حجية التقيدات في مواجهة الغير
- محمد فوندو حاصل على ماستر الدراسات العقارية والتعمير بكلية الحقوق بعين الشق الدارالبيضاء و طالب باحث في سلك ماستر القانون المدني الاقتصادي بكلية الحقوق السويسي -الرباط.
مقدمة:
يجمع الإنسان والمال صلة قديمة مند وجوده فهو يسعى دائما وجاهدا إلى حماية بشتى الطرق والوسائل فتطورت هذه الصلة مع الزمن حتى عرفت ظهور ما يسمى بالملكية، ولعل من أهم هذه الأخيرة الملكية العقارية التي اجتهد كل من الفقه والقضاء والتشريع في تنظيمها وحمايتها وتعددت القوانين والانظمة في تسييرها ومن هذا المنطلق نؤكد ان المشرع المغربي تبنى مبدأ أساسي يسمى بالقوة الثبوتية العقارية وذلك بمقتضى الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري[1] الذي جاء فيه (كل حق عيني متعلق بعقار محفظ يعتبر غير موجود بالنسبة للغير إلا بتقييده، وابتداء من يوم التقييد في الرسم العقاري من طرف المحافظ على الأملاك العقارية.
لا يمكن في أي حال التمسك بإبطال هذا التقييد في واجهة الغير بالنية الحسنة).
كما أن المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية[2] نصت على هذا المبدأ التي جاء فيها ( إن الرسوم العقاري وما يتضمنه من تقيدات تابعة لإنشائها تحفظ الحق الذي تنص عليه وتكون حجة في مواجهة الغير على أن الشخص المعين بها هو فعلا صاحب الحقوق المبينة فيها.
إنما يقع على تعقيدات من إبطال أو تقييد أو تشطيب على الرسم العقاري لا يمكن تمسك في مواجهة الغير المقيد على حسن نية كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر إلا إذا كان صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو زور أو استعماله شريطة أن يرفع دعوى للمطالبة بحقه داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب إبطاله أو تغييره أو التشطيب عليه).
وبناءا على ما سبق فإن كل التصرفات الواقعة على عقار المحفظ لا أثر لها في مواجهة الغير إلا بتقييدها بالرسم العقاري تطبيقا لما يمكن تسميته بمبدأ القوة الإنشائية للدفاتر أو الرسوم العقارية تحقيقا للحماية القانونية للغير خاصة المقيد عن حسن نية، يجب الاعتراف على ان المشرع المغربي لم يحدد مفهوما لحسن النية أو لسوئها وذلك راجع إلى اختلاط فكرة حسن النية وسوئها بالأخلاق في القانون فهي فكرة غير محددة يشوبها الكثير من الغموض وعدم التحديد لهذا ذهب بعض الباحثين للقول على أنها أي حسن النية تعتبر وسيلة للحفاظ على مبادئ العدالة والإنصاف[3].
وعليه فإن للتقييدات في الرسم العقاري أهمية بالغة فالحق لا يعتبر موجودا إلا عند تقييده في الرسم العقاري ويتبث لهذا المقيد عن حسن النية حقه في الحماية القانونية والقضائية التي تجعله في مأمن بأية مطالبة يدعي صاحبها أنه المالك الحقيقي ويطعن في حصة الحقوق ومن ثم أصبح مشروعا طرح إشكال التالي:
إلى أي حد يساهم التقييد في الرسوم العقارية في تحقيق قوة ثبوتية لحقوق الغير المقيدة عن حسن النية؟
للإجابة عن هذا السؤال سنعالج موضوع وفق مقاربتين الأولى فقهية نبين من خلالها حجية التقييدات في مواجهة الغير (المطلب الأول) والثانية قضائية من خلال تخصيص المطلب الثاني للوقوف على موقف القضاء في ذلك (المطلب الثاني)
المطلب الأول: موقف الفقه من حجية التقيدات في مواجهة الغير
تتجلى أهمية التقييد في السجلات العقارية بالنسبة للعقارات المحفظة في كونه يعد حجة أصحاب مقيدين في السجل العقاري وهم أصحاب الحقوق المقيدة من جهة، ومن جهة ثانية يعطي هذا التقييد الحجية على وضعية العقار ومحتواه من حيث وصفه ومساحته وحدوده وموقعه وما يثقله من إرتفاقات وحقوق عينية وغير من التحملات.
