الضوابط الشكلية للسلطة التأسيسية في الدستور المغربي

عبد القادر بناصر

باحــــــث في القانـــــــون العــــــــــــــــــــــام

مقدمة عامة:

إن الدستور، بما هو مجموعة من القواعد المكتوبة والعرفية، والتي تنظم عمل المؤسسات العليا للدولة، يتميز بقدرته على التأقلم والتكيف مع المتغيرات والمستجدات التي يعرفها المجتمع، وعلى مختلف الأصعدة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وسيلته في ذلك آلية التعديل والمراجعة.

 ولذلك وجدنا دساتير كافة الدول تنص على كيفية التعديل، بل تفرد لذلك بابا تبين فيه حدود ممارسته وقيوده ومن له الحق في ذلك.

وسلطة التعديل والمراجعة، والتي هي سلطة تأسيسية فرعية، تستمد وهجها وقيمتها باعتبارها تعبيرا جزئيا عن السلطة التأسيسية الأصلية، التي لها حق وضع الدستور.

و معيار التفريق بينهما يجد أساسه في وجود نص قانوني سابق، إذ السلطة التأسيسية الفرعية التي تنبثق عن الأصلية تتقيد بالمسطرة المنصوص عليها في الدستور لممارسة مهامها، أما بالنسبة للسلطة التأسيسية الأصلية فهي متحررة من أي قيد قانوني، ومع ذلك فالقيود التي تفرض عليها تعد من طبيعة سياسية، فهي تتقيد بالشروط السياسية التي وجدت فيها، أو الشروط السياسية التي مهدت لوجودها، والتي تنعكس على محتوى الدستور[1].

إن السلطة التأسيسية الفرعية لا تطرح إشكالا كبيرا، إذ الدساتير بتنصيصها عليها تحسم هذا الإشكال، بيد أن السلطة التأسيسية الأصلية تكون مثار خلاف وجدال، ومرد ذلك الاختلاف طبيعة الدستور المراد وضعه.

فالذين يرغبون في دستور ديمقراطي لا خيار لهم إلا المطالبة بجمعية تأسيسية أو الاستفتاء الدستوري، ومن له عداء للديمقراطية فوسيلته إصدار دستور عن طريق المنحة، أو في شكل عقد.

ووضع الدستور، وبأية طريقة كانت، تؤدي تلقائيا إلى حسم السلطة التأسيسية الفرعية(سلطة التعديل)، هذه السلطة التي ترتبط ،اشد الارتباط، بوجود وثيقة دستورية، ولا سيما المكتوبة منها، والتي تعدل إما رسميا، بما يتوافق و ما نص عليه الدستور، وإما عرفيا، والذي لا يحدث أثره إلا عند توفره على عنصرين، احدهما مادي والآخر معنوي.

ومهما يكن من أمر تعديل الدساتير، الذي تتطلبه دواعي وأسباب قد تكون عامة وقد تكون خاصة، فإن هذا التعديل لا يتعارض في شيء مع سمو الدستور، والذي يجب أن يكون واقعا معيشا، غير أن الأمر على خلاف ذلك في الدول الديكتاتورية، فسمو الوثيقة الدستورية عندها لا يتم التشبث به إلا إذا كانت الوثيقة الدستورية  في أساسها تخدم مصالح الحاكم وحاشيته، وإلا فإن خرقها من طرف الحاكم المستبد لا مناص منه.

والمغرب، حتى وان كان لم يعرف طريقه إلى الدسترة إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، فان الفكرة الدستورية لم تغب عن أذهان إصلاحيي هذا البلد، اذ الإرهاصات الأولى كانت جد متقدمة، ولعل بداية القرن العشرين، وما عرفته من أحداث، شكلت نقطة انعطاف داخل الوعي الإصلاحي في المغرب، وانعطاف قضية الإصلاح السياسي برمتها إلى طرح المسألة الدستورية وتبلورها كإشكالية جديدة ومركزية في الوعي السياسي للنخبة الإصلاحية.[2]

ولقد برزت مع مطلع هذه الفترة (القرن العشرين) عدد من مشاريع الدساتير، نظير مشروع الشيخ عبد الكريم الطرابلسي (1906)، ومشروع دستور جماعة لسان المغرب(1908)، ومذكرة الحاج علي زنيبر[3]، ودستور محمد بن عبد الكريم الخطابي[4].

وعلى الرغم من تعدد هذه المشاريع، إلا أنها توحدت في مطلبين أساسيين:

أولهما: السعي نحو دمقرطة الإيالة الشريفة.

وثانيهما: محاولة الانعتاق من التكالب الأجنبي الذي بدأ يحكم قبضته على المغرب[5].

والذي كان التخوف منه وقع، وخضع المغرب للحماية الفرنسية، وما كانت هذه الوضعية الجديدة لتثني إصلاحيي المغرب عن السعي إلى المطالبة بالديمقراطية، لكن هذه المرة مصحوبة بالرغبة في الاستقلال من الاحتلال الفرنسي.

 وبهذا الصدد يقول صاحب كتاب التطور الدستوري والنيابي بالمغرب: ” ولهذا تطورت الفكرة عند الوطنيين المغاربة من المطالبة بالإصلاح الإداري والاجتماعي والسياسي، إلى المطالبة بالاستقلال، ثم تنظيم الحكم على أساس ملكية دستورية “[6].

وبعد حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، رغبت المؤسسة الملكية والأحزاب الوطنية في التعجيل بعملية الدسترة وإحداث مؤسسات تساهم في عملية بناء الوطن الخارج لتوه من عهد الحجر والوصاية، وتجلى هذا في عديد المبادرات التي قامت بها المؤسسة الملكية، ومن أهمها ” العهد الملكي “، والذي بموجبه أكد محمد الخامس ما يلي:

  • الاستقلال ليس غاية وإنما وسيلة، لتحقيق إصلاحات جوهرية، وتزويد البلاد بأنظمة ومؤسسات سياسية ودستورية سليمة.
  • أفضل حكم ينبغي أن تعيش في ظله بلاد، تتمتع بسيادتها وتمارس شؤونها بنفسها، هو الحكم الديمقراطي.
  • إن الوقت قد حان لتدخل البلاد في طور جديد من حياتها، وذلك بإقامة مؤسسات سياسية ودستورية، يشارك بها الشعب في تسيير الشؤون العامة.[7]

إلا أن ظروف التنزيل شهدت جدالا واسعا حول موقع الملك في النظام السياسي والدستوري المراد إقامته، على اعتبار أن ما شهدته هذه الحقبة التاريخية (1956 – 1962) من تدافع سياسي ونقاش واسع حول اتجاهات النظرية السياسية ستحدد السلطة وممارستها وانتقالها داخل النظام السياسي المغربي.[8]

وفي 1962، وخروجا من حالة الصراع، اخذ الملك الراحل الحسن الثاني المبادرة ووضع أول دستور للمغرب (دستور 1962 )، ليلج بذلك المغرب ” مرحلة الدسترة “، وتوالت بعد ذلك التعديلات الدستورية، كإفراز طبيعي لتفعيل السلطة التأسيسية الفرعية المنصوص عليها في الدستور، لتثمر دساتير1970-1972-1992-1996 وأخيرا دستور 2011.

