مجلة مغرب القانونالقانون العامتوفيق ناجم: واقـــع الشفافية في الإدارة المغربية وعــوامل تــعزيزها

توفيق ناجم: واقـــع الشفافية في الإدارة المغربية وعــوامل تــعزيزها

توفيق ناجم دكتور في القانون العام باحث في العلوم الإدارية

تمهيد:

يندرج موضوع الشفافية في التدبير الجماعي في صلب الانشغالات المتزايدة للنهوض بتدبير الشأن العام المحلي، خاصة مع تفشي مظاهر الفساد المالي والإداري بالجماعات المحلية، هذه المؤسسات التي كانت محط تقارير المجالس الجهوية للحسابات التي رصدت اختلالات متعددة.[1] كما أن علاقتها بالموثقين تطبعها مظاهر غير صحية، ولعل أبرزها هو الطبيعة الانغلاقية واللاتواصلية لهذه الإدارة، فالجماعات المحلية، كإدارة عمومية ظلت تعمل بشكل معزول عن محيطها الاجتماعي، كما ننظر إليها في دارة بيروقراطية وسلطوية وإدارة مرتشية، الأمر الذي كان يترتب عنه عرقلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإحلال المصلحة الخاصة محل المصلحة العامة التي هي المبرر المنطقي لوجود الإدارة الجماعتية.[2]

ولقد تزامنت الإصلاحات الإدارية مع تغييرات جذرية في البيئة العالمية اقتضتها متطلبات العولمة وما رافقها من تطورات في المجال المعلوماتي وتكنولوجيا الاتصال وبروز سيطرة واضحة لمنظمات عالمية على توجيه اقتصاد الدول، مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية… أدت إلى ظهور فلسفة جديدة في إدارة شؤون الدولة الحديثة أطلق عليها مسميات عدة كالإدارة العامة الجديدة NPM أو إعادة الحكومة RTG وهي متشابهة من حيث تعاملها مع دور القطاع العام ما يعني تحولات في دور الدولة في تقديم الخدمات، وهذا التغيير في دور الدولة أدى إلى بروز ما يعرف بأسلوب الحكامة الجيدة. ويعد تزايد وعي المواطنين وانتشار موجة الديمقراطية على المستوى العالمي في الثمانينات، وانتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتوافرها للمواطنين، (يعد) من أهم الأسباب التي جعلتهم يطالبون حكوماتهم بتحسين كفاءة الإدارة في مجال تقديم الخدمات من حيث الجودة والنوعية وتوفيرها للجميع، وتحقيق عدالة التوزيع واستغلال أفضل للموارد المتوفرة.[3]

وعلى هذا الأساس، فقد كثر الحديث في الوقت الحاضر في المجتمعات المختلفة سواء في الدول المتقدمة أو الدول النامية عما يسمى بالشفافية في تقديم الخدمات للمرتفق، وفي اتخاذ القرارات المناسبة، وذلك بسبب تأثير ثورة الاتصالات والمعلومات وانتشارها على كافة المستويات والأصعدة.[4] كما تعتبر أخلاقيات العمل في الإدارة العامة من المواضيع التي نالت أهمية كبيرة من قبل الباحثين والدراسين لما للموضوع من أهمية في تعزيز السلوك الأخلاقي الإيجابي وأثره على الأداء المؤسسي، هذه الممارسات الأخلاقية أتت لتعزيز الشفافية ومحاربة الفساد الإداري.

وإن المغرب كغيره من البلدان التي تشق طريقها نحو الديمقراطية حاول استيعاب جملة من المفاهيم الحديثة على رأسها الشفافية، وذلك عبر تحديث كم محترم من النصوص القانونية تماشيا مع المتغيرات المحلية والدولية.[5]

وسيتم الحديث في هذا المقال عن واقع الشفافية في الإدارة المغربية بين القانون والتطبيق، وذلك من خلال وضع إطار فكري ومفاهيمي لمبدأ الشفافية (المبحث الأول)، ثم سنتطرق إلى العوامل الأساسية لتعزيز الشفافية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: الإطار الفكري لمفهوم الشفافية

لقد أصبح مصطلح الشفافية من بين المصطلحات الأكثر تداولا وشيوعا داخل الأروقة الاقتصادية والإدارية والسياسية وغيرها سواء على المستوى الدولي أو المستوى الوطني والمحلي، لذلك لا بد من الوقوف عند الإطار المفاهيمي لهذا المصطلح وذلك عبر تحديد مفهومه ومتطلباته الأساسية.

