البعد الرقمي في النموذج التنموي الجديد..أية أهمية؟
إسماعيل احديدو
باحث في التواصل السياسي الرقمي
يتفق الجميع اليوم أن النموذج التنموي أو لنقل الخطط والبرامج التنموية المتبعة منذ الاستقلال قد بلغت مداها واتضحت محدوديتها، وبالتالي حان الوقت لتجاوزها أو على الأقل مراجعتها. عديدة هي العوامل التي تدعم هذا الطرح، لكن أهمها على الإطلاق يبقى الفوارق الصارخة على المستوين الاجتماعي والمجالي٬ مما أصبح يهدد السلم الاجتماعي في محيط دولي وإقليمي يتسم بالاضطراب والتوتر وتزايد منسوب وحجم الاحتجاج لذا فئات عريضة من المواطنين.
أمام تفاقم وخطورة الوضع٫ دعا ملك البلاد في خطاب العرش لسنة 2015 إلى التفكير في بلورة نموذج تنموي جديد يستجيب للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين ويحقق بالتالي العدالة الاجتماعية والمجالية. وتفعيلا لهذه الدعوة قام جلالته في 19 دجنبر 2019 بتشكيل لجنة استشارية خاصة من 35 عضوا يترأسهم السيد شكيب بن موسى كلفها بصياغة مقترحاتها في أجل أقصاه نهاية يونيو 2020. التساؤل الآن هو ما هي المحاور التي ستشتغل عليها هذه اللجنة مع العلم أن تركيبتها متنوعة التخصصات والاهتمامات؟.
من المعلوم أن مفهوم التنمية مفهوم شامل وواسع يتجاوز ما هو اقتصادي ليشمل المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية في ابعادها المادية واللامادية. في هذه المقالة سنقتصر على تبيان مدى اهمية الجانب الرقمي في النموذج التنموي الذي تنشده بلادنا؛ وهي بذلك مساهمة في النقاش العمومي الذي ما فتئ يتزايد ويتوسع بالنظر الى الاهمية الاستراتيجية لهذا الموضوع و تأثيره المباشر على حاضر و مستقبل البلاد و العباد.
يمكن الجزم أن الرقمنة أصبحت اليوم معطى اساسيا لا يمكن اغفاله في اي تفكير او مجهود يروم النهوض بأوضاع المواطنين. قبل تبيان ذلك ماذا نقصد بالرقمنة؟ الرقمنة أو التحول الرقمي هو ذاك المجهود الذي يبتغي تطبيق التقنيات والتكنولوجيات الحديثة للاتصال والتواصل لتقديم خدمات بسيطة ومبتكرة لعل أبرزها تحويل مصادر المعلومات على اختلاف أشكالها من العالم الواقعي او المادي الى الفضاء الافتراضي؛ ويشكل الانترنيت والاعلاميات أهم الوسائل التي تتيح ذلك٠ فهي بذلك عملية تحول نوعي في انماط انتاج، معالجة وتقاسم المعلومة بشكل عام، كما انها صيرورة و مسار أصبح يهم جميع اوجه الحياة البشرية من اقتصاد و مال، سياسة، ادارة، تعليم، علاقات اجتماعية،ثقافة، فنون وغيرها؛ولان الرقمنة تغطي كافة هذه المجالات فهي تلتقي مع اي نموذج تنموي في المساس بالحياة اليومية للمواطنين. فما القيمة المضافة إذن للرقمنة في نجاح هذا النموذج التنموي؟ في نظرنا ينبغي التمييز بين أربعة مستويات أساسية.