ومن هنا نطرح الإشكالية الرئيسية التالية:

” كيف أطرت الوثيقة الدستورية ،من حيث الشكل، السلطة التأسيسية الفرعية ؟ “

 هذه الإشكالية الرئيسية تتفرع عنها إشكاليات فرعية من قبيل:                                  

  • من هي الجهات التي تملك السلطة التأسيسية الفرعية في الدستور المغربي؟
  • هل السلطة التأسيسية الفرعية حق حصري للملك؟
  • ما دور البرلمان في تقييد سلطة الملك التأسيسية؟
  • هل يمتلك رئيس الحكومة والبرلمان السلطة التأسيسية الفرعية؟
  • كيف يُفَعّل رئيس الحكومة سلطته التأسيسية؟
  • ما هي القيود الشكلية الواردة على سلطة البرلمان التأسيسية؟
  • هل للشعب، من خلال الاستفتاء، من علاقة بالسلطة التأسيسية؟

سنحاول مقاربة هذه الإشكالية الرئيسية وما تفرع عنها في مبحثين، الأول سنخصصه للحديث عن السلطة التنفيذية، باعتبارها الجهة الأولى التي خولت لها الدساتير المغربية الستة هذا الحق، مبرزين في الآن ذاته ضوابط تفعيلها، فيما سنفرد المبحث الثاني للسلطة التشريعية والتي بوأها الدستور المغربي، انطلاقا من الدستور المؤسس، مكانة خاصة، بحيث اسند لها مهام عدة ومن أهمها السلطة التأسيسية الفرعية.

المبحث الأول : السلطة التنفيذية.

السلطة التنفيذية في المغرب تنهض على ركيزتين، الأولى تتجلى في الملك، إذ هو رئيس الدولة وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية ، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة”.

وهو أيضا “ضامن استقلال البلاد وحوزه المملكة في دائرة حدودها الحقة”.[9] وهو الذي يعين رئيس الحكومة وأعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها.[10]

ويرأس المجلس الوزاري[11]ويتداول في التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة وفي مشاريع القوانين التنظيمية والتوجهات العامة لمشروع قانون المالية ومشاريع مراجعة الدستور.[12]

فالملك إذن وبمقتضى نصوص الدستور يمارس السلطة التنفيذية رغم عدم مسؤوليته أمام البرلمان.

أما الركيزة الثانية فتتمثل في رئيس الحكومة (الوزير الأول سابقا)، إذ أسند له الدستور مجموعة من الصلاحيات خاصة مع الدستور الجديد ل 2011. الذي أناط بالحكومة تحت سلطة رئيسها مسؤولية تنفيذ البرنامج الحكومي، وتنفيذ القوانين.[13] وأعطى لرئيس الحكومة صلاحية التعيين في الوظائف المدنية في الإدارات العمومية، وفي الوظائف السامية في المؤسسات والمقاولات العمومية.[14]

والحكومة ورئيسها مسؤولة أمام البرلمان الذي يراقب عملها ويقيم سياساتها العمومية.[15]

من هنا نتساءل عن حدود ودور الملك في تفعيل سلطته التأسيسية (المطلب الأول)، وعن دور الوزير الأول في مراجعة الدستور تفعيلا لهذه السلطة (المطلب الثاني).

المطلب الأول : المبادرة الملكية

الملك له دور أساسي في تفعيل سلطة التعديل، إذ حضوره يبقى ظاهرا في جل دساتير المملكة، ولذلك سنعمد إلى الحديث عن المبادة الملكية في الدساتير السابقة على دستور 2011 (الفقرة الأولى) على أن نخصص الفقرة الثانية لإبراز معالم هذه المبادرة من خلال الدستور الأخير( 2011 ).

الفقرة الأولى :السلطة التأسيسية للملك في الدساتير السابقة (قبل دستور 2011)

خصصت الدساتير السابقة (1962 – 1970 – 1972 – 1992) الباب الحادي عشر للمراجعة الدستورية (السلطة التأسيسية الفرعية) ، بينما دستور 1996 خصص لها الباب الثاني عشر.

هذه الأبواب بفصولها المتعددة أطرت مبادرات تفعيل السلطة التأسيسية الفرعية بما فيها المبادرة الملكية.

 فبخصوص هذه المبادرة نجد أن الدستور المؤسس (دستور 1962) لم يخول الملك سلطة تعديل الدستور، إذ هذه السلطة خولت للوزير الأول فضلا عن البرلمان،[16] الذي كان يتألف في حينها من غرفتين.

إلا أن هذا الاستثناء من تمتيع الملك بحق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور تم التخفيف من حدته ، وذلك عندما تم تقييد مبادرة الوزير الأول بضرورة المرور عبر المجلس الوزاري[17] الذي يرأسه الملك،[18] للمداولة بشأنها، قبل أن تكون محل مداولة من طرف مجلسي البرلمان.[19]

أما دساتير السبيعنات (دستور 1970 و دستور 1972) فقد متعت الملك بهذا الحق.

 فدستور 1970 كان استثنائيا بكل المقاييس، إذ سلطة الملك التعديلية فيه، أضحت بارزة وواضحة، بل حصرية،[20] إذ تم تجريد الوزير الأول والبرلمان الذي بات يتألف من مجلس النواب فقط من سلطة التعديل التي كانت لهما في دستور 1962، واكتفى مجلس النواب باقتراح المراجعة الدستورية على الملك فقط.[21]

ودستور 1972 سار على منوال سابقه، إذ حافظ على حق الملك في اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور، إلا أنه أضاف له حق استفتاء الأمة مباشرة في شأن المشروع الذي يستهدف به مراجعة الدستور.[22]

وفيما يتعلق بدساتير التسعينات (دستور 1992 و دستور 1996) لم يشذا عن القاعدة التي تم تكريسها في دستور 1972، إذ خولت للملك حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور، كما أبقت له حق الاستفتاء المباشر لشعبه في شأن المشروع الذي يستهدف به مراجعة الدستور.[23]

وتبقى الإشارة إلى أن المبادرات الملكية في مراجعة الدستور لا تصير نهائية إلا بعد إقرارها بالاستفتاء ، وهو الأمر الذي أجمعت عليه الدساتير السابقة.[24]

الفقرة الثانية :الملك وسلطة التعديل الدستوري في دستور 2011

الباب الثالث عشر من دستور 2011 ، والذي تضمن أربعة فصول ( من الفصل 172 إلى الفصل 175 ) تم تخصيصه للمراجعة الدستورية ، وبينت فصول هذا الباب السلطات التي لها حق مبادرة تعديل الدستور، وتأتي على رأسها المؤسسة الملكية،[25] والتي احتفظت بحق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور، لمركز الثقل الذي تتمتع به هذه السلطة في النظام الدستوري والقانوني والسياسي للدولة المغربية، ولها أيضا أن تستفتي الشعب مباشرة بشأن أي مشروع يروم مراجعة الدستور.[26]

مقال قد يهمك :   الحسين بلحساني : قواعد إثبات النسب و التقنيات الحديثة

ويلاحظ في دستور 2011 أن مشاريع مراجعة الدستور مقتصرة على الملك ، بينما رئيس الحكومة والبرلمان توصف مبادرتهما بالمقترح.

