العقود التمهيدية في التشريع المغربي
مقدمة:
إذا كان مبدأ سلطان الإرادة والعقود التوجيهية يعتبران من المواضيع التي أسالت أقلام فقهاء القانون المدني، وذلك نظرا لأهميتهما بل لضرورتهما في الحياة اليومية، فكذلك الأمر بالنسبة للعقود التمهيدية التي هي أساس العقود بصفة عامة رغم أنها لم تنل الحظ الكامل من الاهتمام وخاصة بالنسبة للتشريعات.
وعليه فإن العقود قبل أن تصل إلى صيغتها النهائية تمر بمجموعة من المراحل والتي جرى الفقه على تسميتها بالمفاوضات أو العقود التمهيدية،
و هي تلك المشاورات والمراحل التي يلجأ إليها الأطراف قبل إفراغ العقد في القالب النهائي.
ولهذه المشاورات أهمية كبرى بالنسبة للطرفين، حيث يكون كل طرف فكرة عامة حول العقد النهائي وهذه العقود قد أثارت أقلام الفقهاء حول طبيعتها القانونية وكذلك الأمر بالنسبة لآثارها.
إذا كان هذا الموضوع يشكل مادة خصبة للبحث والتأصيل والتمحيص وذلك نظرا لقيمته العملية بالنسبة للأطراف، فإنه للأسف لم ينل نصيبه من الكتابة من طرف الفقه، وهذا ما يقف عقبة أمامنا للإحاطة بكل جوانب الموضوع.
وعليه فإنه ارتأينا تناول العقود التمهيدية استعانة بمجموعة من الكتابات الفقهية المقارنة وفق التقسيم التالي:
- المبحث الأول : ماهية العقود التمهيدية.
- المبحث الثاني : الآثار المترتبة على العقود التمهيدية
المبحث الأول : ماهية العقود التمهيدية
لم تكن ظاهرة الاتفاقات التمهيدية مجهولة في الماضي، ففي غالبية البلدان كان الوعد بالتعاقد معروفا لدى النظرية التقليدية، غير أن المكانة القانونية التي تحتلها هذه الظاهرة في إطار العقود التمهيدية جديرة بالاهتمام[1].
لهذا السبب دأب الفقه خاصة المقارن على الاهتمام بهذه العقود، والذي أدى دور المشرع الغائب في هذا الصدد.
وهكذا اقترح الفقه مجموعة من التعاريف لهذه العقود (المطلب الأول) وإذا كان المشرع في إطار قانون الالتزامات والعقود[2] لم يتطرق إلى العقود التمهيدية بنصوص خاصة، إلا أن الحاجة الملحة لها أدت إلى تنظيم المشرع بعض أنواع هذه العقود (المطلب الثاني).
المطلب الأول: مفهوم العقود التمهيدية وأهميتها
لم تتناول معظم التشريعات مسألة العقود التمهيدية ولذلك فمبدئيا لا يمكن تحديد تعريف تشريع لها، لكن تولي الفقه المهمة من خلال إعطاء تعريف لها (الفقرة الأولى) وكذلك حدد أهميتها (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : مفهوم العقود التمهيدية
إن المشرع المغربي لم ينظم المرحلة السابقة على التعاقد بنصوص قانونية خاصة شأنه في ذلك شأن القوانين المدنية المقارنة[3].
ولذلك فمن الواضح أن لا يقوم بتعريف العقود التمهيدية، بل أبعد من ذلك حتى الكتابات الفقهية نادرة في هذا المجال مما يقف عقبة حول تحديد مفهوم العقود التمهيدية.
وفي هذا الصدد يرى العميد “كاربوني” بان المفاوضات هي تلك المرحلة التمهيدية التي تتم فيها دراسة ومناقشة شروط العقد، وفي هذه المرحلة لا يكون العقد قد تم لأنه ليس هناك إيجاب بالعقد يمكن قبلوه وإنما هناك فقط عروض وعروض مضادة[4].
ومن جهة أخرى يرى أحد الفقه بأن التفاوض على العقد هو حصول اتصال مباشر أو غير مباشر بين شخصين أو أكثر بمقتضى اتفاق بينهم، يتم من خلاله تبادل وجهات النظر وبذل المساعي المشتركة بهدف الوصول إلى تصور مشترك لإبرام عقد في المستقبل[5].