وهذه الحجية تكون ثابتة اتجاه المتعقدين واتجاه الغير هذا الأخير هو الذي سنحاول التطرق إليه من خلال الحديث عن حسن النية في (الفقرة الأولى) على أن نخصص سوء النية في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: حجية التقييدات بالنسبة للغير حسن النية
يقصد بالغير حسن النية ذلك الشخص الذي يجهل العيوب والشوائب التي تعيب أو تشوب سند أو رسم من كان تلقى الحق منه وتقييده على اسمه في الرسم العقاري[4]، في حين عرفها البعض الآخر بجهل عيوب سند من تلقى الحق عنه ولا يعلم عنها شيء أثناء تلقيه ذلك الحق وتقييده بالرسم العقاري[5]، وبناءا على ما سبق فإن الغير حامل لحسن النية خول له التشريع حمية خاصة من خلال الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري والمادة الثانية من مدونة الحقوق العينية من أجل ضمان حقه والحفاظ على استقرار المعاملات بحيث يكتسي هذا نوع من التقييدات قوة قطعية، بمعنى أن التقييدات الواردة بالرسم العقاري تعتبر تقييدات صحيحة على وجه المطلق لا يمكن أن يطالها البطلان أو التغيير احتراما للقوة الثبوتية المطلقة[6] للتقيد وذلك استنادا إلى مقتضيات الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري الذي يؤكد على أنه لا يكون لأي حق عيني مرتبط بعقار محفظ وجود إلا من تاريخ تقديمه تجسيدا لمبدأ القوة الإنشائية للدفاتر العقارية[7].
أما الفقرة الثانية تؤكد على أنه لا يمكن أن يتمسك بإبطال التقييدات في مواجهة الغير بالنية الحسنة وهو ما يتماشى مع مقتضيات المادة الثانية التي تؤكد على أنه ما يقع من إبطال أو تشطيب بالرسم العقاري لا يكون له أثر في مواجهة الغير المقيد عن حسن النية.
وهكذا فإن التقييد بالرسم العقاري هو قرينة على وجود الحق وثبوته وقد ربط المشرع هذه القرينة بمبدأ حسن النية[8]، إلا أن هذه الحجية لا يلزم أخدها على إطلاقها لأن حماية استقرار المعاملات قد يصطدم مع حق الملكية باعتبارها حق مقدس وهو ما دفع المشرع إلى إقرار بعض الحالات التي يخول بمقتضاها إبطال التقيدات الغير حسن النية وهو ما يستخلص من الفقرة الثانية من المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية التي يستشف منها على أن كل التقييدات التي تقع باطلة أو التي تتطلب التغيير أو التشطيب من الرسم العقاري لا يحتج بها في واجهة الغير حامل النية الحسنة ولا يمكن أن يلحق به أي ضرر ما لم يتم إلحاق ضرر بصاحب الحق بسبب تدليس أو الزور أو استعمال ومن تم فإنه حتى ولو كان هذا الغير حامل النية الحسنة فإنه يمكن رفع دعوى للمطالبة بالحق داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب إبطاله أو تغييره أو التشطيب عنه.
لهذا فإن الغير في هذه الحالات لا يمكن أن يتمسك بمقتضيات الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري والفقرة الأولى من المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية، ومن هنا يتبين أن حجية التقييد بالنسبة للغير حسن النية لها وجهين وجه إيجابي، يعني أن كل ما هو مقيد في الرسم العقاري يعتبر قائما وصحيحا بالنسبة للغير حامل للنية الحسنة، والوجه السلبي الذي يعني أن كلما ليس مقيد في الرسم العقاري يعتبر غير موجودا.
ويجب الإشارة على أن بعض الباحثين[9] الفقه القانوني اعتمد على معيارين لتحديد حسن النية:
أولا: المعيار الذاتي وهو المعيار الذي ينظر فيه إلى مقاصد الشخص المتعاقد ونحكم على ما صدر منه في ضوء سلوكه هو بالتالي يعد حسن النية كل شخص اتجهت نيته إلى تقيد بأحكام القانون والقيم الأخلاقية والاجتماعية وعدم التحايل سواء بإبرام العقد أو تنفيذه فلا تكون له أي نية للإضرار بالغير أو تحقيق مصلحة غير مشروعة كما يدرج ضمن المعيار الذاتي حالة العلم أو الجهل بواقعة معينة.