والجديد الذي ينبغي الإشارة إليه ، هو أن الدستور المغربي قد خول للمؤسسة الملكية الحق في اتخاذ مبادرة مراجعة الدستور وعرضها على البرلمان بظهير، على أن يحدد النظام الداخلي لمجلس النواب كيفية تطبيق هذا المقتضى – دون سلك مسطرة الاستفتاء،[27] حيث يحق له بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية أن يحيل على أنظار البرلمان مشروع المراجعة ، ويتولى الملك استدعاء المجلسين في اجتماع مشترك لبحث النص المعروض عليهما، ويتم إقرار المراجعة إذا حظيت بأغلبية ثلثي أعضاء البرلمان المنعقد في هيئة واحدة.[28]

ومشروع المراجعة المعروض من طرف الملك على البرلمان ينعقد وفق الكيفيات المنصوص عليها في المادة 174 من القانون الداخلي لمجلس النواب والتي تتلخص فيما يلي :

1- عقد البرلمان لاجتماع مشترك بدعوة من الملك.

2- ترؤس رئيس مجلس النواب للاجتماع المشترك ويحضر إلى جانبه رئيس مجلس المستشارين.

3- تكليف أمين كل مجلس بأمانة الجلسة المشتركة للمجلسين.

4- افتتاح الرئيس الاجتماع المشترك بتلاوة مضامين مشروع المراجعة الذي يوزع على أعضاء المجلسين.

5- مناقشة مضامين المشروع بالاستماع إلى مداخلات الفرق والمجموعات البرلمانية في كلا المجلسين.

6- التصويت علنيا برفع اليد.

7- لا تتم المصادقة على هذه المراجعة إلا بموافقة ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم البرلمان.

أما مجلس المستشارين فقد أشار إلى هذا النوع من المراجعة في المادة 274،[29] وأكدت هذه المادة على أن الملك هو من يدعو البرلمان إلى الانعقاد لهذه الغاية ويحدد تاريخ الاجتماع المشترك للمجلسين ، وأحالت نفس المادة فيما يتعلق بالجلسة المشتركة لهذا الغرض على الضوابط المقررة في النظام الداخلي لمجلس النواب.

ان هذا المقتضى الجديد، والذي خول للملك حق عرض مشروع المراجعة على البرلمان دون اعتماد الاستفتاء،[30] هو توجه نحو إضفاء نوع من المرونة على مسطرة مراجعة الدستور، بتلافي المرور الإلزامي عبر الاستفتاء المباشر.[31]

المطلب الثاني : مبادرة رئيس الحكومة ( الوزير الأول سابقا)

إن حضور رئيس الحكومة (الوزير الأول سابقا) في مبادرة تعديل الدستور يبدو محتشما، إذ أن هذا الحضور لا نجده إلا في دستورين، الدستور المؤسس (1962)، والدستور الأخير 2011 .

ولعل هذا الأمر راجع إلى نية واضعي الدستور في إضعاف مؤسسة رئيس الحكومة مقابل هيمنة المؤسسة الملكية.[32]

فكيف قارب دستور 1962 سلطة التعديل لدى الوزير الأول (الفقرة الأولى)، وما هي المستجدات التي حملها دستور 2011 لرئيس الحكومة على صعيد مراجعة الدستور (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى :السلطة التأسيسية للوزير الأول  في دستور 1962

الفصل 104 من دستور 1962 أعطى للوزير الأول حق التقدم بطلب مراجعة الدستور إلى جانب البرلمان، إلا أن هذا الحق تم تقييده بضرورة المرور عبر المجلس الوزاري، بقصد وضع مشروع المراجعة، ثم بعدها يحال على المجلسين قصد التداول.

إن دستور 1962 وإن كان قد أعطى الوزير الأول حق مراجعة الدستور واستثنى الملك من ذلك، إلا أنه عاد ليضع قيدا على هذا الحق ويستدرك بإدماج الملك في عملية المراجعة من خلال إحالة مبادرة الوزير الأول على المجلس الوزاري.

ورغم ذلك فهذه التجربة الدستورية، وهي الأولى للمغرب بعد الاستقلال يشهد كثير من السياسيين وأساتذة القانون الدستوري على تطورها في ذلك الوقت، إذ كفلت للوزير الأول حق المبادرة في مراجعة الدستور.[33]

 هذا الحق سيغيب عن الدساتير اللاحقة ،وتأسيسا على ذلك سيفقد الوزير الأول حقه في اتخاذ المبادرة لمراجعة الدستور، الأمر سيبقى على ذلك إلى حين المصادقة على دستور 2011 الذي سيعاود الحديث عن سلطة التعديل لدى رئيس الحكومة.

الفقرة الثانية :رئيس الحكومة وسلطته التعديلية في دستور 2011

بعد أن جرد الوزير الأول من سلطة التعديل في دساتير ( 1970 – 1972 – 1992 – 1996)، عادت له هذه السلطة مع دستور 2011، ولعل ذلك مرده إلى المكانة المعتبرة التي أضحت لمؤسسة رئيس الحكومة، إذ صلاحيتها تم توسيعها مقارنة مع صلاحيات الوزير الأول (سابقا)، ولأن الحكومة تتوفر على نظرة شمولية بخصوص اشتغال المؤسسات، لذا من المعقول أن يكون رئيسها مصدرا للمراجعة الدستورية.

إن استحقاق رئيس الحكومة لسلطة التعديل جاءت وفق مقتضيات الفصل 172 من الدستور الجديد، لكن الأجرأة العملية لهذه السلطة مقيدة بقيدين.[34]

الأول : التداول بشأن مقترح رئيس الحكومة في المجلس الحكومي.

الثاني : عرض هذا المقترح على المجلس الوزاري.

وإذا ما عقدنا مقارنة بين دستور 1962 و 2011 وجدنا.

1- ان كلا الدستورين منح هذا الحق للحكومة ممثلة في الوزير الأول سابقا أو رئيس الحكومة حاليا.

