عندما قبلت استئناف أمر يتعلق بإثبات حال في حين أن الأوامر بإثبات حال غير قابلة للاستئناف كيفما كانت طريقة تقديمها سواء في نطاق الفصل 148 أو في نطاق الفصل 149 من ق.م.م تكون قد خرقت قاعدة نظامية من قواعد المسطرة وعرضت قرارها للنقض”[20].

      ومن جهة ثالثة و أخيرة إذا كان الطعن في الأوامر الولائية جائزا في حالات رفض الطلب عدا بعض الاستثناءات التي نص عليها المشرع وهي حالة رفض طلب إثبات حال أو طلب توجيه إنذار.

      فبالمقابل فإن الطعن في الأوامر الولائية في حالات الموافقة على الطلب ظل دائما يثير الكثير من النقاش والجدل وذلك لعدة اعتبارات من بينها:

  • صعوبة السماح بطرق الطعن العادية في مواجهة الأوامر الولائية إذ أن التعرض غير متصور من الناحية المسطرية، أما الاستئناف فلا يجوز أيضا انطلاقا من كون المسطرة الولائية هي مسطرة أحادية ليست موجهة ضد أي خصم صريح.
  • المشرع المغربي لم ينص على أي طريق من طريق الطعن في مواجهة الأوامر الولائية التي تصدر بالموافقة على الطلب.

      إلا أن هذا التوجه يبدو مجحفا، خاصة أن الأوامر الولائية في كثير من الأحيان تكون ماسة بحقوق ومصالح مدعين احتماليين، وتلحق بهم أضرارا لأنها تصدر في غيبتهم ودون تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم إو إبداء وجهة نظرهم حول الطلب لذلك يكون من الإنصاف التنصيص على وسيلة طعن معينة تتيح لهؤلاء إمكانية الطعن في هذه الأوامر الولائية والمطالبة بمراجعتها أو العدول عنها.

      ولكن القضاء أوجد منفذا للمتضرر للمطالبة بمراجعة الأمر الولائي الصادر في غيبته وذلك من خلال العبارة التي استعملها المشرع في الفصل 148 من ق.م.م والتي تتيح للطرف المتضرر الرجوع إلى رئيس المحكمة أو من ينوب عنه وهي: “بشرط الرجوع إليهم في حالة وجود أية صعوبة”.

      وهكذا يمكن لكل من تضرر من أمر ولائي أن يراجع رئيس المحكمة من خلال تقديم طلب جديد يطلب من خلاله مراجهة الأمر الولائي الأول[21].

      وتجدر الاشارة إلى أن طلب العدول عن الأمر الصادر في إطار الفصل 148 من ق.م.م (أي الأمر الولائي) ليس طعنا وإنما هو تظلم يرمي إلى رفع الضرر المترتب عن هذا الأمر[22].

      وفي جميع الأحوال فإن المشرع المغربي مطالب بالنص على وسيلة طعن صريحة وواضحة في مراجعة الأوامر الولائية التي تصدر بالموافقة على الطلبات تمكن الأطراف المتضررة من مراجعة الأوامر التي تضر بمصالحها وذلك على غرار ما نص عليه المشرع الفرنسي في قانون المسطرة المدنية الفرنسي (المادة 496 الفقرة الثانية)، من امكانية متاحة لكل من يعنيه الأمر بالمطالبة بتعديل أو إعادة النظر في الأمر الولائي عن طريق طعن خاص[23].


المراجع المعتمدة :

  • عبد اللطيف هداية الله – القضاء المستعجل – الطبعة الأولى 1998.
  • رشيد وهابي و عبد اللطيف أمسادر – القضاء الرئاسي وقضاء الأمور المستعجلة بالمغرب خلال أربع وثمانين سنة – مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء – الطبعة الثانية 2014.
  • عبد الكريم الطالب – الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية – مطبعة المعرفة – مراكش – طبعة أكتوبر 2012.
  • محمد النجاري – القضاء المستقل القوي قاطرة للتنمية – مجلة الملحق القضائي – العدد 44 – 2011.
  • محمد بفقير – قانون المسطرة المدنية والعمل القضائي المغربي – مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء – الطبعة الثالثة 2012.
  • مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 39.
  • بمجلة المحامي عدد 32 و33.
  • بمجلة القضاء والقانون العدد 131 غشت 1983.
مقال قد يهمك :   قراءة في المشروع قانون المتعلق بالتحديد الإداري لأراضي الجماعات السلالية

الهوامش :

[1]  – محمد النجاري – القضاء المستقل القوي قاطرة للتنمية – مجلة الملحق القضائي – العدد 44 – 2011 – ص: 3.

[2]  – عبد اللطيف هداية الله – القضاء المستعجل – الطبعة الأولى 1998 – ص: 9.

[3]  – الواقع أن الأوامر المبنية على طلب ومسطرة الأمر بالأداء لا تعد مسطرة استعجالية بالمعنى الدقيق للمصطلح، لكن مع ذلك فبالنظر إلى تميز إجراءاتها وآثارها على المسطرة العادية غالبا ما يتم تناولها إلى جانب القضاء الاستعجالي الذي يعتبر بحق مسطرة استعجالية بالمفهوم الفني للكلمة.

راجع في هذا الصدد: عبد الكريم الطالب – الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية – مطبعة المعرفة – مراكش – طبعة أكتوبر 2012 – ص: 77 وما يليها.

[4]  – هي اختصار ل “قانون المسطرة المدنية”.

[5]  – عبد اللطيف هداية الله – مرجع سابق – ص: 245.