ثانيا: المعيار الموضوعي وهو الذي يقوم على معيار السلوك المؤلوف المعتاد، حيث ينظر في هذا المعيار إلى سلوك المتوقع إلى الرجل العادي العاقل الموجود في نفس ظروف ذلك الشخص.
وفي ختام هذه الفقرة لابد من إبداء بعض الملاحظات غاية في الأهمية فالملاحظة الأولى تتجلى في أجل أربع سنوات لممارسة دعوى المطالبة بالإبطال أو التغيير أو التشطيب على الحق المقيد القائم على تدليس أو الزور بحث يمكن القول أن هذا الأجل هو غير كافي لممارسة هذه الدعوى خاصة إذا كان العقار محفظ في ملكية أحد من الجالية المغربية مما يجعل أربع سنوات غير كافية من جهة ولا تحقق حماية للحقوق مما يساهم في ضياعها.
الملاحظة الثانية أنه كان على المشرع أن يجعل سريان أجل مدة أربع سنوات يبتدأ من تاريخ علم صاحب الحق في ممارسة الدعوى لا من تاريخ التقييد على اعتبار أنه يشكل ضمانة قوية لحماية الحقوق.
الفقرة الثانية: حجة التقييدات في مواجهة الغير سيء النية
يمكن تعريف الغير سيء النية بذلك الشخص الذي يعلم عند تقييده الحق العيني على اسمه في الرسم العقاري العيوب والشوائب الذي تشوب الرسم ومن تلقى الحق عنه[10]، وفي تعريف آخر هو كل شخص يعلم بعيب سند من تلقى الحق وقت حصول تسجيله بالرسم العقاري[11].
فالمشرع حينما جعل في التقييد بالرسم العقاري على وجود الحق وتباثه ربط ذلك مبدأ حسن النية أما سيء النية فلا يمكن الاستفادة في حجية التقييدات لأن قاعدة ثبات التصرف وعدم إبطاله مقررة لحامل حسن النية، وبقراءة متأنية للفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري نلاحظ أن المشرع أعطى حماية قوية للغير لحامل حسن النية ومن كل إجراء قد يؤثر على المركز القانوني وهو ما يستخلص من منطوق من الفقرة الأخيرة من قول ” لا يمكن في أي حال تمسك بإبطال هذا التقييد في مواجهة الغير د نية الحسنة”.
لكن بالرجوع إلى المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية نجدها تضرب عرض الحائط هذا المقتضى إذا ما تبث أنه هناك تدليس أو زور والتي تخول للمالك الحقيقي المطالبة بالتشطيب أو التغيير أو إبطال الحق المقيد من قبل الغير لحاملي النية الحسنة وهو ما يستخلص للتكامل بين النصوص.
ويذهب الدكتور محمد الشنان[12]أن الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري هو قاعدة عامة في حين أن المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية هي قاعدة تؤكد مقتضيات الفصل 66 وتضيف عليها استثناءات خاصة تجعل منه الواجب التطبيق في حالةالزور في حالة التدليس واعتبار أن الأجدر بالحماية هو المالك الحقيقي وليس المقيد عن حسن النية واعتبر أن الغش لا يؤسس عليه الحق ويضيف على أن هذا المقتضى جاء ليلطف من القاعدة فصل 66 ويقيد العمل القضائي عندما يتعلق بالأمر بالتشطيب الخارج عن الزور والتدليس.
ونستحضر قرارا صادر عن محكمة النقض جاء فيه ما يلي:
” إذا كان حق الملكية مضمون فإن الأولى بالحماية هو المالك الحقيقي ونتيجة لذلك لا مجال للاستدلال بحسن النية المشتري طالما أن الوكالة والتي انعقد البيع الأول على أساسها تثبت زوريتها بمقتضى قرار جنحيبات،وإنمابنيعلىالتزويرلايترتبعنهأيأثرقانوني سواء بالنسبة المتعاقدين أو لخلفائهما.
لهذا نؤكد على أن المشرع لم يتطرق لسيء النية في قانون الحفيظ العقاري وكذا مدونة الحقوق العينية وترك للقضاء سلطة تقديرية واسعة في تحديد حسن النية من عدمه بناءا وهو ما سنعالجه في المطلب الموالي.