2- أن مبادرة التعديل تحال على المجلس الوزاري.

3- إن دراسة المبادرة في دستور 2011 يتم التداول بشأنها في المجلس الحكومي قبل عرضها على المجلس الوزاري، بينما لم يتم التنصيص على هذا الأمر في الدستور المؤسس (1962).

المبحث الثاني : السلطة التشريعية وتفعيل السلطة التأسيسية.

المؤسسة البرلمانية ظلت دائمة الحضور في النظام السياسي المغربي، فمع بزوغ أول دستور بالمغرب (دستور 1962) وجدنا الحضور القوي لمؤسسة البرلمان الذي كان يتألف حينها من غرفتين،[35] إذ فضلا عن الدور التشريعي كان إشهار الحرب يقع بإذنه،[36] وتمديد حالة الحصار كذلك.

لم يقف الأمر عند هذا الحد فالبرلمان كان له حق اتخاذ المبادرة من أجل مراجعة الدستور.

 هذا الحضور ما لبث أن خفت قليلا، وخاصة مع دستور 1970 الذي جاء عقب حالة الاستثناء، والبرلمان في هذا الدستور إلى غاية دستور 1992 كان يتألف من مجلس النواب فقط، ليتم العودة مع دستور1996 إلى نظام الغرفتين،وهو الأمر الذي بقي مع دستور2011.

إن سلطة البرلمان في مراجعة الدستوري كانت دائما تتأرجح بين الحضور القوي، والباهت أحيانا.

 فكيف أطرت الوثيقة الدستورية مقترح المراجعة الصادر عن البرلمان (المطلب الأول) ، وما هو دور البرلمان في مشروع التعديل الدستوري (المطلب الثاني).

المطلب الأول : البرلمان ومقترح التعديل الدستوري

إن الدساتير الستة للمغرب كفلت للبرلمان حق اقتراح مراجعة الدستور، باستثناء ما كان في دستور 1970 الذي حصر مبادرة البرلمان في اقتراح التعديل على الملك،[37] ليكون للملك وحده حق مراجعة الدستور.

هذه المبادرة البرلمانية يشترط لقبولها وجود نصاب قانوني (الفقرة الأولى) فضلا عن الإحالة بين المجلسين (الفقرة الثانية) حالة وجود برلمان مشكل من غرفتين.

الفقرة الأولى : المبادرة والنصاب القانوني

اقتراح المراجعة الدستورية من قبل البرلمان حق نصت عليه جميع الدساتير المغربية، فدستور 1962 أكد أن التقدم بطلب مراجعة الدستور حق يتمتع به الوزير الأول والبرلمان،[38] ولم تبين الفصول الخمسة المرتبطة بالمراجعة الدستورية كيفية ممارسة البرلمان لهذا الحق، والعدد الذي من شأنه أن يبادر بطلب المراجعة، اللهم التأكيد على أن الأغلبية المطلقة، في كل مجلس، شرط ضروري لقبول الاقتراح.

 ونفس الغموض بقي مع دستور 1970 ، مع ضرورة الإشارة إلى أن مجلس النواب يقترح مبادرته على الملك،[39] وذلك بعد موافقة ثلثي أعضائه على تقديم هذا الاقتراح .

بيد أنه مع دستور 1972 بدأت الإشارة إلى العدد الذي يحق له اقتراح المراجعة، مع التأكيد على أن الاستثناء الذي رافق دستور 1970 بخصوص اقتراح المراجعة على الملك تم إغفاله في دستور 1972.[40]

وبالتالي أصبح لمجلس النواب حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور، وهذه المبادرة لأي عضو من أعضائه أن يتقدم بها، ولا تقبل إلا بموافقة ثلثي أعضاء المجلس.[41]

والأمر ذاته بقي في دستور 1992،[42] والإضافة الجديدة تكمن في أن اقتراح التعديل يكون لعضو أو أكثر من أعضاء مجلس النواب،[43] أما الأغلبية المطلوبة لقبول الاقتراح فلم يطرأ عليها أي تغيير.

ومع دستور 1996 تمت العودة إلى نظام الغرفتين ليتشكل معها البرلمان من مجلس للنواب وآخر للمستشارين وهو الأمر ذاته في دستور 2011.

وحق اقتراح المراجعة الدستورية مكفول لعضو أو أكثر من أعضاء المجلسين إلا أن قبول المقترح مقرون بالإحالة بين المجلسين.[44]

الفقرة الثانية : الإحالة بين المجلسين

لا يمكن الحديث عن نظام الإحالة إلا في ظل وجود برلمان مؤلف من غرفتين، والمغرب نص دستوره على نظام الغرفتين في ثلاث مناسبات:

  • الأولى في دستور 1962 ، ليتم الاكتفاء بعدها بغرفة واحدة (مجلس النواب) في دساتير 1970 – 1972 – 1992.
  • الثانية في دستور 1996.
  • الثالثة في دستور 2011 الذي حافظ على نفس تركيبة البرلمان في دستور 1996(نظام الغرفتين).

فبالعودة إلى دستور 1962 لا نجد الحديث عن نظام الإحالة ، بل كل مجلس يتخذ مبادرة المراجعة ، ويصوت عليها بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم كل مجلس على حدة.[45]

والحديث عن الإحالة لم يبرز إلا مع دستور 1996 والعودة إلى العمل بنظام الغرفتين وتكرس مع دستور 2011، ومفاد هذه الإحالة أن الاقتراح الذي يتقدم به عضو أو أكثر من أعضاء أحد المجلسين لا تصح الموافقة عليه إلا بموافقة المجلس الآخر.

فإذا كان المشرع الدستوري المغربي منح لكل مجلس الانفراد بتقديم المبادرة، وهو ما يتضح جليا من خلال الفصلين الرابع بعد المائة من دستور 1996،[46] والثالث والسبعين بعد المائة من دستور 2011.[47] غير أنه  بالمقابل لا يمكن قبول مبادرة أي مجلس إلا بعد موافقة المجلس الأخر.

وتقتضي الإحالة ما يلي :

1- اقتراح مبادرة التعديل من طرف عضو أو أكثر من أعضاء مجلس النواب أو المستشارين.

2- مصادقة المجلس المعني بالمبادرة على المقترح بأغلبية ثلثي أعضائه.

3- إحالة المقترح على المجلس الآخر.

4- المصادقة عليه من طرف هذا المجلس بأغلبية ثلثي أعضائه[48].

فعلى الرغم من كون المشرع الدستوري أعطى لكل غرفة حق تقديم مبادرة التعديل بصفة مستقلة عن الأخرى ، غير أن هذه المبادرة لن تر النور إلا بموافقة المجلس النظير، وهذا التوجه الإجرائي للمشرع الدستوري المغربي وإن كان ايجابيا إلا أنه لا يخلو من سلبيات، فالوجه الإيجابي يتجلى من خلال:

1- إقرار مبدأ المساواة بين المجلسين، وذلك بإعطاء كل منهما سلطة اقتراح تعديل دستوري.