المستوى الأول: يتعلق بما يسمى الادارة الالكترونية
مما هو معلوم ان الادارة هي اداة تنفيد مختلف السياسات العمومية، و هي ايضا حلقة الوصل بين اي دولة و مواطنيها.من بين اكثر المشاكل التي يعاني منها هؤلاء اليوم نجد من دون شك ضعف الخدمات المقدمة من طرف هذه الادارة التي من المفروض ان تكون في خدمة الجميع٠وقد نبه عاهل البلاد في العديد من خطبه خلال السنوات الاخيرة الى عدم فعالية هذه الادارة ودعا الى اصلاحها و تخليقها من اجل تلبية حاجيات المواطنين ودعم الاستثمار وكذا المقاولات، خاصة الصغيرة منها و المتوسطة٠إن من شأن الرقمنة ان تسهم في تحقيق هذه الغايات؛ إذ أن طفرة تعميم استعمال الانترنيت بفضل اختراق الهاتف المتنقل جعلت الاغلبية الساحقة للمواطنين تلج الى مضامين هذه الشبكة العكبوتية٠ فلما لا يتم استغلال هذا الفضاء الافتراضي لتقاسم جميع المعلومات والوثائق التي يحتاجها المواطن؟ هذا الفضاء يجعل الادارة تتحرر من اكراهات الزمان والمكان وكذا من كلفة الخدمات المقدمة ؛ كما ان المواطن سيستفيد من خدمة آنية ومتاحة من أي مكان. الرقمنة قد تشكل بذلك حلا لمجموعة من العراقيل التي تؤرق بال المواطنين وعلى رأسها الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ، وبالتالي خلق علاقة شفافة ومتوازنة بين جميع اطراف الخدمة العمومية٠
لقد انخرطت بعض المؤسسات العمومية في بلادنا في ترحيل بعض خدماتها الى عالم الويب تفعيلا لاستراتيجية المغرب الرقمي التي تم وضعها منذ 2009، لكن هذا الورش، بالرغم من اهميته، لا زال يعرف تعثرا وبطئا كبيرين لمجموعة من الاسباب، اهمها عدم التفاعل الايجابي للمتدخلين و ضعف تتبع و تقييم المشاريع المبرمجة، مما يستدعي بمناسبة التفكير الحالي في نموذج تنموي جديد الالتفات الى ضرورة تفعيل ورش الادارة الالكترونية بدعم المبادرات الناجحة وايجاد الحلول للعراقيل التي تحول دون تسريع رقمنة الخدمات العمومية.
المستوى الثاني: يرتبط بالتعليم والتكوين
لا يجادل احد اليوم ان المدرسة المغربية تعاني من العديد من الاختلالات جعلت بلادنا تتبوأ مراتب جد متأخرة في مجموعة من التصنيفات الدولية٠ فبالرغم من المجهودات التي تم بذلها منذ تعيين اللجنة الوطنية للتربية والتكوين سنة 1999 من أجل إعداد الميثاق الوطني للتربية والتكوين وكذا البرنامج الاستعجالي لسنة 2009، وصولا الى الرؤية الاستراتيجية 2015ـ2030 لإصلاح منظومة التربية والتكوين، فان مستوى المتعلمين يعرف تدهورا غير مسبوق٠لقد اثبتت التجارب في العديد من الدول ان الانترنيت يمكن ان يسهم في حل مجموعة من الاشكالات التعليمية في الدول المتأخرة في هذ المجال. فعلاوة على الإمكانيات الهائلة التي يتيحها من اجل الولوج الى المعلومات و المعارف في أي زمان و من أي مكان، مما يتيح إمكانية التعلم عن بعد و للجميع بما فيهم الفئات الهشة، كذوي الاحتياجات الخاصة او القاطنين في المناطق النائية، يمكن لاستعمال الانترنيت في التعليم بخلق بنية بيداغوجية رقمية ان يعين ايضا في عقلنة وترشيد تدبير الموارد المخصصة لهذا القطاع٠ كما نه يتيح التواصل الدائم والفعال بين جميع المتدخلين في العملية التعليمية. النتيجة هيبروز مفهوم التعليم الإلكتروني الذي يمكن من تقديم محتويات تعليمية بطرق مبتكرة وناجعة تختصر الوقت والجهد والتكلفة، والادهى من هذا، الاسهام في تثمين الرأسمال البشري.