المطلب الثاني: موقف القضاء من حجية التقييد بالنسبة للغير.
من خلال هذا المطلب سوف نحاول معالجة بعض التوجهات محكمة النقض فيما يتعلق بالقوة الثبوتية للدفاتر العقارية في مواجهة الغير سواء الحامل لحسن النية (الفقرة الأولى) أوعندما يتعلق الأمر بسوء النية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: موقف محكمة النقض من حجية التقييد في مواجهة الغير حسن النية
الأصل في أن الحجية التي تتمتع بها تقييدات الغير حسن النية هي ذات حجية مطلقة لا يمكن التشطيب عليها، وذلك طبقا للفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري، وهو يتبين من خلال مجموعة من الاجتهادات القضائية الصادرة عن محكمة النقض، بحيث جاء في قرار لها ” أن ما يقع من إبطال أو تغيير لاحق لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المسجل عن حسن النية كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، فحجية التسجيل بالنسبة للغير حسن النية تكتسي قوة طاعنة”[13]،كما جاء في قرار آخر لها يقول: ” إن ما يقع من إبطال أو تغيير لاحق لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المسجل عن حسن النية”
من خلال هذه الاجتهادات الصادرة عن أعلى جهة قضائية يتبين أن الأصل هو حماية الغير لحسن النية، لكن بصدور مدونة الحقوق العينية، نجدها جاءت بمقتضى أوردته في المادة (2)، كاستثناء يرد عن الأصل الوارد في الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري بحيث إذا ما تبين أن الأمر يتعلق بتدليس أو تزوير، فيمكن التشطيب عليه حتى لو تعلق الأمر بتقييد حسن النية إذاتم ممارسة دعوى داخل أربع سنوات ابتداءا من تاريخ التقييد وهو ما يستخلص كذلك من قرارات محكمة النقض بحيث جاء في قرار لها ما يلي: ” حسن النية المشترين طبقا للفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري لا اثر له على ما تمسكت به الطاعنة من زورية العقد ما دام أن تبوت العقد يجعله منعدما غير منتج لأي أثر، وغن كان مسجلا بالرسم العقاري، حتى ولو كان المشتري حسن النية”[14].
وفي قرار أخر جاء فيه ما يلي: ” مادام الباطل لا يصححه التقييد بالرسم العقاري وأن غاية التقييد إشهار الحق الموجود فعلا، فإن بطلان التصرف الذي بني عليه التسجيل يجعل هذا التسجيل باطلا.
لا تعتد المحكمة بحسن النية المنصوص عليه بالفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري، إذ تبين لها غن سند تملك الطاعنين باطل لتأسيسه على عقد مزور”[15].
تم قرار أخر جاء عن نفس الجهة جاء فيها ما يلي: ” مادمت المحكمة الجنائية قضت بإتلاف العقد المزور سند التملك، فإن هذا العقد المؤسس عليه عقد البيع يصبح منعدما، ولا مجال لاعتبار حسن نية المشتري في دعوى تسجيل شرائه بالرسم العقاري، إذ ما بني علي باطل فيه باطل”[16].
كما نجد قرار أخر لمحكمة النقض جاء فيما يلي: ” إن ثبوت زورية العقد تجعله منعدما وغير منتج لأي أثر وإن كان مسجلا بالرسم العقاري حتى ولو كان المشتري حسن النية، لأن ما نص عليه الفصل 66 من ظهير 1913 من عدم إمكانية التمسك بإبطال التسجيل في مواجهة الغير ذي النية الحسنة لا محل لأعمالها في التصرفات الباطلة والمسجلة بالصك العقاري، وبذلك فإن ما تمسكت به الطاعنة من اكتسابها الحق المسجل على الرسم العقاري، ما دامت مشترية حسنة النية لا أثر له مادام أن التصرف الباطل لا يصححه”[17].
إضافة إلى هذا القرار نجد قرار أخر لنفس المحكمة جاء فيه:
” ثبوت زورية عقد البيع تجعله منعدما وغير منتج لأي أثر وإن كان مسجلا بالرسم العقاري وكان المشتري حسن النية. لما كان عنصر حسن النية لا تأثير له على وجه الحكم لتعلق جوهر النزاع بالبطلان للتزوير فالمحكمة لمتكن في حاجة للبحث في حسن النية سواء عن طريق الخبرة أو غيرها من وسائل تحقيق الدعوى”[18].