ويقارب مفهوم الشفافية في إطار جملة من الدلالات من حيث كونها تعبير عن الوضوح والنقاء والعفة والنزاهة والنظافة، وتشتمل للدلالة على الوضوح في المعاملات التي تتولاها الشفافية في الدولة، وتقف الشفافية في دلالاتها في موقف النقيض للفساد والإفساد.

أولا: الشفافية لغة تعني في جذرها الاشتقاقي شفف بمعنى الرقة والخفة أو الشيء الرقيق الذي يسمح برؤية ما خلفه بوضوح وبجلاء. وتعني كلمة (TRANCPARANCY) في اللغة الإنجليزية الوضوح أو الشيء الجلي، أو تعني كل ما يمكن رؤيته بسهولة ووضوح، واكتشاف أبعاده المختلفة بيسر.

وفي المعنى الاصطلاحي (ثانيا) تعني الشفافية هي آلية الكشف عن مظاهر الفساد في أجهزة الدولة عن طريق الوضوح والإعلان عن أنشطتها المختلفة، وهنا تكون مؤسسات الدولة وموظفوها ملزمين بتوضيح ممارستها وسياستها والتعويل على دور المواطن في تحديد ممارسات هذه السياسة وتوجيه النقد والمحاسبة والمساءلة.[6]

وتعني كذلك الوضوح التام في اتخاذ القرارات ورسم الخطط والسياسات وعرضها على الجهات المعنية بمراقبة أداء الحكومة نيابة عن الشعب وخضوع الممارسات الإدارية والسياسية للمحاسبة والمراقبة المستمرة، أو ببساطة شديدة توفير المعلومات اللازمة ووضوحها وإعلان تداولها عبر جميع وسائل الإعلام المقروءة، والمكتوبة والمسموعة والتصرف بطريقة مكشوفة وعلنية.[7]

ويأتي مفهوم الشفافية في سياق الحكامة الرشيدة حيث ترتبط هذه الأخيرة بالشفافية التي تعتبر أحد المقومات الأساسية للحكامة، بل يخترق كل مقوماتها.

بل يمكن القول أن الشفافية لا تعبر فقط عن الحكامة في التدبير بل تعتبر أحد مستلزمات الديمقراطية المحلية، على اعتبار أن الحكامة إحدى الدعامات الأساسية لتعزيز الديمقراطية عن طريق العمل على ترسيخ الشفافية ونشر ثقافة المحاسبة والمسؤولية والتنافسية والتخطيط الاستراتيجي.[8]

ويتجه النبك الدولي في مقاربة موضوع الشفافية إلى ربط هذا المفهوم بالنظام المالي للدولة، حيث اتجهت إحدى مرجعيات البنك الدولي إلى تعريف الشفافية بأنها: الانفتاح والوضوح مع الجمهور فيما يتعلق بهيكلة وظائف القطاع الحكومي وتوجهات السياسات المالية العامة وحسابات القطاع العام، الذي من شأنه تعزيز المساءلة وتحقيق المصداقية، وبحيث يكون الجمهور على دراية بمجريات الأمور المالية.[9]

إن مفهوم الشفافية لا يعني شعارا مجردا من كل مضمون بل هو قيمة حضارية وأخلاقية على العنصر البشري، إلا أن تعزيز الشفافية يحتاج لمتطلبات أساسية.

مقال قد يهمك :   دور مبدأ التفريع في تكريس الحكامة الجهوية بالمغرب

ويستنتج من هذه التعريفات أن الشفافية تتضمن وضوح التشريعات ودقة في الأعمال المنجزة داخل التنظيمات واتباع تعليمات وممارسات إدارية واضحة وسهلة، للوصول إلى اتخاذ قرارات على درجة كبيرة من الموضوعية والدقة والوضوح.[10]

وتكمن أهمية الشفافية في:

1) تحقيق المصلحة العامة.