وعليه يمكن تعريف العقد التمهيدي بأنه ذلك العقد الذي يسبق إبرام العقد النهائي المنشود والذي يكون بدوره ممهدا لهذا الأخير ويترتب على مخالفته المسؤولية العقدية وإن لم يبرم العقد النهائي[6].
الفقرة الثانية: أهمية العقود التمهيدية
لا تقل مرحلة ما قبل التعاقد في أهميتها عن المرحلة اللاحقة للتعاقد، أي مرحلة تنفيذ العقد، كما أن أهميتها لا تنمحي بانعقاد العقد، ففي المرحلة ما قبل التعاقد تنشأ عيوب الإرادة – وبالأخص الغلط والتدليس – التي يمكن تلافيها خلالها[7]، إذا قام كل طرف بما يمليه عليه واجبه كمتعاقد من إيضاح وبيان فنأمن بذلك لإبطال العقد فيما بعد[8].
وفي هذه المرحلة ينشأ ما يسمى بالالتزام بالإعلام، أي التزام الطرف صاحب المعلومة بأن يبين للطرف الأخر بعض الظروف الجوهرية في التعاقد، مثل الإفصاح عن العيوب الكامنة في الشيء المبيع[9]، أو تقديم نصيحة إلى الطرف الآخر[10].
ولمرحلة ما قبل التعاقد أهمية أخرى، تتمثل في أن ما يقع في أثنائها من مفاوضات وتبادل لوجهات النظر يعد واحدا من وسائل تفسير العقد عند تنفيذه[11]، ففي هذه المرحلة، ومن خلال ما اتخذ فيها من إجراءات ومن تبادل لوجهات النظر يمكن الكشف عن النية المشتركة للمتعاقدين، كما أن لهذه المرحلة التزاماتها المستقلة عن التزامات العقد ذاته، ذلك أن طبيعة المهمة التي يقوم بها الطرفان في هذه المرحلة تفرض على كل منهما التزامات معينة تنتج عن الثقة التي وضعها في الطرف الآخر، مثل الالتزام بعدم التفاوض دون نية التعاقد، والالتزام بعدم قطع المفاوضات في وقت غير مناسب، والالتزام بعدم إفشاء المتفاوض للأسرار التي علمها الطرف الآخر بمناسبة التفاوض[12].
المطلب الثاني: أشكال العقود التمهيدية وخصائصها
تلتقي العقود التمهيدية مع نظيرتها العقود النهائية من خلال انقسامها إلى عدة أنواع (الفقرة الأولى) وكذلك تميزها بمجموعة من الخصائص (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : أشكال العقود التمهيدية.
من خلال هذه الفقرة سنتعرض لبعض أنواع العقود التمهيدية وذلك على الشكل التالي :
أولا : بيع العقار في طور الإنجاز
يندرج بيع العقار في طور الإنجاز ضمن العقود التمهيدية التي تسبق إبرام البيع النهائي[13]، وبالرجوع إلى المادة الأولى من القانون رقم 107.12 المنظم لبيع العقارات في طور الإنجاز[14]، نجدها تنص على أنه: “يعتبر بيعا لعقار في طور الإنجاز كل اتفاق يلتزم البائع بمقتضاه بإنجاز عقار داخل أجل محدد كما يلتزم فيه المشتري بأداء الثمن تبعا لتقدم الأشغال…”.
فهذا النوع من العقود يعتبر من التصرفات القانونية المركبة التي تستلزم إبرام عقد تمهيدي أولي، قبل إتمامه في وقت لاحق بالموافقة على العقد النهائي الذي يؤكد هذه العملية[15].
فقبل إبرام العقد النهائي ببيع هذا النوع من العقارات، يتم إبرام عقد أولي يعد بمثابة خطوة إيجابية لتأكيد العلاقة التعاقدية بين البائع والمشتري وهو من العقود المؤقتة التي تبرم لغاية محددة ينتهي بانتهائها”[16].
ثانيا: الكراء المفضي إلى التملك
تكمن أهمية الإيجار المفضي لتملك العقار في تمكين ذوي الدخل المحدود من تملك السكن، ولتحقيق هذه الغاية لابد من توفير الضمانات المشجعة سواء للبائع أو المشتري من أجل الإقبال على هذا النوع من العقود[17].