يتبين من خلال هذه القرارات الصادرة عن محكمة النقض كلما تعلق الأمر بتزوير،فالنتيجة المترتب عنها هو البطلان ويكون مصيرها هو التشطيب عليها من السجلات العقارية.وما تجدر الإشارة إليه إن التشطيب حصره وقيده المشرع بمقتضى المادة (2) من مدونة الحقوق العينية من حيث الموضوع ومن حيث الأجل.
فمقتضيات المادة (2) حاولت مواجهة الاستعمال السيء لمبدأ الحجية النسبية للتقييدات، بأن جعلت له سقف زمني محدد في 4 سنوات من تاريخ التقييد بمرورها يصبح المقيد حسن النية محصنا من كل مطالبة قضائية قد تؤثر على مركزه القانوني كصاحب حق عيني.
لذلك جاءت الفقرة الأخيرة من المادة (2) من القانون رقم 39/08 المتعلقة بمدونة الحقوق العينية لتجعل للتقييدات الغير حسن النية وضعان وهي:
أما تقييدات لها حجية نسبية بالنسبة للمقيد حسن النية خلال أجل 4 سنوات من تاريخ التقييد.
وأما تقييدات لها حجية مطلقة بعد مرور أربع سنوات من تاريخ التقييد.
لهذا فالفقرة الأخيرة من المادة (2) حاولت التوفيق بين مصالح المقيد بحسن نية،ومصالح المالك الأصلي، فأوجدت استثناء على مبدأ الحجية المطلقة للتقييدات المضمنة بحسن النية، بالسماح بطلب التشطيب كما هو مضمن بالسجلات العقارية عن طريق التزوير أو التدليس داخل أجل 4 سنوات وهو ما يعني أن حصر نطاق المطالبة القضائية من حيث الموضوع والأجل كان الهدف منه، هو محاولة توفيق بين المصالح المتعارضة لكل من المالك الأصلي والمقيد بحسن النية، إذ قيد نطاق المطالبة القضائية بالتشطيب عما هو مضمن بالرسم العقاري بحسن نية بقيدين هما:
القيد الأول: أن يكون التقييد موضوع المطالبة القضائية تدليس أو تزوير، وهو ما يساهم لا محالة في رفض مختلف المطالبات القضائية لطلب التشطيب، عن ماهو مضمن بالسجلات العقارية بحسن النية، إذا لم يكن موضوع زور مدني (تدليس) أو زور جنائي (تزوير) متى تبت للمحكمة أن تاريخ التقيد قد مر عليه أجل 4 سنوات.
القيد الثاني: أن يكون التقييد طلب التشطيب لم يمر عليه أجل 4 سنوات.
لكن ما يؤخذ على هذه المادة خصوصا اجل رفع الدعوى إن كان على المشرع أن يجعل احتساب مدة 4 سنوات من تاريخ العلم بالتدليس والتزوير وليس من يوم التقييد، لأن المقتضى الوارد في المادة (2) تساهم في ضياع الحقوق لاسيما حقوق المالك الأصلي، ثم كذلك أن مدة 4 سنوات هي مدة غير كافية للمتضرر من أجل رفع دعوى للحصول على حقه، خصوصا ونحن نعلم علم اليقين أن عندما يتعلق الأمر بالتدليس أو تزوير فليس بالوقت الكافي للتحقيق في المسألة، لذلك نشاطر رأي الدكتور محمد شنان[19] على أن المدة المنصوص عليها في المادة (2) فهي غير كافية.
الفقرة الثانية: موقف القضاء من حجية التقييد بالنسبة للغير سيء النية
أوجد القضاء مجموعة من القرائن التي يحدد بها مسألة سوء النية ورتب عليها آثار التشطيب على التقييد أو الإبطال أو التغيير حيث اعتبر أن مجرد علم الغير بالعيوب والشوائب التي تشوب سند أو رسم من تلقى الحق عنه اعتبر في حكم سيء النية وبالتالي يعامل بنقيض قصده ويحرم من كل حق آل إليه، ولا يمكن التضرع بحجية التقييد لأنه بعلمه المسبق بوجود العيب في سند البائع، وقبوله إبرام العقد ورضاه بالمخاطرة فلا يستحق الحماية القانونية[20]
وبالتالي كان فقضاء محكمة النقض يكتفي بمسألة العلم فقط، وسنبين ذلك بمجموعة من القرارات الصادرة عنها في ما يلي:” يصبح الاعتماد في إثبات حسن النية على نفي المطلوبين علمهم بالنزاع وعلى شهادة المحافظة التي لم تشر إليه وتصريح الموثق يخلو ملف المحافظة العقارية من أي مانع من البيع وبعدم بحثه فيما إذا كان هناك نزاع “[21].