[6]  – قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 17/10/85 تحت عدد 2945 في الملف المدني عدد 91966 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 39 ص95 وما يليها.

[7]  – ومن أمثلة الاجراء العادي طلب قسمة عقار أو طلب الحكم باستحقاق ملكية شيء ما أو طلب تعويض عن حادث سير أو طلب اتمام إجراءات بيع أو الحكم بصحة هذا البيع أو بطلانه إلى غير ذلك من الاجراءات العادية.

[8]  – جاء في الفصل 148 ما يلي: “يختص رؤساء المحاكم الابتدائية وحدهم بالبت في كل مقال يستهدف الحصول على أمر بإثبات حال أو توجيه إنذار أو أي إجراء مستعجل في أية مادة لم يرد بشأنها نص خاص ولا يضر بحقوق الأطراف. ويصدرون الأمر في غيبة الأطراف دون حضور كاتب الضبط بشرط الرجوع إليهم في حالة وجود أية صعوبة.

يكون الأمر في حالة الرفض قابلا للاستيناف داخل خمسة عشر يوما من يوم النطق به عدا إذا تعلق الأمر بإثبات حال أو توجيه إنذار. ويرفع هذا الاستيناف أمام محكمة الاستيناف.

إذا عاق الرئيس مانع ناب عنه أقدم القضاة.

يقوم عون كتابة الضبط المكلف بإنذار أو بإثبات حالة بتحرير محضر يثبت فيه باختصار أقوال وملاحظات المدعى عليه الاحتمالي أو ممثله ويمكن تبليغ هذا المحضر بناء على طلب الطرف الملتمس للإجراء إلى كل من يعنيه الأمر، ولهذا الأخير أن يطلب في جميع الأحوال نسخة من المحضر.

إذا لم يكن القيام بالمعاينة المطلوبة مفيدا إلا بواسطة رجل فني أمكن للقاضي تعيين خبير للقيام بذلك”.

[9]  – عبد اللطيف هداية الله – مرجع سابق – ص: 249.

[10]  – وجاء في هذا الصدد قرار للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) جاء فيه: “الاستعجال مسألة واقع لا يخضع لرقابة المجلس الأعلى ولاختصاص المتعلق به لا يمكن إثارته لأول مرة على عكس المس بأصل الحق فهو مسألة قانون يخضع للرقابة ويمكن إثارته في أي مرحلة”.

قرار صادر بتاريخ 13/9/89 تحت عدد 1836 في الملف عدد 653/83 منشور بمؤلف محمد بفقير – قانون المسطرة المدنية والعمل القضائي المغربي – مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء – الطبعة الثالثة 2012 – ص: 282.

[11]  – رشيد وهابي و عبد اللطيف أمسادر – القضاء الرئاسي وقضاء الأمور المستعجلة بالمغرب خلال أربع وثمانين سنة – مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء – الطبعة الثانية 2014 – ص: 5.

[12]  – قرار صادر عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) بتاريخ 27/11/96 تحت عدد 7082 في الملف المدني عدد 200/91 منشور بمجلة المحامي عدد 32 و33 ص: 351 وما يليها.

[13]  – جاء في الفصل 149 من ق.م.م على أنه: “يختص رئيس المحكمة الابتدائية وحده بالبت بصفته قاضيا للمستعجلات كلما توفر عنصر الاستعجال في الصعوبات المتعلقة بتنفيذ حكم أو سند قابل للتنفيذ أو الأمر بالحراسة القضائية أو أي إجراء آخر تحفظي سواء كان النزاع في الجوهر قد أحيل على المحكمة أم لا، بالإضافة إلى الحالات المشار إليها في الفصل السابق والتي يمكن لرئيس المحكمة الابتدائية أن يبت فيها بصفته قاضيا للمستعجلات.

إذا عاق الرئيس مانع قانوني أسندت مهام قاضي المستعجلات إلى أقدم القضاة.

إذا كان النزاع معروضا على محكمة الاستيناف مارس هذه المهام رئيسها الأول.

تعين أيام وساعات جلسات القضاء المستعجل من طرف الرئيس”.

[14]  – ينص الفصل 151 من ق.م.م عل ما يلي: “يأمر القاضي باستدعاء الطرف المدعى عليه طبقا للشروط المنصوص عليها في الفصول 37، 38، 39 عدا إذا كانت هناك حالة الاستعجال القصوى”.

[15]  – عبد اللطيف هداية الله – مرجع سابق – ص: 468.

[16]  – نفس المرجع – ص: 466.

[17]  – وجاء فيها: “إذا كان النزاع معروضا على محكمة الاستئناف مارس هذه المهام رئيسها الأول”.

[18]  – أمر صادر عن الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بمراكش بتاريخ 20/3/06 تحت عدد 5 في الملف عدد 5/2/06 – محمد بفقير – مرجع سابق – ص: 275.

[19]  – محكمة الاستئناف بوجدة – قرار استعجالي مؤرخ في 3/12/1982 منشور بمجلة القضاء والقانون العدد 131 غشت 1983 – ص: 151.

[20]  – قرار عدد 271 بتاريخ 15 أبريل 1981 – ملف عدد 7637 – عبد الكريم الطالب – مرجع سابق – ص: 116.

[21]  – رشيد وهابي و عبد اللطيف أمسادر – مرجع سابق – ص: 10.

[22]  – أمر صادر عن المحكمة التجارية بالبيضاء بتاريخ 2/7/07 تحت عدد 1420 في الملف عدد 396/07 – محمد بفقير – مرجع سابق – ص: 277.

[23]  – رشيد وهابي و عبد اللطيف أمسادر – مرجع سابق – ص: 10.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]