فهذا العقد يتطلب بداية إبرام عقد بيع ابتدائي قبل إبرام العقد النهائي للبيع وتبقى ملكية العقار بحوزة البائع ولا تنتقل إلى المكتري المتملك إلا بعد إبرام عقد البيع النهائي وسداد كافة الثمن تحت طائلة المطالبة بفسخ العقد[18].
ثالثا: الوعد بالتعاقد
يعتبر الوعد بالتعاقد عقد كامل لا مجرد إيجاب، وهو كثير الوقوع في الحياة العملية، كأن يتوقع شخص مثلا حاجته في المستقبل إلى أرض بجوار مصنعه أو منزله، أو هو في حاجة إليها ولكن لا يستطيع شراها فورا، فيكتفي بالتعاقد مع صاحب هذه الأرض على أن يتعهد هذا الأخير ببيع الأرض له إذا أبدى رغبته في الشراء في مدة معينة[19].
والوعد بالتعاقد قد يكون ملزم للجانبين، وذلك عندما يكون وعدا متبادلا بين الجانبين بالبيع وبالشراء معا، وقد يكون هذا الوعد ملزم لجانب واحد، وذلك في حالة كون الوعد قد صدر من جانب البائع بالبيع فقط، أو صدر الوعد بالشراء فقط من جانب المشتري، وذلك شريطة قبول الطرف الموجه إليه الوعد[20].
والوعد بالتعاقد وسط بين الإيجاب والتعاقد النهائي، فالوعد بالبيع مثلا يلتزم فيه البائع ببيع الشيء الموعود بيعه أذا أبدى الطرف الآخر رغبته في الشراء، وهذا أكثر من إيجاب، لأنه إيجاب قد إقترن به القبول، فهو عقد كامل لكن كلا من الإيجاب والقبول لم ينصب إلاعلى مجرد الوعد بالبيع لا على البيع ذاته، وبالتالي فهو خطوة نحو التعاقد النهائي[21].
رابعا : العربون
العربون حسب الفصل 288 من قانون الالتزامات والعقود هو المقابل الذي يعطيه أحد المتعاقدين للآخر قصد ضمان تنفيذ تعهده. و حسب الفقرة الأولى من الفصل 289 من قانون الالتزامات فإنه يترتب عن تنفيذ العقد خصم مبلغ العربون مما هو مستحق على من أعطاه. أما إذا تم إلغاء العقد برضى طرفيه فإنه يجب رد مبلغ العربون (الفقرة الأخيرة من الفصل 289 من ق.ل.ع).
وحسب الفصل 290 من ق.ل.ع، فإن عدم إمكانية تنفيذ الالتزام، أو فسخه لسبب راجع للطرف الذي قدم العربون، يعطي الحق للطرف الآخر الاحتفاظ بالعربون ولا يلزم برده، إلا بعد أخذه للتعويض الذي تمنحه له المحكمة إن اقتضى الأمر ذلك.
وقد تتنوع الغاية من دفعه، فقد يكون الغرض منه إما حفظ الحق لكل من المتعاقدين بالعدول عن العقد وقد يكون القصد من دفع العربون هو التأكيد على أن العقد أصبح نهائيا وما دفع العربون إلا ضمان لتنفيذه[22].
الفقرة الثانية: خصائص العقود التمهيدية
تتميز العقود التمهيدية بمجموعة من الخصائص يمكن اختزالها فيما يلي:
أولا : عقد رضائي
يتم العقد التمهيدي بتوافق إرادتي طرفيه على إحداث أثر قانوني وبالتالي فإنه يجب أن يتضمن الأركان اللازمة لكل عقد بوجه عام وهي الرضا، المحل، السبب.
وبالتالي يكفي توجيه إيجاب ويتم قبوله من طرف آخر قبولا مطابقا، وان يكون كل طرف أهلا للتفاوض، وإرادته خالية من العيوب، ومحل العقد هو محاولة التوصل إلى إبرام العقد النهائي وتحقيق كل طرف لمراده منه، وهو باعث صحيح طالما أن العقد المتفاوض بشأنه مشروع ويتم التعبير عن الرضا بالدخول في التفاوض باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة المتداولة عرفا أو بطريقة ضمنية أو بالوسائل الالكترونية الحديثة[23].