2) المساعدة في اتخاد القرارات الصحيحة.

3) توفير النجاح والاستمرارية لأية منظمة تريد مكافحة الفساد بكل أشكاله.

4) تسهيل جذب الاستثمارات وتشجيعها.

5) إنعاش السوق المالي.

6) إزالة العوائق البيروقراطية والروتينية.

7) دور الشفافية في تنمية الخصخصة.

لذا فإن أهمية الشفافية تكمن في أنها قناة مفتوحة للاتصال بين أصحاب المصلحة والمسؤولين، وهي بذلك أداة هامة جدا لمحاربة الفساد الذي يستشري خاصة في الدول النامية حيث تتطلب الكشف عن مختلف القوانين والقواعد والأنظمة والتعليمات والمعايير والآليات بشكل عام للإقرار عمليا بالمسائلة والمحاسبة في حالة عدم احترام أو مراعاة لتلك الآليات والقواعد.

كما أن الشفافية مصطلح يطلق على حرية تبادل المعلومات وإعلانها ليعلم بها الطرف الآخر، فهي إذن مدير مكتب الأمين العام مرادفة لمفهومي (الوضوح والمكاشفة اللذان لا يسببان أو يتسببان في الإيهام أو الشك لدى الآخرين أو يقودان إلى الشائعات فيما بينهم، وبالتالي فهي قريبة من المعنى العام للصراحة.

إن الشفافية وإن كانت مطلوبة في حياة الناس مع بعضهم البعض، والعلاقات الإنسانية بشكل عام إلا أنها تبدو ضرورية وملحة في منظمات العمل الإدارية والسياسية. فعلى سبيل المثال تكون الشفافية مطلوبة في المنظمة الإدارية فيما بين القيادات مع بعضهم البعض من جهة وبين القيادات والعاملين تحت إدارتهم من جهة أخرى وذلك حتى لا تكون المنظمة (غامضة) في توجهاتها ولا تعرف أهدافها بالنسبة للعاملين فيها، وبالتالي يقلل من روح الانتماء لها. لذا فالمكاشفة والمصالحة وإيضاح المعلومات بين القيادات العاملة يعزز دور الولاء لدى العاملين ويزيد من إنتاجيتهم ويشد هممهم حين يعرفون كل شيء عنها باعتبار أنهم جزء من هذه المنظمة وهذا حقهم.

من جانب آخر تعتبر الشفافية عامل استقرار سياسي قوي يظهر بجلاء ويرسخ مفاهيم التقدم الحضارية سياسيا لدى الدولة أيا كانت، وذلك حين تكون حق من حقوق المواطنين تجاه الدولة وواجبا من واجبات السلطة والإدارة تجاه المواطنين ، عندها يكون واجب السلطة فتح المجال أمام المواطنين للاطلاع على سير إدارة شؤون المجتمع في كافة النواحي والمجالات وهذا يعني أن تكون سياسات الدولة واضحة في جميع أجهزتها وسلطاتها الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويستثنى من ذلك بعض الحالات الهامة والضرورية مثل الأمور الخاصة بالشؤون العسكرية أو الأسرار الأمنية الهامة المتعلقة بأمن الدولة والمجتمع.

المبحث الثاني: العوامل الأساسية لتعزيز الشفافية

إن تعزيز الشفافية رهين بتوفر متطلبات يمكن اعتبارها شروطا أساسية لتحقيق الشفافية وهي متعددة وكثيرة نذكر البعض منها:

  • تعزيز قيمة الصدق في حياتها من خلال تأكيد أن الشفافية ليس متطلبا فقط بل هي قيمة ملتزمة تلازما أكيدا بمفاهيمها التربوية والسياسية والأخلاقية والديمقراطية وقبل ذلك هي جزء من قيمنا التاريخية والوطنية.
  • تعزيز البناء الديمقراطي على مستوى الفرد والجماعة ومنح المواطن كامل حقوقه وأهمها حقه في عملية صنع القرار على كافة الأصعدة، وأهم من ذلك اطلاعه بصدق وشفافية على المكونات الرقمية التي تلعب دورا أساسيا في عملية صنع القرار.
  • التأكيد على أن المحاسبة هي حق من حقوق المواطنين تجاه السلطة كأحد الضمانات الأساسية لتعزيز الديمقراطية في المجتمع وبناء المجتمع الشفاف وتعزيز شرعية الانتخاب ضمن الشروط التي تناسب استمرار المواطنين في الرضى عن هذا المسؤول أو تقديرهم لحسن أدائه وضمن إطار آخر هو تقييده بالقانون الذي أرساه المجتمع ووضعه.
  • توفير سيادة القانون والفصل بين السلطات وصون حق حرية الحصول على المعلومة وفق الإطار القانوني واحترام حقوق المواطن على اختلافها هي من أهم الأسس التي يعتمد عليها في بناء بيئة سليمة للممارسة و الشفافية.
  • تعزيز القيم والأخلاق في حياتها اليومية ذلك أن الشفافية ليست مطلبا فقط ولكنها جزء من القيم التاريخية والحضارية، وهي أساس من أسس الدولة تقوم بقيامها وتنهار بانهيارها.
  • تعزيز دور الإعلام الشفاف نظرا لما يلعبه هذا الإعلام سواء كان عاما أو حزبيا خاصا في تحريك عجلة التغيير الاجتماعي والتربوي عبر وسائله الأكثر انتشارا وأكثر قدرة على الدخول إلى أبعد وأصعب المعاقل.
  • الاندماج الفعلي للأجهزة الرقابية في تهذيب الحياة العامة بما يلزم من الشفافية وذلك عن طريق الرفع من أدائها وفعاليتها، لكن يجب أن يبقى عمل أجهزة الرقابة بعيدا عن تصفية الحسابات أو لعبة الصراع بين اللوبيات المصلحية.[11]

ويترتب على تطبيق مفهوم الشفافية العديد من الآثار الإيجابية على اتخاذ القرارات الفردية وعلى التنظيمات الإدارية، وهذه الفوائد تبدو لنا كما يلي:

  • تقليل الصلاحيات الواسعة في عمليات اتخاذ القرارات، وذلك لتخفيف درجة المركزية، كما يجب العمل على تشجيع المبادرات الشخصية ضمن قواعد العمل وأنظمته، والعمل على ضرورة توفير الفرص لتنمية المهارات والقدرات المتوفرة لدى الأفراد العاملين.
  • ترسيخ قيم التعاون وتضافر الجهود ووضوح النتائج، حيث يتم المحاسبة على
  • التجاوزات بشكل جماعي من خلال اتخاذ قرارات جماعية.
  • العمل على اختيار القيادات الإدارية ذات القدرة على أخذ القرارات النزيهة والأمانة والموضوعية والانتماء والولاء للمنظمة وللصالح العام، كما يتم من خلال اتخاذ قرارات مناسبة على إظهار نقاط الضعف والقوة وتحديد الانحرافات والعمل على تصحيحها الأمر الذي يعني المزيد من الشفافية في بيئات العمل.
  • يتمتع الأفراد العاملين في التنظيمات الإدارية المطبقة باستقلالية أكثر أثناء قيامهم بواجباتهم الوظيفية، وهذا يعزز الرقابة الذاتية بدلا من الرقابة الإدارية المستمرة، الأمر الذي يجعل قرارات الأفراد العاملين فيما يتعلق بأعمالهم شفافية ومصداقية.
  • العمل على تغير الثقافة التنظيمية السائدة، وهذا يتطلب اتخاذ قرارات ضرورية متغيرة في ثقافة المنظمة حتى يتكون لدى الأفراد العاملين اتجاهات إيجابية تشير إلى أن أهم ما في التنظيم هو العمل على تقديم خدمات ذات جودة للمواطنين مع ضرورة التعامل معهم بشفافية عالية واتخاذ قرار مناسب لهم خالي من العقد والروتين.
مقال قد يهمك :   القضاء و العدالة التعاقدية (تحميل pdf)

وكل ذلك أدى إلى البحث عن مفاهيم وممارسات وأدوات للقضاء على هذ المخالفات أو للتخفيف من حدتها ولذلك، كانت الأخلاقيات وتنميتها وتطويرها من أهم الأدوات التي تؤدي إلى القضاء على كل هذه الأشكال من الفساد الإداري، لذا فإن غياب الشفافية في المجتمعات يزيد من تفاقم الفساد.