2- ضرورة موافقة كل مجلس على المبادرة المقدمة من المجلس النظير.

أما الوجه السلبي لمثل هذا الاتجاه الإجرائي، فيتجلى من خلال:

  1. تحكم كل من المجلسين في عملية المبادرة بالتعديل الدستوري، ذلك أن امتناع احدهما عن التصويت على المبادرة المقدمة من المجلس النظير من شأنه إهدار حق المجلس الآخر في هذا المجال.
  2. لا يكون لهذا الأخير وأمام حالة الرفض إلا البقاء ساكنا، لأن تصويته المنفرد على المبادرة لن يؤدي إلى إقرارها.[49]
مقال قد يهمك :   نحو مقترح يضع رفع حالة التنافي بين مزاولة مهنة المحاماة و وظيفة الأستاذ الجامعي في القانون  بيد " مجالس الهيئات "

بعد الإحالة وقبول المجلسين للمبادرة، يرد عليها قيد أساسي يتمثل في عرض هذه المبادرة (مقترح المراجعة) على الاستفتاء الشعبي،[50] بواسطة ظهير وفق ما اقتضاه نظر المشرع الدستوري، ويلزم لمقترح المراجعة ليصبح نهائيا أن يقره الشعب في استفتاء[51] ينظم بهذا الخصوص.[52]

إن تعقد مسطرة المبادرة المخولة للبرلمان وتسييجها بمجموعة من القيود مستحيلة التحقق، وإلزام عرض مبادرة رئيس الحكومة على المجلس الوزاري، واشتراط، لعرض مشاريع ومقترحات مراجعة الدستور على الاستفتاء، الموافقة الملكية عبر ظهير كل ذلك يجعل مراجعة الدستور محتكرا لدى المؤسسة الملكية.[53]

المطلب الثاني : البرلمان والتداول في مشروع التعديل الدستوري

شهد المغرب عدة برلمانات بين عامي 1963 و 2016، وباستثناء الفترة الوجيزة التي حل فيها الملك البرلمان،[54] فقد ظل البرلمان موجودا باستمرار.

ومن دستور إلى آخر تعززت سلطات البرلمان، فالبرلمانات الأولى، ما عدا برلمان 1963، كانت شكلية، اقتصر دورها على الاستشارة وإصدار القرارات المتخذة خارجها، لكن التجارب الأحدث تظهر أن البرلمان ينزع إلى تأدية دور فعال على نحو متنامي في مجالي التشريع ومراقبة الحكومة.[55]

وتعززت هذه الفعالية في دستور 2011 الذي منح البرلمان مزيدا من الصلاحيات وخصوصا مجلس النواب، إذ وسع نطاق سن القوانين واعترف بمكانة المعارضة.[56]

ولا يقتصر دور البرلمان على ذلك بل يتعداه إلى اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور.

ومعلوم أن المبادرات التي تستهدف مراجعة الدستور إما أن تكون مشروعا أو مقترحا، فالمشروع هو الذي يبادر به الملك، وجميع الدساتير أشارت إلى المبادرة الملكية واصفة إياها بالمشروع، ما عدا دستور 1962 الذي لم يكن فيه للملك حق ممارسة سلطة التعديل بشكل مباشر، والتي أعطيت للوزير الأول شريطة مرورها عبر المجلس الوزاري لتصبح مشروعا، ودستور 1970الذي لم يطلق أي صفة على مبادرة الملك التعديلية.[57]

أما الاقتراح فقد تم قصره في الدساتير الخمس السابقة على المبادرة البرلمانية، لتنضاف مبادرة رئيس الحكومة في دستور 2011 إلى خانة المقترحات بدل المشاريع، التي أضحت حكرا على المؤسسة الملكية.

وبالتالي فحديثنا في هذا الفرع سينصب على مشاريع المراجعة الدستورية ودور البرلمان في دراستها والتداول بشأنها، وذلك في الدساتير السابقة (الفقرة الأولى) ودستور 2011 (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى :التداول البرلماني  في الدساتير السابقة

الدساتير السابقة (1970 – 1972 – 1992 – 1996) لم تتطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى التداول البرلماني في مشاريع مراجعة الدستور، ولعل الأمر عائد إلى أن مشروع مراجعة الدستور أصبح اختصاصا ملكيا، وهذه الدساتير جعلت سمو المؤسسة الملكية أمرا محسوما فيه، فدستور 1970 وباستقراء فصوله يتبين أنه أحدث تغييرات جوهرية شملت بشكل سلبي كل من الجهازين التنفيذي والتشريعي، مقابل تقوية موقع المؤسسة الملكية، التي أصبح مجال تدخلها واسعا جدا، ويشمل مجالات عدة من قبيل حق الملك في تعيين الحكومة وجعلها مسؤولة أمامه، حل مجلس النواب، ممارسة التشريع ريثما يتم انتخاب برلمان جديد.[58]

أما دستور 1972 فقد كرس مهام الملك وسلطه، وأعطاه وصفا خاصا بحيث أن الملك هو الممثل الأسمى للأمة،[59] هذا ما يجعل تمثيلية النواب تمثيلية في مرتبة أدنى، وهذا ما خول للملك كذلك السلطة لممارسة الحكم باعتباره فوق السلطات.[60]

فمن خلال المهام الدينية والوطنية والسياسية التي يحوزها الملك يمكن أن نفهم المكانة السامية التي تتقلدها الملكية بين المؤسسات، فالدستور[61] يبقي على اختصاصاته التاريخية التقليدية باعتباره أميرا للمؤمنين، ويمكنه من سلطات واسعة لممارسة مهام رئاسة دولة عصرية بإشراك المؤسسات الأخرى في تسيير دفة الحكم، وذلك من خلال النصوص الدستورية الجديدة.[62]

وسمو المؤسسة الملكية يبقى جليا في دساتير السبعينات، وخاصة في علاقة الملك مع المؤسسة التشريعية،[63] فعلاقة هذه المؤسسة فضلا عن الحكومة، هي علاقة تبعية أكثر منها علاقة توازن، بل إن منطق النظام السياسي المغربي قد حول البرلمان إلى أداة للسلطة الملكية، وإسباغ الشرعية عليها، وجعل من الحكومة مندوبا مفوضا للملك ، فكلاهما لا يعبران عن استقلالها وشخصيتها إلا عندما يناقشان ويحددان كيفية تطبيق السياسة التي اقرها الملك الذي هو المصدر الفعلي للسلطة في البلاد.[64]

وهذا السمو للمؤسسة الملكية بقي حاضرا في دساتير التسعينات (دستور 1992 و 1996) وبقيت علاقة التبعية هي الناظم الأساسي الذي يربط بين المؤسسة الملكية وباقي المؤسسات.