ثانيا : عقد غير مسمى
إن عقد التفاوض هو من العقود الحديثة غير المسماة، حيث لم يضع له القانون تنظيما معينا، وقد خلت غالبية النظم المعاصرة من قواعد تنظيمية لذلك العقد الذي بدأ يحتل مكانة هامة في الوقع العملي، وحظي بالكثير من الدراسات الفقهية بعد أن ترددت أصداؤه في جنبات المحاكم[24].
ثالثا: عقد تحضيري
إن عقد التفاوض هو من قبيل الاتفاقات التمهيدية التي تسبق العقد وتؤدي إليه، حيث بموجبه تبدأ مسيرة المفاوضات تمهيدا لإبرام العقد النهائي، وييتم تنظيم العلاقة التفاوضية على نحو يحقق مصالح الأطراف في التوصل إلى إتمام العقد النهائي[25].
رابعا: عقد مؤقت
إن العقد التمهيدي لم يوجد إلا لمدة محدودة، وهي المدة التي تستغرقها المفاوضات بين الطرفين، فإن انتهت هذه المرحلة سواء بإبرام العقد النهائي أو عدمه، زال كل أثر لهذه المرحلة مع عدم الإضرار بحقوق الغير الذين اعتقدوا بحسن نية في تعلق الأمر بعقد نهائي[26] .
المبحث الثاني: الآثار المترتبة عن العقود التمهيدية
إذا كانت العقود التمهيدية لا ترقى إلى درجة العقد بمفهومه الفني الدقيق، على اعتبار أنها مجرد بداية لهذا الأخير، فعبرها وبواسطتها تتم إبرام العقد النهائي، ذلك أن معظم العقود وقبل إفراغها في صيغتها النهائية لابد وان تكون مسبوقة بمجموع من المشاورات والمفاوضات، فإن هذا لا يعني أن هذه العقود التمهيدية تنعدم فيها القوة الإلزامية والمسؤولية أيضا، بل لها قوتها الإلزامية هذا ما سنتناوله في المطلب الأول، كما قد يترتب عن هذه العقود مسؤولية الأطراف إذا أخلوا بالتزاماتهم، وهو ما سنوضحه في المطلب الثاني.
المطلب الأول: القوة الملزمة للعقود التمهيدية
مبدئيا يمكن القول بأن الأطراف أحرار في اللجوء إلى العقود التمهيدية، إلا إذا نص المشرع على خلاف ذلك، كحالة بيع العقار في طور الإنجاز، وخارج هذا الاستثناء التشريعي فالأفراد أحرار في استكمال مشوار هذه العقود.
وعليه فحرصا من قبل الأطراف على تنظيم هذه المشاورات والمفاوضات الأولية، يمكن أن تصبح ملزمة من خلال إفراغها في عقد التزام بالتفاوض (فقرة أولى) أو عقد جزئي (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: عقد الالتزام بالتفاوض
تردد بعض الفقه الفرنسي المعاصر في شأن عقد الالتزام بالتفاوض أو كما يسميه البعض الاتفاق المبدئي على التفاوض، فقد استقر الفقه على وجوده وأهميته في العمل بالاستناد إلى أحكام القضاء التي تؤكد وجوده[27].
وهكذا نجد القضاء الفرنسي اعتبر الاتفاق المبدئي على التفاوض يولد التزاما ببذل عناية، هدفه الاستمرار بالتفاوض لحين الوصول إلى العقد النهائي، من دون أن يعني ذلك بأن عدم التوصل إلى هذا العقد يثير مسؤولية أي طرف عدا الحالات التي يخرق فيها أحد الأطراف التزاماته ببذل عناية خاصة عند التفاوض في سبيل الوصول إلى العقد ومن دون مبرر معقول[28].
وعليه فالاتفاق المبدئي يرتب التزما بالتفاوض ولا يخول كل طرف سوى الحق في مطالبة الآخر بتنفيذه التزامه بحسن نية بهدف إبرام عقد لم تتحدد عناصره أو توافر بعضها، ولكن بما لا يكفي لانعقاد العقد، ففي هذا المنحى يرى جانب من الفقه الفرنسي أن الاتفاق المبدئي الذي ينعقد بين الأطراف يعد اتفاقا مبدئيا مقيد لهم وينشئ التزاما بالاستمرار في التفاوض لحين الوصول إلى العقد النهائي دون أن يقوم مقام هذا العقد ويرتب التزاما نهائيا[29].