وكذلك فالشفافية والمساءلة مقومان أساسيان من مقومات الحكم الصالح الذي يشكل شرطا مسبقا من شروط تحقيق التنمية البشرية والتي تمثل بدورها الهم الرئيسي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والهدف النهائي لجميع برامجه وأنشطته.

الشفافية والمساءلة مفهومان مترابطان يعزز كل منهما الآخر. ففي غياب الشفافية لا يمكن وجود مساءلة: وما لم يكن هناك مساءلة فلن يكون للشفافية أي قيمة. ويسهم وجود هاتين الحالتين معا في قيام إدارة فعالة وكفؤة ومنصفة على صعيد المؤسسات العامة والخاصة.

الشفافية ظاهرة تشير إلى تقاسم المعلومات والتصرف بطريقة مكشوفة. فهي تتيح لمن لهم مصلحة في شأن ما أن يجمعوا معلومات حول هذا الشأن قد يكون لهم دور حاسم في الكشف عن المساوئ في حماية مصالحهم. وتمتلك الأنظمة ذات الشفافية إجراءات واضحة لكيفية صنع القرار على الصعيد العام، كما تمتلك قنوات اتصال مفتوحة بين أصحاب المصلحة والمسؤولين، وتضع سلسلة واسعة من المعلومات في متناول الجمهور.

تقوم الشفافية على التدفق الحر للمعلومات وهي تتيح للمعنيين بمصالح ما أن يطلعوا مباشرة على العمليات والمؤسسات والمعلومات المرتبطة بهذه المصالح، وتوفر لهم معلومات كافية تساعدهم على فهمها ومراقبتها. وتزيد سهولة الوصول إلى المعلومات درجة الشفافية. ولكي تكون المؤسسات المستجيبة لحاجات الناس ولمشاغلهم منصفة، عليها أن تكون شفافة وأن تعمل وفقا لسيادة القانون. فإصلاح مؤسسات الدولة وجعلها أكثر كفاءة ومساءلة وشفافية ركن أساسي من أركان الحكم الصالح. وتعتمد شفافية الجهاز البيروقراطي اعتمادا على توفر المعلومات وصحتها. ويتطلب النقاش النشط حول قضايا السياسات العامة، وهو نقاش من صلب الإدارة العامة الصالحة على الحكومات توفير البيانات المتعلقة بالحسابات القومية ومیزان المدفوعات والعمالة، وتكلفة المعيشة. وترتبط نوعية عملية صنع القرار والمخاطر والتكاليف المترتبة عليها بطبيعة المعلومات التي يتم تزويدها لصناع القرار. فمن الواضح أن الحكومة مصدر رئيسي للمعلومات ومستخدم رئيسي لها في آن واحد. فسياسات الحكومات عرضة للتأثر بمعلومات ذات نوعية رديئة بنفس القدر الذي تشكل فيه المعلومات المتعلقة بالاقتصاد وبأوضاع السوق عنصر أساسي لقدرة القطاع الخاص على إجراء حسابات صحيحة.

الشفافية عنصر رئيسي من عناصر المساءلة البيروقراطية يترتب عليه جعل جميع الحسابات العامة وتقارير مدققي الحسابات متاحة للفحص العمومي الدقيق. فالشفافية تقي من الأخطاء الحكومية، ومن ارتكاب خطأ في تقدير الموارد، ومن الفساد. وقد تم توجيه جهود المساهمين الخارجيين في عملية تعزيز الشفافية نحو مساعدة الحكومات على جعل الموازنات وبرامج الإنفاق العام أكثر شفافية. تشكل حماية البيئة وجميع أشكال الإدارة المالية مجالات أخرى يكون فيها للشفافية دور حاسم على صعيد الفعالية وعلى صعيد احتواء الفساد. فالإدارة أو الوكالة المالية بوجه خاص تتيح فرصة كبيرة لارتكاب المخالفات من جانب الموظفين والإخلال بالأمانة في العمل. وتستطيع وسائل الإعلام إحداث قدر كبير من التأثير في هذا الميدان.[12]

أما المساءلة: يعرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي المساءلة على أنها الطلب من المسؤولين تقديم التوضيحات اللازمة لأصحاب المصلحة حول كيفية استخدام صلاحياتهم وتصريف واجباتهم، والأخذ بالانتقادات التي توجه لهم وتلبية المتطلبات المطلوبة منهم وقبول (بعض) المسؤولية عن الفشل وعدم الكفاءة أو عن الخداع والغش.