ويبقى الاستثناء الوحيد هو دستور 1962، الذي حتى وإن كان قد تم الإعلان عنه بشكل منفرد ليكرس حيازة الملك للسلطة التأسيسية الأصلية، وبالتالي نقل الجدل السياسي إلى مجال السلطة التأسيسية الفرعية (سلطة المراجعة)، فإن هذا الدستور قصر مبادرة المراجعة على الوزير الأول والبرلمان المشكل من غرفتين ساعتها، ومبادرة الوزير التي اشترط لقيامها شرطين.[65]

الأول : مرورها عبر المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك، لتخرج هذه المبادرة في صيغة مشروع مراجعة.

الثاني: أن يكون هذا المشروع محل مداولة من طرف البرلمان بمجلسيه.

لكن الوثيقة الدستورية اكتفت بالإشارة إلى التداول البرلماني في مشروع المراجعة الدستورية ولم تبين كيفية هذا التداول ومآلا ته، هل يتم التصويت على هذا المشروع أم يتم الاكتفاء بمناقشته.

 ولعل الأمر سيزداد غموضا بعد الانتخابات التشريعية ل 1963 وتشكيل أول برلمان بالمغرب، إذ سيتم حل هذا البرلمان بعد سنتين (عام 1965) اثر إعلان حالة الاستثناء، وتم تجميع جميع السلط بيد الملك، وحالة الاستثناء هذه بقيت إلى 1970 السنة التي عرفت إصدار دستور جديد، عرف بدستور ” دسترة حالة الاستثناء” مما فوت على البرلمان فرصة ممارسة حقه في التداول في مشاريع المراجعة الدستورية.

وتداول البرلمان في مشروع المراجعة لا يعفيه من الاستفتاء،[66] بل ان الفصل 76 من نفس الدستور (1962) يؤكد على أنه لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ أي مشروع أو اقتراح قانون يرمي إلى تغيير الدستور قبل أن يوافق عليه بالاستفتاء”.

لقد كان دستور 1962، مقارنة مع الدساتير التي أعقبته، وخاصة فيما يتعلق بالمراجعة الدستورية، جد راق ومتطور، إذ في الوقت الذي كرس فيه هذا الدستور سلطة البرلمان في مسالة التداول في مشاريع المراجعة الدستورية نجد أن الدساتير اللاحقة ألغت هذه المسألة، بل جعلت البرلمان، كما هو حال دستور 1970، مجرد هيئة تقترح على الملك المبادرات التعديلية، فضلا عن تكريسها للصلاحيات المطلقة للملك في مراجعة الوثيقة الدستورية، بحيث أضحى محتكرا للسلطة التأسيسية الفرعية.

فإذا كان دستور 1962 قد أعطى البرلمان حق التداول في مشاريع مراجعة الدستور والدساتير اللاحقة (دساتير السبعينات والتسعينات) جردت البرلمان من هذا الحق لتكتفي بإعطائه حق اتخاذ المبادرة لمراجعة الوثيقة الدستورية، فكيف تعامل الدستور الجديد للمملكة (دستور 2011) مع مسألة تداول البرلمان في مشاريع المراجعة الدستورية.

الفقرة الثانية : في دستور 2011

تعتبر المؤسسة التشريعية أكبر مستفيد من دستور 2011، حيث عرفت تغييرات جوهرية مست الجانبين المورفولوجي (الشكلي) والموضوعي على حد سواء، فتغيير وضعية البرلمان وإعادة هيكلة بنيته التنظيمية إلى جانب الرفع من فعاليته كانت من المرامي الأساسية التي توخاها هذا الإصلاح الدستوري، سواء على مستوى توسيع سلطة، أو على مستوى الرفع من قدراته على مراقبة الحكومة، كما أعاد هذا الدستور نوعا من التوازن بين مجلسي النواب والمستشارين على مستوى تركيبتهما، لكنه حافظ بالمقابل على الطابع التقريري لاختصاصاتهما معا، فالغرفة الثانية لم تتحول إلى غرفة صورية بل بقيت غرفة تقريرية، حيث أعطى المشرع لكلا الغرفتين حق المبادرة بعرض مقترحات القوانين والمصادقة على مشاريع القوانين.[67]

واستفادة البرلمان أيضا همت التوسع في مجال القانون، فإلى جانب احتفاظه بالاختصاصات التي كان منصوص عليها في الفصل 46 من دستور 1996، فقد تم توسيع مجال القانون بموجب الفصل 71 من دستور 2011، حيث انتقلت هذه الاختصاصات من 30 اختصاصا إلى 60 اختصاصا.[68]

وتم دسترة منع الترحال البرلماني، وذلك لأول مرة، بحيث أصبح يجرد من صفة عضو في أحد المجلسين كل من تخلى عن انتمائه السياسي الذي ترشح باسمه للانتخابات، أو الفريق او المجموعة البرلمانية التي ينتمي إليها.[69]

فضلا عن عقلنة حل البرلمان والحصانة البرلمانية والتقليص الملحوظ من النصاب القانوني فيما يتعلق بإمكانية عقد دوره استثنائية.[70]

هذه الاستفادة طالت أيضا مجال المراجعة الدستورية، إذ لم يعد دور البرلمان يقتصر على اقتراح المراجعة، بل تم توسيع هذا الدور ليشمل أيضا التداول في مشروع مراجعة بعض مقتضيات الدستور الذي يبادر به الملك.

وكما أوضحنا ذلك سابقا، فان مقتضيات الفصل 174 أشارت إلى الإجراءات العامة لهذا التداول، وأحالت على القانون الداخلي لمجلس النواب لبيان كيفية تطبيق هذا المقتضى بشكل تفصيلي.

ومفاد ذلك أن الملك إذا كان له، بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية، أن يعرض مشروعا لمراجعة بعض مقتضيات الدستور على أنظار البرلمان، دون اللجوء إلى آلية الاستفتاء، فإن إقرار هذا المشروع يستوجب، بعد مناقشته من قبل البرلمان في جلسة مشتركة، أن ينال أغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم مجلسي البرلمان.

وهذه الجلسة المشتركة تكون تحت الرئاسة الفعلية لرئيس مجلس النواب الذين يحضر بجانبه رئيس المستشارين وباستدعاء من الملك.

 وجدير ذكره أن حيثيات هذه المراجعة والتداول بشأنها والتصويت عليها تكون تحت إشراف المحكمة الدستورية، التي تراقب صحة هذه الإجراءات وتعلن نتيجة المراجعة.   والملاحظ أن المحكمة الدستورية في مشروع المراجعة الذي يعرض على البرلمان تكون حاضرة، في بدايته المشروع ونهايته، إذ يستشير الملك رئيسها قبل عرض مبادرته على البرلمان، وهي التي تتكلف بعملية مراقبة صحة الإجراءات وإعلان النتيجة النهائية.