الفقرة الثانية: العقد الجزئي
إن العقد النهائي يتكون من عدة عمليات فنية أو قانونية، وعليه فإن سبقته مفاوضات تمهيدية يمكن أن يشكل جزئية من هذا العقد النهائي، وهكذا يطلق على العقد الجزئي مضمون الاتفاق المرجعي، وهذا اتفاق يبرمه الطرفان في إحدى المراحل السابقة على التعاقد ويحددان فيه بعض شروط العقد النهائي التي اتفقا عليها في تلك المرحلة، أي أنه اتفاق يجسد مرحلة من مراحل التفاوض على العقد، حيث انه يبلور الشروط التي تم الاتفاق عليها في هذه المرحلة، والتي ينوي الطرفان عدم العودة إلى مناقشتها مرة أخرى في المراحل المتتالية، كما أنه بعد خطوة في اتجاه العقد النهائي لأنه يتضمن جزءا من شروط هذا العقد تم الاتفاق عليها بالفعل أو بالاتفاق على الجزء أو الأجزاء المتبقية لاكتمال العقد[30].
وعليه فإن القيمة القانونية للعقد الجزئي يجب التفرقة بين ما إذا كان العقد الجزئي جزءا من عقد واحد أو جزء من مجموعة عقود[31].
وبالتالي فإن حسم العقد الجزئي بشأن عقد واحد أو العناصر الجوهرية جميعها بين الطرفين ولم يتحفظا بتوقيع العقد النهائي، فإن ذلك يعد اتفاقا باتا يعتبر معه أن العقد قد تم، أما إذا لم يحسم العقد الجزئي إلا عنصرا من بعض العناصر الجوهرية للعقد النهائي دون باقي العناصر فهو لا يصلح لأن يكون عقد بذاته ويتجرد من أي أثر إذا لم يتم توقيع العقد النهائي[32].
المطلب الثاني : المسؤولية المترتبة على العقود التمهيدية
لقد أجمع الفقهاء – كما سنرى – على أن العقود التمهيدية كالعقود النهائية تترتب عنها المسؤولية في حالة إخلال أي طرف من الأطراف بالتزاماته، غير أنهم اختلفوا حول طبيعة هذه المسؤولية بين من يقول أنها عقدية (الفقرة الأولى) وبين من يقول أنها تقصيرية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: نظرية المسؤولية العقدية
يرجع الفضل في صياغة نظرية المسؤولية العقدية عن الأخطاء المرتكبة خلال المرحلة السابقة على التعاقد إلى الفقيه “ايرنج” والذي أطلق عليها نظرية الخطأ في تكوين العقد[33].
كما يرى أيضا أحد الفقه[34] أن المرحلة السابقة عن التعاقد تكون ذات طبيعة عقدية، وأنه يجب الوفاء بالالتزامات الناشئة خلال هذه الفترة وبالتالي ففي حالة الإخلال بالوفاء بها فإن ذلك يرتب مسؤولية عقدية.
وقد ذهب القضاء الفرنسي في بعض قراراته إلى تكييف المسؤولية المترتبة عن الإخلال بالالتزام خلال المرحلة السابقة عن التعاقد، مسؤولية عقدية، مستندا في ذلك إلى أن المفاوضات هي مرحلة تمهيدية لإبرام العقد، وعليه فيكون من السهل الوصول إلى وجود اتفاق في هذه المرحلة بصدد تقديم المعلومات، وإذا ما أخل بهذا الاتفاق فالمسؤولية المترتبة هي عقدية[35].
ومن خلال ما تقدم نرى بأن العقود التمهيدية ترتب نفس المسؤولية التي يرتبها العقد الأصلي أو النهائي، في حال إخلال أحد الأطراف بالتزامه، حيث أن العقد التمهيدي يفرض الدخول فيه بحسن نية و تقيد كل طرف بالتزاماته.
