التخلف العقلي وأثره على المسؤولية الجنائية
فــــــؤاد بــــــرامي
باحث في العلوم القانونية
خريج ماستر العلوم الجنائية والأمنية –مراكش.
بدأ الاهتمام بالمتخلفين عقليا منذ مدة غير قصيرة، حيث عرفه الإنسان منذ أقدم العصور، لكن نظرة المجتمعات إليهم قد اختلفت من عصر لآخر تبعا لمجموعة من المتغيرات والعوامل والمعايير. فإذا عدنا إلى تاريخ المتخلفين عقليا عبر العصور والحضارات المتنوعة لوجدناه واحدا من أكثر فصول تاريخ الحضارة الإنسانية قتامة وقسوة، حيث ظلت معاملة المتخلفين عقليا – ربما بشكل خاص حالات التخلف العقلي الشديد- واحدة من أكثر فصول تاريخ البشرية إثارة للاشمئزاز.
ففي العصور القديمة من التاريخ كان المتخلفون عقليا في القبائل الهمجية يساقون إلى الموت بلا أدنى رحمة أو شفقة باعتبارهم أفرادا غير نافعين للجنس البشري، أما في حقبة اليونان والرومان فقد كان التخلص منهم هو الاتجاه السائد باعتبارهم وصمة عار ومصدر للحزن وبأنهم أفراد غير صالحين لخدمة المجتمع، لذلك كانوا يعاملون بوحشية وقسوة، حيث كان يلقى بهم في السجون المظلمة، وكانوا يقيدون بالأغلال في أيديهم وأرجلهم، وكان الكي بالنار أو إحداث ثقوب في جمجمة المريض هو العلاج السائد آنذاك، اعتقادا منهم -الأطباء- أنه يسمح بإطلاق سراح الشياطين التي كان يعتقد الناس أنها تسكن جسد الإنسان[1].
ومن هذا المنطلق يعد التخلف العقلي إحدى المعضلات الشائكة التي تعاني منها جل الدول الديمقراطية، حيث تحظى اليوم باهتمام المسؤولين والباحثين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية وعلم النفس وعلوم التربية…إلخ
والجدير بالذكر أنه نتيجة للعوامل والمتغيرات العديدة التي طرأت على جوانب الحياة الاجتماعية، والثقافية، والأخلاقية، والدينية، كلها أدت إلى إثارة الوعي والإدراك العام لمدى أهمية هذا التخلف العقلي وضرورة توفير كافة الحقوق الأساسية للأشخاص المصابين به، ولا يتحقق هذا إلا من خلال دراسات معمقة لماهية هذا التخلف العقلي وأسبابه وحاجات ومشاكل الشخص المتأخر عقليا، وتقديم أفضل الخدمات وأكثرها ملائمة لحالتهم من الناحية الصحية، والنفسية، والتربوية، وتأهيلهم اجتماعيا ومهنيا قبل مساءلتهم جنائيا.
وفي السياق ذاته، وبالرجوع إلى النظرة القانونية، فإن الإقرار بثبوت الإصابة بالمرض (التخلف العقلي) لدى مرتكب الفعل الجرمي، هي من المسائل الموضوعية التي يختص فيها قاضي الموضوع بالفصل، وهو إجراء يقوم به غالبا بعد الاستعانة بذوي الخبرة في ذلك، وبعد التصريح بثبوت المرض، يبادر القاضي إلى تطبيق أثره على المسؤولية الجنائية.
إن إثبات المرض العقلي هو من اختصاص قاضي الموضوع، وللمحكمة أن تتحقق منه بنفسها إن آنست فيها القدرة على ذلك، فهي الخبير الأعلى في كل ما يستدعي خبرة فنية، والأصل في الخبرة أنها جوازية ليست ملزمة بالأخذ بها، باعتبارها إمكانية مخولة للقضاء، له أن يأخذ بها أو يطرحها ولا شيء عليه في ذلك.
وفي نفس السياق، سبق لمحكمة النقض -المجلس الأعلى سابقا- أن أعلن موقفه منها في عدة قرارات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قرار رقم 4963 الصادر بتاريخ 29 ماي 1984 في الملف الجنائي عدد 9381/84 والذي جاء في إحدى حيثياته أن الخبرة هي “وسيلة إثبات تملك معها المحكمة سلطة تقديرية لا تخضع فيها لرقابة المجلس، وأن عدم الاستجابة لطلب إجراء خبرة لا يؤثر في قرار المحكمة وأن السكوت عنه يعد جوابا ضمنيا برفضه”.