يمكن لآليات وضع المسؤولين موضع مساءلة أن تكون فيما بين المؤسسات الحكومية المختلفة، أو داخل المؤسسات بين المشرفين والمرؤوسين، أو أن تتعدى المؤسسات، مثلا عندما يتوجب على مؤسسة وموظفيها الإجابة المباشرة على أسئلة الزبائن أو كل من لهم مصلحة في المؤسسة. ويمكن لآليات المساءلة أن تتناول قضايا تبحث فيمن هم الذين يحتلون مواقع المسؤولية في المؤسسات وفي طبيعة القرارات التي يتخذونها. تتطلب المساءلة وجود حرية معلومات وأصحاب مصلحة قادرين على تنظيم أنفسهم وسيادة القانون.[13]

تشكل المساءلة البيروقراطية، خصوصا من حيث علاقتها بإدارة الأموال العامة، معیارا آخرا من معايير الإدارة العامة السليمة، وتتطلب المساءلة وجود نظام المراقبة وضبط أداء المسؤولين الحكوميين والمؤسسات الحكومية، خصوصا من حيث النوعية وعدم الكفاءة أو الاعتباطية وإساءة استعمال الموارد. ومن الضروري أيضا وجود نظم صارمة للإدارة والوكالة المالية وللمحاسبة والتدقيق، ولجباية الإيرادات (الرسوم الجمركية مثلا)، جنبا إلى جنب مع عقوبات تطبق بحق مرتكبي المخالفات المالية والإدارية من أجل إحراز شكل أكثر كفاءة وأكثر إنصافا من أشكال الإدارة، تجري معظم حكومات الدول النامية إصلاحات جارفة لأجهزتها البيروقراطية. فإصلاح مؤسسات الدولة لكي تصبح أكثر كفاءة ومساءلة وشفافية هو ركن من أركان الحكم الصالح. ويتطلب الإصلاح الفعال التزاما سياسيا يجب أن يحظى بمساندة القطاع الخاص والمجتمع المدني. وقد امتدت. وقد امتدت تجربة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في المجال الخاص والمجتمع المدني. قد امتدت تجربة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مجال المعرفة الفنية لإصلاح الإدارة العامة والإدارة عملية التنمية من العمل الريادي في مجال تقييم التعاون الفني على الصعيد الوطني وبرامجه إلى دعم جهود الإصلاحات الشاملة لسلك الخدمة المدنية. وسعى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العديد من الدول إلى إيجاد شركاء أساسيين وإلى التعامل مع ائتلافات قوية سياسيا، وعثر على مداخل ملائمة إلى هذه الدول وأطلق حوارا حول السياسات المتبعة جمع ما بين أصحاب المصلحة والمستفيدين، وأدخل الإصلاحات بطريقة مرحلية وشاملة.

مقال قد يهمك :   الوضعية القانونية لأعضاء الدواوين الوزارية (خدام الوزراء)

شددت جهود برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الكثير من هذه الدول على تدخلات تستند إلى مستويات التعليم العالية للناس ومساعدتهم على اكتساب سبل الوصول إلى المعرفة والمعلومات والتجارب والخبرات من الخارج التي تعينهم على تطوير قدرات تعكس أولويات الإصلاح. وكانت تلك الإصلاحات شاملة تدمج أحيانا عدة عمليات مترابطة، وتؤكد بوجه عام على الحكم الصالح وعلى إطار مستقر للاقتصاد الكلي. كما أن تطوير مؤسسات ديمقراطية وقابلة للمساءلة (بما فيها الأحزاب السياسية والاتحادات المهنية الحرة ووسائل الإعلام) مسألة حاسمة بالنسبة للإصلاح الإداري، ويعتبر تقديم الدعم لمنظمات القطاع الخاص والمجتمع المدني الناشئة خصوصا في مجال تطوير قدراتها الإدارية وفي مجال المساءلة من الأولويات.