وبالتالي فإذا ترتبت المسؤولية العقدية فإن المسألة يترتب عنها الحديث عن التعويض عن الضرر الذي يلحق الطرف المتضرر، فهل هو جائز في هذه العقود أم لا محل له؟
في هذا الصدد، ذهب أحد الفقه[36] إلى أن المصلحة العقدية تستدعي تعويض عن الضرر الذي لحق الطرف الآخر.
وعليه فكما يرى أحد الفقه[37] أن الالتزام بالتعويض في هذا النوع من العقود يستند إلى عقد ضمني، بمقتضاه يتعهد كل شخص مقدم على التعاقد للطرف الآخر بصحة التصرف وبأن لا يقوم من جانبه سبب يوجب بطلان العقد، وبذلك يكون رضاء المتعاقد الآخر في نفس الوقت قبولا ضمنيا لهذا التعهد فيتم عقد الضمان بإيجاب وقبول ضمنيين.
لكن إذا كان هذا الجانب من الفقه يرى بأن المسؤولية المترتبة عن المرحلة السابقة عن التعاقد هي عقدية، فهناك اتجاه آخر يرى بأنها مسؤولية تقصيرية.
الفقرة الثانية: نظرية المسؤولية التقصيرية
ذهب الكثير من الفقهاء[38] إلى أن فكرة المسؤولية التقصيرية هي التي تحكم مرحلة التفاوض على اعتبار أنها تعد أسهل الوسائل وأيسرها تطبيقا على هذه المرحلة، بحجة مفادها أن أحكام هذه المسؤولية هي وحدها التي تطبق عند عدم وجود عقد، وقد ظهرت هذه النظرية نتيجة الانتقادات التي تعرضت لها نظرية “الخطأ عند تكوين العقد”، ذلك أن هذه الأخيرة، هي من ناحية أولى تجعل قيام سبب البطلان في جانب المتعاقد خطأ حتميا، رغم أن هذا المتعاقد قد يكون جاهلا كل الجهل سبب البطلان في جانبه، فالخطأ هنا أقرب إلى فكرة التبعية[39] لا يجب إثباته إلا طبقا لقواعد الخطأ القصيري.
ومن ناحية ثانية، أن هذه النظرية تجعل الالتزام بالتعويض، موضوع تعهد ثانوي يقترن بالتصرف الباطل، ويبقى رغم بطلان هذا التصرف ليكون أساس إراديا لتعويض الغير عن الضرر الناشئ عن البطلان، وهي بذلك تفترض قيام تعهد بالصحة في جميع العقود دون أن يقوم دليل على ذلك[40].
ومن ناحية ثالثة حتى لو سلمنا بافتراض وجود هذا التعهد الثانوي بضمان صحة التصرف، فلاشك أن بطلان التصرف الأصلي، سيؤدي إلى بطلان هذا التعهد الثانوي أيضا فينعدم بذلك سند تكييف المسؤولية بأنها عقدية، وإلا فإن تجزئة البطلان في هذا الصدد، والقول بأنه ينصرف إلى التعهد الأصلي فقط دون الثانوي، هي تجزئة تحكيمية غير مقبولة[41].
وفي ضوء هذه الانتقادات نخلص إلى أن المسؤولية قبل التعاقدية الناشئة عن الخطأ قبل التعاقدي هي مسؤولية تقصيرية تستوجب التعويض ومن ثم يجب أن تستكمل دعوى التعويض هنا إثبات عناصر المسؤولية التقصيرية كافة من خطأ وضرر وعلاقة سببية وعلى هذا استقر الرأي في الفقه الحديث[42]، كما يذهب هذا الأخير إلى أن المسؤولية التي تترتب نتيجة الإخلال بالالتزام بالإدلاء بالمعلومات قبل التعاقد أو غيرها من الالتزامات هي مسؤولية تقصيرية، وان المسؤولية التقصيرية ستقوم بحكم القانون وليس على أساس التصرف الباطل، أي أن القانون يجعل المسؤولية عن الخطأ في المرحلة السابقة للتعاقد قائمة على تحمل التبعية أو عن التقصير في تنفيذ الالتزامات.