لابد من الإشارة إلى أن مسألة الإقرار بوجود خلل أو عيب عقلي من عدمه وقت ارتكاب الجريمة، هي من المسائل الشائكة الشديدة التعقيد، لما لها من ارتباط وثيق بمعارف علم النفس والطب النفسي، وهو تخصص ينآى بطبيعته عن مجال تخصص القاضي، إذ لا يمكنه أن يهتدي إلى الحقيقة بنفسه، خاصة وأن النتائج التي قد تترتب عن ثبوت الخلل العقلي من عدمه هي ذات أهمية كبيرة للفصل في الدعوى على النحو المبتغى من أجل تحقيق العدالة.
وباستقراء أنواع الأمراض العقلية والنفسية، والإحاطة بأسبابها وأعراضها، يتضح أن أخطرها هي التي لا تظهر للعيان، بل تكون متوارية في نفوس أصحابها وكامنة بين ثنايا الصدور، ولا يستطيع غير خبير إخراجها من هذه المكامن[2].
إذن، فإن المشرع اعتبر أن التأكد من الخلل العقلي الذي يرفع المسؤولية الجنائية أو يخفضها هو أمر موكول لمحكمة الموضوع تتولاه بعد الاستعانة برأي ذوي الخبرة، وهو ما يفهم من خلال الفصل 76 من مجموعة القانون الجنائي[3]، والفصلين 78 و79 من نفس القانون[4].
وباستقرائنا للنصوص الواردة أعلاه يتضح لنا جليا أن المشرع المغربي جعل مسألة التحقق من وجود الخلل العقلي من اختصاص أهل الخبرة من الطب النفسي، وهو التوجه الذي تمت تزكيته قضائيا، حيث تواترت عن محكمة النقض المغربية العديد من القرارات التي تصب في هذا الاتجاه، ونسوق على سبيل المثال قرار المجلس الأعلى غير المنشور عدد 1130/9 المؤرخ في 15 نونبر 2005 الصادر في الملف الجنحي عدد 11783/2003، حيث ورد في الحيثية المعتمدة لنقض وإبطال القرار المطعون فيه بالنقض ما يلي: ” وحيث أن الأمر يتعلق بمسألة طبية دقيقة لا يكون فيها الجزم إلا لمن تتوفر فيه الخبرة في ذلك الميدان، وأن المحكمة عندما اعتبرت الطاعن متمتعا بكامل قواه العقلية وأعرضت عن استدعاء الطبيبين المطلوب الاستماع إليهما، وبرفضها اللجوء إلى خبرة لاستجلاء الحقيقة، واعتمادها فقط على كون أجوبة المتهم كانت واضحة ومفهومة ولا توحي بأي اضطراب، تكون قد أبدت رأيها في موضوع لا دراية لها به، ودون الاستعانة بذوي الاختصاص في هذا الميدان، علما أن المطلوب هو حالة المتهم وقت ارتكابه الفعل الجرمي، مما تكون معه قد عرضت قرارها للنقض والإبطال.”
وانسجاما مع التوجه المذكور أعلاه وتأكيدا له تضمن قرار اخر للمجلس الأعلى عدد 23 الصادر بتاريخ 14911/2010 والذي جاء في مفتاحه أنه ” تكون المحكمة قد جانبت الصواب لما ردت طلب إجراء خبرة طبية على متهم لعلة أنه كان في حالة صحة طبيعية أثناء المحاكمة ولم يظهر عليه أي عارض من عوارض المرض العقلي أو النفسي، وقضت بمسؤوليته الجنائية عن الفعل المرتكب، في حين أن التقرير في مدى السلامة العقلية أو النفسية للمتهم مسألة طبية يتولاها ذوي الاختصاص وتخرج عن ولاية المحكمة.”
ومسك الختام يمكن القول على أن المشرع المغربي قد أوكل أمر إجراء خبرات عقلية للمساعدة على تحديد درجة المسؤولية الجنائية عند الجناة إلى هيئات التحقيق والحكم، وذلك إما تلقائيا أو بطلب من النيابة العامة أو المتهم أو دفاعه.