يجب أن يكون صناع القرار في الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني عرضة للمساءلة من قبل الجمهور فضلا عن مسؤولياتهم أمام أصحاب المصلحة في المؤسسات المختلفة. وتتفاوت العمليات التي تضمن حصول المساءلة تبعا لنوع المؤسسة أو المنظمة وما إذا كانت عملية صنع القرار تتخذ في داخل المؤسسة أو تأتي من خارجها.[14]

خاتمة:

إذا كانت الدول المتقدمة قد ذهبت بعيدا في إقامة مرافق عامة منفتحة ومتواصلة مع كل شرائح المرتفقين فإنه مما لا شك فيه أن المرافق العامة (الإدارات العمومية) في بلادنا لا زالت بعيدة عن تحقيق مطامح فئات عريضة من جمهورها والمتعاملين معها في التواصل معهم، عن طريق اقناعهم بأهمية نشاطها وجودة خدماتها وذلك بأفضل الأشكال التواصلية الممكنة.

إن العلاقات الإدارية بمرتفقيها تعرف تأزما تواصليا حادا، فالمجال الإداري مجال مغلق له فاعلوه ومحاوروه المنتقون من طرف الإدارة نفسها ولا يستطيع المرتفقون التدخل في سيره الداخلي وتبقى الإمكانيات الكلاسيكية التي تسمح لهم عن طريقها المطالبة بتكييف وتغيير المصالح العامة بدون قيمة عملية، ويوجد المرتفق في حالة ضعف كما يجد نفسه في غالب الأحيان في وضعية الملتمس الصلح في الطلب.

إن الإدارة المغربية تبدو كما أكد ذلك الأستاذ “علي السدجاري” محمية بغطاء كهنوتي حيث أطلق عليه “عبادة السر”.[15]


الهوامش:

(=) تم تحكيم هذا المقال من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون للدراسات والأبحاث القانونية.

[1] خديجة علي موسی، مظاهر انتشار الفساد المالي والإداري في الجماعات المحلية، جريدة المساء، العدد 1415، الاثنين 2011/4/11، ص 07.

[2] سيدي بويا إعیش، الشفافية في التدبير الجماعي، بحث لنيل دبلوم الماستر في القانون العام،  كلية العلوم القانونية، أكدال، الرباط، 2010-2011، ص 3.

[3] حميد فنان، حول تخليق الحياة العامة والحكامة الرشيدة، جريدة التجديد بتاريخ 4 يناير 2012.

[4] سعيد علي الراشدي، الإدارة بالشفافية، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمان – الأردن، الطبعة الأولى 2007، ص 15.

[5] رجاء لمنبهي، مؤشر الشفافية في أداء المجالس الجماعية، بحث لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، كلية العلوم القانونية ابن زهر، أكادير، السنة الجامعية 2011-2010، ص 14.

[6] رمضان السنوسي، وعبد السلام بشير الدويبي، الفساد بين الشفافية والمساءلة، دار الكتب الوطنية، بنغازي ليبيا، الطبعة الأولى 2006، ص 27.

[7] سعيد علي الراشدي، مرجع سابق، ص 16.

[8] رجاء لمنبهي، مرجع سابق، ص 15.

[9] رمضان السنوسي، وعبد السلام بشیر الدويبي، مرجع سابق، ص 28.

[10] اللوزي موسى، التنمية الإدارية، دار وائل للنشر والتوزيع، عمان – الأردن، الطبعة الأولى، سنة 2002، ص 42.

[11] سعيد علي الراشدي، مرجع سابق، ص ص 29 – 30.

[12] Adel Ben Mohamed, « Transparence En Décision » http.//www.transparency.org – Dec 2004.

[13] Robbins Stephen, « Organizational Behavior”. 8th Ed, NJ: Prentice Hall international >> 1998.

[14] www.mokarabat.com

[15] علي السدجاري، الإدارة والعولمة أية علاقة؟ تأهيل الإدارة للعولمة، منشورات مجموعة البحث في المجال والتراث، طبعة 2000، ص 46.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]