خاتمة:
من خلال ما سبق، نخلص إلى أن العقود التمهيدية ذات أهمية بالغة لما تحققه للأطراف من رؤية واضحة حول صورة العقد النهائي، وإذا كان المشرع المغربي لم ينظم هذه العقود بنصوص قانونية خاصة إلا القليل منها مثل بيع العقار في طور الإنجاز، فإن ذلك يشكل فراغا تشريعيا لا بد من تجاوزه.
وكذلك الأمر بالنسبة للفقه المغربي، الذي تغاضى الحديث عن هذه العقود ويسري نفس الأمر على الاجتهاد القضائي المغربي.
وفي هذا الصدد وبالموازاة مع أهمية هذه العقود، فإنه يتعين على المشرع التدخل من أجل معالجة هذه المسألة بنصوص قانونية خاصة، وإن كان من الناحية النظرية لا أهمية لها، فإنها تظهر بشكل جلي على المستوى العملي.
لائحة المراجع:
الكتب :
– التوفيقي فهمي: المسؤولية المدنية في فترة المفاوضات السابقة على التعاقد في القانون المغربي، دراسة تحليلية نقدية، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2012.
– رجب كريم عبد الله، التفاوض على العقد – دراسة تأصيلية مقارنة – دار النهضة العربية، القاهرة.
– عبد القادر العرعاري: نظرية العقد، مطبعة الأمنية، الرباط، الطبعة الثالثة، 2013.
– محمد إبراهيم دسوقي، الجوانب القانونية في إدارة المفاوضات وإبرام العقود، مكتبة الملك فهد الوطنية المملكة السعودية، طبعة 1995.
– إدريس الفاخوري: مدونة الحقوق العينية على ضوء القانون 39.08، مطبعة الجسور، وجدة، الطبعة الأولى، 2013.
– عبد الرزاق أحمد السنهوري، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزامات، نظرية العقد، الجزء الأول.
– سليمان مقرش، عقد البيع، بدون ذكر المطبعة، الطبعة الخامسة 1990.
– المختار أحمد عطار، الوسيط في القانون المدني، مصادر الالتزام، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
– احمد عبد الكريم سلامة، قانون العقد الدولي (مفاوضات العقود الدولية، القانون الواجب التطبيق وأزمته) دار النهضة العربية القاهرة، الطبعة 1، سنة 2000.
– محمود جمال الدين زكي، مشكلات المسؤولية المدنية، الجزء الأول، مطبعة جامعة القاهرة 1978.
– جميل الشرقاوي، النظرية العامة للالتزام، الكتاب الأول، مصادر الالتزام دار النهضة العربية، القاهرة، سنة 1981.
المقالات:
– جمال فاخر النكاس، العقود والاتفاقات الممهدة للتعاقد وأهمية التفرقة بين العقد والاتفاق في المرحلة السابقة على العقد، مجلة الحقوق الكويتية، العدد الأول، مارس 1996.
الهوامش :
*) تم إنجاز هذا البحث في إطار سلسلة من العروض التي تقدم بها طلبة و طالبات ماستر قانون العقود و العقار و ذلك تحت إشراف الدكتور الحسين بلحساني في وحدة نظرية العقد.
[1] – التوفيقي فهمي: المسؤولية المدنية في فترة المفاوضات السابقة على التعاقد في القانون المغربي، دراسة تحليلية نقدية، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2012، ص: 12.
[2] – ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بقانون الالتزامات والعقود.
[3] – باستثناء التقنين المدني الإيطالي 1942.
– التقنين المدني اليوغسلافي لسنة 1978.
[4] – التوفيق فهمي، م.س، ص: 21.
[5] – رجب كريم عبد الله، التفاوض على العقد – دراسة تأصيلية مقارنة – درا النهضة العربية، القاهرة، ص: 63.
[6] – جمال فاخر النكاس، العقود والاتفاقات الممهدة للتعاقد وأهمية التفرقة بين العقد والاتفاق في المرحلة السابقة على العقد، مجلة الحقوق الكويتية، العدد الأول، مارس 1996، ص: 14.
[7] – نظم المشرع المغربي عيوب الرضى في الفرع الثاني من الباب الأول من القسم الأول من الكتاب الأول من ظ.ل.ع في الفصول من 39 إلى 56.
[8] – محمد إبراهيم دسوقي، الجوانب القانونية في إدارة المفاوضات وإبرام العقود، مكتبة الملك فهد الوطنية, المملكة السعودية، طبعة 1995، ص: 4.