وسواء أخذت المحكمة برأي الخبير أو أهملته تبعا لاقتناعها بثبوت الخلل العقلي من عدمه، فإن ذلك يلزم عليها تعليل توجه قضائها بالاعتماد على رأي فني آخر، فالشيء الفني لا يدحض إلا بشيء فني مثله.
الهوامش :
[1] – مقال منشور بموقع www.acofps.com تاريخ التصفح 2019/08/30، على الساعة 03:30
[2]– وفي هذا تقول الأستاذة آمال عبد الرحيم عثمان في مؤلفها، الخبرة في المسائل الجنائية، ” إن أخطر صور الجنون هي ما خفي أمرها، بحيث يصعب على غير الخبير الفني اكتشاف أعراضه، فإنه يحسن أن تستعين المحكمة في الحالات التي تكون محل شك بالخبير
[3]– حيت نص الفصل 76 من م ق ج على ما يلي:
“إذا تبين لمحكمة الموضوع، بعد إجراء خبرة طبية، أن الشخص المتابع أمامها بجناية أو جنحة، كان عديم المسؤولية تماما وقت ارتكاب الفعل بسبب اختلال عقلي، فإنه يجب عليها:
1 – أن تثبت أن المتهم كان، وقت الفعل، في حالة خلل عقلي يمنعه تماما من الإدراك أو الإرادة.
2 – أن تصرح بانعدام مسئوليته مطلقا وتحكم بإعفائه.
3 – أن تأمر، في حالة استمرار الخلل العقلي، بإيداعه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.
ويبقى الأمر بالاعتقال ساريا على المتهم إلى أن يودع فعلا في تلك المؤسسة. “
[4] – حيت نص الفصل 78 على مايلي:
إذا قررت محكمة الموضوع، بعد الخبرة الطبية، أن مرتكب جناية أو جنحة، رغم كونه قادرا على الدفاع عن نفسه في الدعوى، إلا أنه كان مصابا وقت الأفعال المنسوبة إليه بضعف في قواه العقلية يترتب عليه نقص مسؤوليته، فإنه يجب عليها:
1 – أن تثبت أن الأفعال المتابع من أجلها المتهم منسوبة إليه.
2 – أن تصرح بأن مسؤوليته ناقصة بسبب ضعف في قواه العقلية وقت ارتكاب الفعل.
3 – أن تصدر الحكم بالعقوبة.
4 – أن تأمر، إذا اقتضى الأمر ذلك، بإدخال المحكوم عليه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية، قبل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية. ومدة بقائه في هذه المؤسسة تخصم من مدة العقوبة، وينتهي إيداعه في المؤسسة وفق الشروط المقررة في الفقرة الأخيرة من الفصل 77.”
حيت نص الفصل 79 على ما يلي:
“إذا قررت محكمة الموضوع، بعد الخبرة الطبية، أن الشخص المتابع لديها بجناية أو جنحة كامل المسؤولية أو ناقص المسؤولية بالنسبة للوقائع المنسوبة إليه، ولكن بسبب خلل في قواه العقلية طرأ عليه أو اشتد أثره بعد ارتكاب الفعل، أصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه في الدعوى، فإنه يجب عليها:
1 – أن تقرر أن المتهم عاجز عن إبداء دفاعه بسبب خلل في قواه العقلية.
2 – أن تأمر بوقف النظر في الدعوى.
3 – أن تأمر بإدخاله في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.
ويبقى الأمر بالاعتقال ساريا بالنسبة للمتهم حتى يتم إيداعه فعلا.
ويجب على الطبيب المعالج أن يخطر رئيس النيابة العمومية بقرار إخراجه في ظرف عشرة أيام على الأقل قبل تنفيذ الأمر بالخروج، ويبقى الأمر بالاعتقال الذي كان نافذا وقت إدخاله بالمؤسسة ساري المفعول وتستأنف المتابعة، بناء على طلب النيابة العمومية وفي حالة صدور حكم بعقوبة سالبة للحرية، فإن محكمة الموضوع يمكن لها أن تخصم المدة التي قضاها في المؤسسة من مدة تلك العقوبة.”
موضوع رائع. تابع التألق الأستاذ فؤاد