المستوى الثالث: له علاقة بالاقتصاد، المال والتشغيل
يعتبر النموذج الاقتصادي ركيزة اساسية لأي نموذج تنموي نظرا لعلاقته الوطيدة بإنتاج وتوزيع الثروة٠ هذه الاخيرة ارتبطت تاريخيا بالتطور التقني. في هذا الاتجاه٬ كان لمجيء الأنترنيت اثر بالغ على الاقتصاد بجميع قطاعاته الانتاجية والخدماتية والمصرفية، فتم ترحيل العديد من الانشطة الى هذا العالم الافتراضي كما ظهرت فيه انشطة جديدة فتحت افاق واسعة للإنتاج والتوزيع و الاستهلاك والتمويل و الاداء٠لكن موقع بلادنا من كل هذا وذاك لا زال ضعيفا؛ فرغم تأسيس وكالة التنمية الرقمية سنة 2017 لتكون مسؤولة عن تنفيذ استراتيجية الدولة في مجال تطوير الاقتصاد الرقمي وتشجيع نشر الأدوات الرقمية وتعزيز استخدامها، لا زالت كل المؤشرات تفيد ان بلادنا لم تستثمر بعد كل الفرص التي يمنحها التحول الرقمي. الحديث هنا لا يقتصر فقط على فرص خلق وتوسيع النسيج المقاولاتي، بل يشمل ايضا امكانيات تشغيل الشباب في المهن الجديدة وتوفير فضاء واسع للإبداع والابتكار بعيدا عن الاكراهات الادارية والمادية، مع امكانية استهداف الاسواق الدولية خصوصا مع بروز وتصاعد ما يسمى بالتجارة الالكترونية٠ فإذا كان عاهل البلاد اشار في خطبه التوجيهية الاخيرة انه يتعين اتباع مقاربة استباقية واستشرافية في صياغة النموذج التنموي الجديد، فان دعم الاقتصاد الرقمي يندرج في هذا المنحى٠
المستوى الرابع: له ارتباط بالثقافة والرأسمال اللامادي
ان مفهوم التنمية يتجاوز بدون شك الجوانب المادية التي يشكل الاقتصاد اساسا لها، ليشمل كل ما هو ثقافة وتراث او اجمالا ما يصطلح عليه بالرأسمال اللامادي. وقد فصل الملك في خطاب العرش لسنة 2014 اهمية الثروة اللامادية بصفة عامة في نهضة البلاد ؛ هذا المفهوم الجديد يرتكز أيضا على عناصر ترتبط بالمعارف والخبرات وكذا انماط الحكامة والعدالة والرأسمال الاجتماعي، وهذه كلها عناصر تسهم بشكل مباشر في تحقيق التنمية الشاملة وتماسك المجتمع٠ ولا يخفى اليوم ما تمنحه الوسائط والمنصات الرقمية من امكانيات لحفض وتقاسم وتثمين للذاكرة الجماعية من فنون وتراث وقيم ولغات ومعتقدات وتقاليد؛ كما أنها فضاء خصب للنهوض بالصناعات الثقافية،و بالتالي فهي ايضا قاعدة لخلق و توزيع انواع جديدة من الثروات و من القيمة المضافة، دون نسيان ما توفره من بيئة مواتية للبحث العلمي و التكنولوجي و كفيلة بتعزيز اقتصاد المعرفة٠
إجمالا، يمكن القول ان اغفال الجانب الرقمي في النموذج التنموي الذي تنشده بلادنا سيحرمها لا محالة من احدى المقومات الاساسية للتنمية البشرية في عصرنا الراهن، نظرا لما تتيحه التكنولوجيات الحديثة من فرص وامكانيات لتجويد الخدمات العمومية وتحسين اداء كل الفاعلين سواء أكانوا اشخاص او مؤسسات في القطاعين الخاص و العام٠
المطلوب اليوم اذن هو الانخراط الفعلي في مسار الرقمنة والمرور الى السرعة القصوى في عالم يتطور و يتجه نحو هيمنة الذكاء الاصطناعي على جميع اوجه الحياة؛ و لعل مناسبة اعداد نموذج تنموي جديد لبلادنا فرصة ثمينة لتفعيل ورش التحول الرقمي للالتحاق اخيرا بركب الدول الصاعدة. و يمكن اعتبار عزم اللجنة الخاصة المكلفة بإعداد هذا النموذج خلق منصة رقمية لجمع مشاكل و اقتراحات المواطنين مؤشرا ايجابيا على وعي اعضاءها بأهمية الرقمنة.
تعليقات 0