خاتمـــــــــــــة

إن السلطة التأسيسية الفرعية في الدساتير المغربية تتقاسمها كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية.

  • فالتنفيذية يمثلها كل من:

الملك الذي، وإن لم تكن له هذه السلطة في دستور 1962 ،فقد أضحت من اختصاصه انطلاقا من دستور 1970 ، والذي جعلها(دستور 1970) حصرية له “الملك” دون غيره.

 ثم الوزير الأول ” رئيس الحكومة حاليا “، هذا الحق لم يتمتع به إلا في دستورين فقط، دستور 1962 ودستور 2011، ومبادرته دائما كانت مقيدة ولا تزال بموافقة المجلس الوزاري.

  • ثم السلطة التشريعية والمتمثلة في البرلمان، سواء بغرفتيه كما هو عليه الأمر في دساتير 1962، 1996، 2011، أو غرفة واحدة كما هو حال دساتير 1970، 1972، 1992

والملاحظ أن نصاب قبول مبادرة البرلمان ارتفع من الأغلبية المطلقة لكل مجلس في دستور 1962، إلى الثلثين في دساتير 1970، 1972، 1992، ثم إلى الثلثين مع الإحالة في دستوري 1996 و 2011، ليتبين أن مقترحات التعديل البرلمانية أضحت من الصعوبة بمكان جراء القيود الصعبة، إن لم نقل المستحيلة، التي تحول دون تبلورها.

مقال قد يهمك :   نور الهدى فرتول: قواعد قانونية جمركية في خدمة الاقتصاد

ومن باب التذكير فان المراجعة الدستورية، وفي جميع الدساتير كانت لها قيود شكلية، وهي التي اشرنا إليها، بيد انه تطولها قيود أخرى تندرج ضمن الموضوع، والتي بدورها عرفت تطورا وتوسعا، ارتباطا بتطور المسار الديمقراطي والحقوقي بالمغرب.

خطاطة لمسطرة التعديل التشريعي لدستور 2011


الهوامش 

[1] رقية المصدق، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ج 1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، طبعة 1986، ص 94.

[2]-عبد الاله بلقزيز، الخطاب الاصلاحي في المغرب، التكوين والمصادر، الطبعة الاولى، دار المتتخب العربي، بيروت 1997، ص181.

[3]-محمد زين الدين، الدستور   ونظام الحكم في المغرب، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الاولى 2015، ص 41 وما بعدها.

[4]-عبد الكريم غلاب، التطور الدستوري والنيابي بالمغرب 1908-1988طبعة الاولى، 1988، ص 133.

[5]-محمد زين الدين، مرجع سابق، ص 41.

[6]-عبد الكريم غلاب، مرجع سابق ص 139.

[7]– نفس المرجع ص 150.

[8]-عبد الحق بلفقيه، في تقييم الدستورانية الجديدة، تحول في ظل الاستمرارية، مسالك، العدد 45/46 السنة 13، ص 18.

[9]– الفصل 42 من دستور 2011 .

[10]– الفصل 47 من دستور 2011 .

[11]– الفصل 48 من دستور 2011.

[12]– الفصل 49 من دستور 2011.

[13]– الفصل 89 من دستور 2011.

[14]–  الفصل 91 من دستور 2011.

[15]– الفصل 70 من دستور 2011.

[16]– الفصل 104 من دستور .1962 ” التقدم بطلب مراجعة الدستور حق يتمتع به الوزير الأول والبرلمان ” .

[17]-الفصل 105 من دستور 1962 “مشروع المراجعة يضعه المجلس الوزاري، ويجب أن يكون محل مداولة من طرف المجلسين” .

[18]– الفصل 25 من دستور 1962.” يرأس الملك المجلس الوزاري”.

[19]– رقية المصدق، مرجع سابق، ص 54

[20]– الفصل 97 من دستور 1970 ” للملك حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور” .

[21]– محمد يحيا، الوجيز في القانون الدستوري للمملكة المغربية، مطبعة اسبارطيل، طنجة، الطبعة الرابعة 2010/ 2011، ص 60.

[22]– الفصل 98 من دستور 1972 ” – للملك ولمجلس النواب حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور. –  للملك أن يستفتي شعبه مباشرة في شأن المشروع الذي يستهدف به مراجعة الدستور “.

[23]– الفصل 97 من دستور 1992 :

” –     للملك ولمجلس النواب حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور.

  • للملك أن يستفتي شعبه مباشرة في شأن المشروع الذي يستهدف به مراجعة الدستور “.

الفصل 103 من دستور 1996:

 “- للملك ولمجلس النواب ولمجلس المستشارين حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور.

 – للملك أن يستفتي شعبه مباشرة في شأن المشروع الذي يستهدف به مراجعة الدستور”.

[24]– الفصل 99 من دستوري 1970 و 1992 و 100 من دستور 1972، و 105 من دستور 1996.

[25]– الفصل 172 من دستور  2011″ للملك ولرئيس الحكومة ولمجلس النواب ولمجلس المستشارين حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور، للملك أن يعرض مباشرة على الاستفتاء المشروع الذي اتخذ المبادرة بشأنه”.

[26]– كريم لحرش “الدستور الجديد للمملكة المغربية شرح وتحليل مكتبة مطبعة النجاح الجديدة ، الطبعة الثانية 2016 ص 336.

[27]–  الفصل 174 من دستور 2011 “-تعرض مشاريع ومقترحات مراجعة الدستور بمقتضى ظهير على الشعب قصد الاستفتاء تكون المراجعة نهائية بعد اقرارها بالاستفتاء، للملك بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية ، أن يعرض بظهير على البرلمان مشروعه مراجعة بعض مقتضيات ويصادق البرلمان منعقد باستدعاء من الملك ، في اجتماع مشترك لمجلسيه على مشروع هذه المراجعة بأغلبية ثلثي الأعضاء الذي يتكون منهم.

-يحدد النظام الداخلي لمجلس النواب كيفيات تطبيق هذا المقتضى

-تراقب المحكمة الدستورية صحة اجراءات هذه المراجعة، وتعلن نتيجتها “.

[28]– كريم لحرش، مرجع سابق، ص 338.

[29]– المادة 274 من القانون الداخلي لمجلس المستشارين :

– للملك بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية، أن يعرض بظهير على البرلمان ، مشروع مراجعة بعض مقتضيات الدستور طبقا لأحكام الفقرة الثالثة من الفصل الرابع والسبعين بعد المائة من الدستور.

-يدعو الملك البرلمان للانعقاد لهذه الغاية ، ويحدد تاريخ الاجتماع المشترك للمجلسين .