[9] – خصص المشرع المغربي للمحل الفصول من 57 إلى 61 من ظ.ل.ع، وللسبب الفصول من62 إلى 65 من نفس الظهير.
[10] -التوفيق فهمي، م.س، ص: 12.
[11] – خصص المشرع المغربي لتأويل الاتفاقات الفصول من 461 إلى 473 من ظ.ل.ع
[12] – محمد إبراهيم دسوقي، م.س، ص: 4.
[13] – عبد القادر العرعاري: نظرية العقد، مطبعة الأمنية، الرباط، الطبعة الأولى 2013، ص: 229 230.
[14] – الظهير الشريف رقم 1.02.309 بتاريخ 25 رجب 1423 الموافق ل 3 أكتوبر 2002 منشور بالجريدة الرسمية عدد 5054 بتاريخ 7 نونبر 2002، ص: 3183.
[15] – عبد القادر العرعاري، م.س، ص: 229.
[16] – نفس المرجع، ص: 231.
[17] – إدريس الفاخوري: مدونة الحقوق العينية على ضوء القانون 39.08، مطبعة الجسور، وجدة، الطبعة الأولى، 2013، ص: 91.90.
[18] – إدريس الفاخوري،م. س .ص: 92.
[19] – عبد الرزاق أحمد السنهوري، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزامات، نظرية العقد، الجزء الأول، ص: 262 و263.
[20] – سليمان مقرش، عقد البيع، بدون ذكر المطبعة، الطبعة الخامسة 1990، ص: 125 – 126.
[21] – عبد الرزاق أحمد السنهوري، م.س، ص: 263 -264.
[22] – المختار أحمد عطار، الوسيط في القانون المدني، مصادر الالتزام، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص: 93.
[23] – محمد حسين منصور، (العقود الدولية ماهية العقد الدولي وأنواعه وتطبيقاته….) دار الجامعة الجديدة، (دون ذكر عدد الطبعة) سنة 1999، ص: 53.
[24] – محمد حسين منصور، م.س، ص: 48.
[25] – احمد عبد الكريم سلامة، قانون العقد الدولي (مفاوضات العقود الدولية، القانون الواجب التطبيق وأزمته) دار النهضة العربية القاهرة، الطبعة 1، سنة 2000، ص: 98،
[26] – احمد عبد الكريم سلامة، نفس المرجع، ص: 99.
[27] – جمال فاخر النكاس، مرجع سابق، ص: 166.
[28] – التوفيق فهمي، مرجع سابق، ص: 75.
[29] – نفس المرجع، ص 77.
[30] – أبو العلا علي أبو العلا النمر، م.س، ص: 37.
[31] – محمد حسين منصور، م.س، ص: 53.
[32] – محمد إبراهيم الدسوقي، م.س، ص: 113.
[33] – التوفيق فهمي، مرجع سابق، ص: 178.
[34] – محمود جمالة الدين زكي، مشكلات المسؤولية المدنية، الجزء الأول، مطبعة جامعة القاهرة 1978، ص: 133.
[35] – قرار وارد في مجلة الرافدين للحقوق، مرجع سابق، ص: 464.
[36] – التوفيق فهمي : مرجع سابق، ص: 183.
[37] – جميل الشرقاوي، النظرية العامة للالتزام، الكتاب الأول، مصادر الالتزام دار النهضة العربية، القاهرة، سنة 1981، ص: 361.
[38] – جمال الدين زكي، م س، ص: 132.
– صبري حمد خاطر، قطع المفاوضات العقدية، بحث منشور في مجلة كلية الحقوق، جامعة النهرين، المجلد الأول، العدد الثالث، 1997، ص: 130، أوردهم التوفيق فهمي، مرجع سابق، ص: 180 وما بعدها.
[39] – عبد الرزاق أحمد السنهوري، مرجع سابق، ص: 38.
[40] – جميل الشرقاوي، م.س، ص: 261.
[41] – عبد الرزاق السنهوري، مرجع سابق، ص: 40 وما بعدها.
[42] – عبد الرزاق احمد السنهوري، م.س، ص: 678.
– جميل الشرقاوي، م.س، ص: 262.