” إن كان التسجيل يضفي بدوره على مسجل بحسن نية صفة الإطلاق الحق العيني المتعلق بعقار محفظ، فإن تسجيل هذا الحق بالنسبة لسيء النية يمكن التمسك بإبطاله في حقه ولو كان غيرا طبقا للفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري واستنتج سوء النية من علم مسجل أن الحق العيني الذي سجل في اسمه لاحق له فيه…”[22]
فلم يقف القضاء عند هذا الحد بل ذهب أبعد من ذلك حينما أقر أن وجود التقييد بالرسم العقاري هو قرينة على سوء نية صاحب الحق المقيد الجديد حيث جاء في قرار لمحكمة النقض أن ” إن الشهادة الصادرة عن المحافظ والتي تشير إلى وجود تقييد احتياطي كافي لاعتبار المشتري سيئ النية، بحيث أن هذه الشهادة تقيد وجود نزاع حول العقار المثقل به، ربما أن المشتري قام بتحديد المسطرة الجارية فإنه يعتبر يسئ النية ويتحمل عواقب سوء نيته”[23].
وفي قرار آخر لنفس الجهة القضائية الذي جاء فيه ” والمحكمة لما قضت بشطيب على عقد الهبة اعتمادا على قرار استئنافي الذي قضى بإتمام البيع قبل قيام البائع بتوفيت ما باعه للطاعنين الذين قام بتسجيل عقد الهبة بالرسم العقاري رغم وجود تقييد احتياطي مسجل وأن ذلك التسجيل لم يكن بحسن النية تكون قد عللت قرارها وأسسته على مقتضيات القانون”[24]
وإن كان هذا المعيار منتقدا على اعتبار أن التقييد الاحتياطي يبقى قرينة نسبية في الحسم بأن صاحب الحق مقيد سيء النية ما دام أنه مرتبط بمدد[25]من جهة ومن جهة ثانية يلزم أن يكون التصرف المقيد بالرسم العقاري لاحق للتقييد الاحتياطي أو في نفس الوقت.
بالإضافة إلى ما تقدم ذهبت محكمة النقض في عدة قرارات لها إلى أن مجرد وجود حجز استنادا إلى مقتضيات الفصل 453 من قانون المسطرة المدنية سواء كان تحفظي أو تنفيذي مقيد بالرسم العقاري يمنع كل تقييد لاحق بتاريخ الحجز أما إذا كان الحجز غير مقيد وتصرف المالك الأصلي الذي هو المدين لفائدة الغير دون أن يكون هذا الأخير دا علم بالحجز وبادر إلى تقييد حقه وما دام أنه لم يثبت علمه بالحجز فهو حسن النية وهو ما يستشف من قرار محكمة النقض الذي جاء فيه:
” إن عقد الهبة أنجز في الوقت الذي كان فيه المنزل موضوع الهبة محجوزا حجزا تحفظيا، ووقع تحويله إلى حجز تنفيذي، وغن التفويت تبرعا أو بعوض مع وجود الحجز يكون باطلا، وعديم الأثر طبقا للفصلين 453و 475 من ق.م.م طالما إن تبليغ الحجز للمنفذ عليه قد وقع صحيحا، وأنه لا يلتفت إلى تقييد الهبة في الرسم العقاري لكونها باطلة للسبب المذكور من جهة، ولأن الهبة المنجزة لفائدة المدعية، قد جاءت بعد علم الطرفين الواهب والموهوب لها بوقوع الحجز على الدار محل الهبة، وبذلك تعتبر الموهوب سيئة النية ولا يمكنها تبعا لذلك الاستفادة من حجية التقييد بالاستناد إلى أن التصرف قد تم تقييده وأنه لا يمكنه إبطاله، وذلك لأن قاعدة تبات التصرف وعدم إبطاله مقررة لصالح حسن النية فقط”[26].