-تخضع الجلسة المشتركة للضوابط المقررة في النظام الداخلي لمجلس النواب”.

[30]– هناك اتجاه يذهب إلى أن هذه المبادرة والمعروضة على البرلمان تخضع بدورها للاستفتاء انظر مقال عبد النبي كياس ، بعض الأمور في مسألة تعديل الدستور في المغرب:  WWW.hespress.com/writess/25855.html

[31]– كريم لحرش، مرجع سابق،  ص 338.

[32]– محمد بوعزة ، الضوابط الشكلية والموضوعية للتعديل الدستوري في المغرب ، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون العام كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الأول وجدة الموسم الجامعي 2014 – 2015،  ص 47.

[33]– محمد بوعزة، مرجع سابق، ص 48.

[34]– الفقرة 3 من الفصل 173 من دستور 2011 “يعرض المقترح الذي يتقدم به رئيس الحكومة على المجلس الوزاري بعد التداول بشأنه في مجلس الحكومة”.

[35]– الفصل 36 من دستور 1962 ” يتركب البرلمان من مجلس النواب ومجلس المستشارين”.

[36]– الفصل 51 من دستور 1962.

[37]– الفصل 98 من دستور 1970.

[38]– الفصل 104 من دستور 1962.

[39]– الفصل 98 من دستور 1970.

[40]– الفقرة 1 من الفصل 98  من دستور 1972 “للملك ولمجلس النواب حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور “.

[41]– الفصل 99 من دستور 1972 “ان اقتراح مراجعة الدستور يتقدم به أحد أعضاء مجلس النواب، لا تصح الموافقة عليه إلا بتصويت ثلثي الاعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب”.

[42]– الفقرة 1 من الفصل 97 من دستور 1992″ للملك ولمجلس النواب حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور”.

[43]– الفصل 98 من دستور 1992 “ان اقتراح مراجعة الدستور الذي يتقدم به عضو أو  أكثر من أعضاء مجلس النواب لا تصح الموافقة عليه إلا بتصويت ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب”.

[44]– الفصلان 103 و 104 من دستور 1996 / 172 و 173 من دستور 2011 .

[45]– الفصل 106 “اقتراح المراجعة يجب أن يتخذه كل مجلس بتصويت الاغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم المجلس”.

[46]– الفصل 104 من دستور 1996 “اقتراح مراجعة الدستور الذي يتقدم به عضو أو أكثر من أعضاء مجلس النواب أو مجلس المستشارين لا تصح الموافقة عليه إلا بتصويت ثلثي الاعضاء الذين يتألف منهم المجلس المعروض عليه الاقتراح، ويحال الاقتراح بعد ذلك إلى المجلس الآخر ولا تصح موافقته عليه إلا بأغلبية ثلثي الاعضاء الذين يتألف منهم”.

[47]– الفقرة 1 و 2 من الفصل 173 من دستور 2011 “لا تصح الموافقة على مقترح مراجعة الدستور الذي يتقدم به عضو أو أكثر من أعضاء  مجلسي البرلمان، إلا بتصويت أغلبية ثلثي الاعضاء الذين يتألف منهم المجلس.

 يحال المقترح إلى المجلس الآخر ، الذي يوافق عليه بنفس اغلبية ثلثي الاعضاء الذين يتألف منهم”.

[48]– المادتان 173 من القانون الداخلي لمجلس النواب و 273 من القانون الداخلي لمجلس المستشارين .

[49]– سعاد عمير، آليات المراجعة الدستورية على ضوء الدستور الجزائري لسنة 2008 ، والدستور المغربي لسنة 2011 دفاتر السياسية والقانون العدد العاشر جانفي 2014 ، ص 152 الرابط

[50]– الفصلان 104 من دستور 1996 و 174 من دستور 2011 (الفقرة الأولى) “تعرض مشاريع ومقترحات مراجعة الدستور بمقتضى ظهير على الشعب قصد الاستفتاء”

[51]– الفقرة الثانية من الفصلين السابقين، “تكون المراجعة نهائية بعد اقرارها بالاستفتاء”

[52]– كريم لحرش، مرجع سابق، ص 337

[53]–  عبد الرحيم العلام،  من هي الجهة المختصة بتعديل الدستوري، structure of government constitutional amendent morocco. Ogr تاريخ التصفح 30ماي 2017.

[54]– عاش المغرب حالة الاستثناء من 1965 إلى 1970 ، وتم فيها حل البرلمان من طرف الملك الحسن الثاني.

[55]– ادريس المغراوي وآخرون دراسة نقدية للدستور المغربي للعام 2011، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات 2012 ص 37

www.idea/int

[56]– نفس المرجع ص 37

[57]– الفصول الأربعة المخصصة للمراجعة الدستورية (97-100) من دستور 1970، لم تشر إلى كلمة مشروع عند حديثها عن مبادرة الملك لمراجعة الدستور ، بينما تحدثت عن الاقتراح عند الإشارة إلى مجلس النواب (الفصل 98).

[58]– محمد زين الدين، الدستور ونظام الحكم  مرجع سابق، ص 99.

[59]– الفصل 19 من دستور 1972 “الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستورن وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة”.

وهو الفصل ذاته الموجود في دساتير 1970 و 1992 و 1996 ويحمل نفس الرقم 19.

[60]– عبد العزيز لوزي، المسألة الدستورية والمسار الديمقراطي في المغرب، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية ، سلسلة ، مواضيع الساعة 1996 ص 118.

[61]– المقصود دستور 1972.

[62]– عبد العزيز لوزي ، مرجع سابق، ص 118.

[63]– للمزيد من التفاصيل انظر عبد الرحيم العلام ، الملكية وما يحيط بها في الدستور المغربي المعدل” دفاتر وجهة نظر 33  الطبعة الاولى 2015 ص 33 وما بعدها .

[64]– khaldouni Mbrak : la troisieme expreience parlentaire marocaine (1977 – 1983) univesitemed  v rabat  1984 p 62 .

[65]– الفصل 105 من دستور 1962 مشروع المراجعة يضعه المجلس الوزاري ، ويجب أن يكون محل مداولة من طرف المجلسين”.

[66]– الفصل 105 من دستور 1962 “مشروع المراجعة يضعه المجلس الوزاري، ويجب أن يكون محل مداولة من طرف المجلسين”.

[67]– محمد زين الدين، الدستور ونظام الحكم  مرجع سابق ص 198.

[68]– نفس المرجع ص 204.

[69]– نفس المرجع، ص 202.

[70]– تم تقليص النصاب القانوني لعقد دورة استثنائية” من الاغلبية المطلقة لاعضاء مجلس النواب” ( الفصل 41 من دستور 1996 إلى “ثلث أعضاء مجلس النواب” (طبقا لمقتضيات الفصل 66 من دستور 2011).

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)