وجاء في قرار آخر كذلك لنفس المحكمة ما يلي: أن الحجز التحفظي على العقار موضوع وقع بتاريخ لاحق على عقد البيع وأنه لم يتبث للمحكمة أن المشتري كان عالما بمديونية البائع له أو سوء نيته وبالتالي لا يمكن تحميله تبعة أشياء لا يعلمها ولا حتى منع الشخص من التصرف في أمواله في حدود القانون”[27]
إلا أنه هذا التوجه كذلك تعرض للانتقاد من قبل بعض الباحثين[28] بالقول أن في هذه الحالة لا مجال لإعمال قاعدة علم سابق الحق المقيد بالرسم العقاري بالقول بسوء نيته إلا أن القانون حسب 475 من قانون مسطرة المدنية منع كل توفيت في العقار المحجوز من طرف المحجوز عليه وبالتالي فإن أي تصرف في ذلك العقار يكون باطل في مواجهة الحاجز، والباطل لا يصححه التقييد بالرسم العقاري[29]، تطبيقا للقاعدة الفقهية ” ما بني على باطل فهو باطل”.
خاتمة:
ختاما، يتضح أن مبدأ القوة التبوتية، أصبحت تحكمه مقتضيات الفصول 65 و 66 و 67 و 91 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 14.04 والمادة 2 من مدونة الحقوق العينية التي جاءت حاملة في طياتها القاعدة مع الاستثناء للفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري.
ومنه فالقاعدة الأساسية التي لابد من رسوخها في أذهاننا هي أنه ما ضمن السجلات العقارية يظل صحيحا، ما لم يثبت التزوير أو التدليس فتلك القوة التبوثية للتقييدات فتندثر وتصبح غير موجودة شريطة أن يكون قد تم إثبات هاتين الحالتين داخل أجل 4 سنوات من تاريخ التقييد، وإلا ضاع حق المتضرر.
ومن تم يمكن أن نستخلص ما يلي:
- أن مفهوم حسن النية من سوئها فكرة أخلاقية مرتبطة بباطن المتعاقدين والأغيار يصعب تحديدها وضبطها.
- محاولة الفقه خلق معايير لتحديد حسن النية من سوئها لا يخلو من القصور لارتباط هذه الفكرة الأخلاقية بالواقع، وبالتالي يخلق نوع من الضبابية والغموض بين التوجهات الفهية في تحديد معيار موحد لهذه.
- استخلاص حسن النية من سوئها هي مسألة واقع تدخل في إطار السلطة التقديرية الواسعة لمحاكم الموضوع ولا تخضع لرقابة محكمة النقض إلا من حيث التعليل.
- يلزم إثارة الدفع بحسن النية أو بسوئها أمام محكمة الموضوع ولا يمكن إثارتها أول مرة أمام محكمة النقض لأنها غير مرتبطة بالنظام العام بقدر ماهي متعلقة بقواعد العدالة والإنصاف.
الهوامش :
[1] ظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 (12 أغسطس 1913) المتعلق بالتحفيظ العقاري كما وقع تغييره وتتميمه بالقانون رقم 14.07 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.177 في 25 من ذي الحجة 1432 (22 نوفمبر 2011)
[2] ظهير شريف رقم 1.11.178 صادر في 25 من ذي الحجة 1432 (22 نوفمبر 2011) بتنفيذ رقم 39.08 التعلق بمدونة الحقوق العينية.
[3]بوحماد عبد القادر، حدود الحماية القانونية والقضائية للتقييدات بحسن النية، مقال منشور بمجلة دفاتر محكمة النقض عدد 26 طبعة 201، ص545.
[4] مأمون الكزبري، التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية، الجزء الثاني، شركة الهلال للطباعة والنشر، سنة 1978، ص286.
[5] سعيد بن موسى، الحماية القانونية المقيد عن حسن نية، مقال منشور بمجلة دفاتر محكمة النقض، مجلة عدد 26 طبعة 2015، ص 541.
[6] سعيد بن موسى، الحماية القانونية المقيد عن حسن نية، مقال منشور بمجلة دفاتر محكمة النقض، مرجع سابق، ص 541.
[7]بوحماد عبد القادر، حدود الحماية القانونية والقضائية للتقييدات بحسن النية، مرجع سابق، ص548.
[8] إدريس الفاخوري، نظام التحفيظ العقاري، وفق مستجدات قانون رقم 14.07، مطبعة المعارف الجديدة الرباط، منشورات مجلة الحقوق ، طبعة 2013، ص155.
- أستاذنا محمد خيري، مستجدات التحفيظ العقاري في التشريع المغربي، المساطر الإدارية والقضائية، مطبعة العارف الجديدة الرباط، طبعة 2013، ص597.
[9]بوحماد عبد القادر، الحماية القانونية والقضائية للتقيدات بحسن النية، مرجع سابق، ص559.
[10]مؤمون الكزبري، مرجع سابق، ص286.
[11] سعيد بن موسى، الحماية القانوني والقضائية للغير مقيد الحسن النية، مرجع سابق، ص541.
[12] محاضرات بماستر العقار والتعمير بكلية الحقوق عين الشق الدار البيضاء، السنة الجامعية 2013-2014.
[13] قرار صادر عن محكمة النقض بتاريخ 7/9/2005 تحت عدد 404 في الملف الشرعي عدد 506/02 منشور بمجلة النقض عدد 25 ص143 وما يليها. أورده محمد بتقييد في المرجع السابق، ص182.
[14] قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 26/03/2008 تحت عدد 1107 في الملف عدد 1638/06 منشور بمجلة الانشعاع عدد 36 ص 191 وما يليها. أورده محمد بفقير مرجع سابق ص185.
[15] قرار صادر عن محكمة النقض بتاريخ 12/10/2010 تحت عدد 4285 في الملف عدد 2662/09 منشور بقضاءمحكمة الاستئناف بالرباط عدد 3 ص 102 وما يليها.
[16] قرار محكمة النقض صادر بتاريخ 21/06/2011 تحت عدد 3009 في الملف عدد 45/10. منشور بمجلة ملفات عقارية عدد 2 ص64 وما يليها.
[17] قرار صادر عن محكمة النقض بتاريخ 27/12/2011 تحت عدد 5742 في الملف عدد 4148/10منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 143 ص 207 وما يليها. أورده محمد بفقيد في المرجع السابق ص188.
[18] قرار صادر عن محكمة النقض بتاريخ 29/05/2012 تحت عدد 2691 في الملف عدد 919/11 منشور بقضاء محكمة الاستئناف بالرباط عدد 3 ص 120 وما يليها.
[19] محاضرات بماستر الدراسات العقارية والتعمير،كليةالحقوق،عين الشق الدار البيضاء، السنة الجامعية 2013-2014.
[20]بوحماد عبد القادر،الحماية القانونية والقضائية للتقييدات بحسن النية،مرجع سابق، ص560.
[21] قرار محكمة النقض صادر بتاريخ 24/10/2007 تحت عدد 3449 في الملف عدد 2525/06 منشور بمجلة الإشعاع عدد 36 ص 180 وما يليها أورده محمد بفقيد بالمرجع السابق ص184.
[22] قرار محكمة النقض عدد 579 الصادر بتاريخ 25 فبراير 2004.
[23] قرار محكمة النقض 337 صادر بتاريخ 13 نونبر 1891 منشورات مجلة المجلس الأعلى عدد 31 ص 137 وما بعدها.
[24] قرار عدد 96 الصادر بتاريخ 11 فبراير 2014،منشور بمجلة قضاء محكمة النقض، مطبعة الأمنية، عدد 77 طبعة 2014 الرباط، ص11.
[25] حسن فتوخ، المعايير القضائية لاستخلاص سوء النية في تصرفات العقارية، المجلة المغربية والدراسات القانونية والقضائية عدد 9 طبعة 2012، ص70.
[26] قرار محكمة النقض المؤرخ في الملف المدني عدد 2005/05/25. منشورات مجلة المنازعات العقارية ص15.
[27] قرار عدد 3247 الصادر في تاريخ 7 دجنبر 2005، مشار له عند بوحامد عبد القادر، حدود الحماية القانونية والقضائية للتتقيدات بحسن النية، مرجع سابق، ص563.
[28] عمر أزوكان، أثار التصرفات على العقار محفظ مرهون أو محجوز،مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية، عدد 96، طبعة 2002، ص16.
[29] حسن فتوخ، المعايير القضائية في الاستخلاص سوء النية في التصرفات العقارية، مرجع سابق، ص77.