خطاب العرش و رهانات المرحلة الجديدة
أسامة الخديري، طالب باحث في الحكامة وسياسة الجماعات الترابية
لما كان عيد العرش يعتبر من الأعياد الوطنية يلقي خلاله الملك خطابا ساميا (كألية تواصلية رسمية) يوجهه الى شعبه ، فإنه غالبا ما يكون تقييما للمشاريع و الاصلاحات التي تمت انجازها، و تشخيصا للوضعية الراهنة، و مقدما لحلول لمشكلات مطروحة. من جهة أخرى، فالخطب الملكية ليست مجرد خطب عادية و عابرة و لا تلق بالا، بل هي توجيهات للسياسات العمومية و مرجعا و خارطة طريق عمل لكل المتدخلين في السياسات العمومية بالمغرب ( السلطات العمومية، الهيئات السياسية و المنتخبة، المجتمع المدني، القطاع الخاص، المواطن.. ). لذلك ينبغي أن تلق اهتماما و تجاوبا بكل روح مواطنة.
إن القراءة المتأنية لمضامين الخطاب الملكي بمناسبة مرور عشرين سنة على تربع جلالته على عرش أسلافه الكرام و حمله قيادة شعبه، يجلعنا نلمس أنه خطاب تحليلي و تقييمي لما تم انجازه من اصلاحات مؤسساتية عميقة و بنيات تحتية و مشاريع كبرى ( ميناء طنجة المتوسط، طرق سيارة، قطار سريع..). إلا أن هذه المنجزات تظل غير كافية ، و لم تستفد منها مختلف الشرائح الاجتماعية خاصة المتوسطة منها طيلة النهضة التي عرفها المغرب منذ عشرين سنة.و هذا ما أكده جلالته حينما قال : ” لقد أنجزنا نقلة نوعية، على مستوى البنيات التحتية، سواء تعلق الأمر بالطرق السيارة، والقطار فائق السرعة، والموانئ الكبرى، أو في مجال الطاقات المتجددة، وتأهيل المدن والمجال الحضري. كما قطعنا خطوات مشهودة، في مسار ترسيخ الحقوق والحريات، وتوطيد الممارسة الديمقراطية السليمة. إلا أننا ندرك بأن البنيات التحتية، والإصلاحات المؤسساتية، على أهميتها، لا تكفي وحدها. ومن منطلق الوضوح والموضوعية، فإن ما يؤثر على هذه الحصيلة الإيجابية هو أن آثار هذا التقدم وهذه المنجزات لم تشمل، بما يكفي، مع الأسف، جميع فئات المجتمع المغربي. ذلك أن بعض المواطنين قد لا يلمسون مباشرة تأثيرها في تحسين ظروف عيشهم، وتلبية حاجياتهم اليومية، خاصة في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية، والحد من الفوارق ا لاجتماعية، وتعزيز الطبقة الوسطى.”
من جهة أخرى، فإن الخطاب السامي يطرح لنا تصورا مستقبليا للمرحلة القادمة التي ستعرفها البلاد، و هي مرحلة مرتبطة بتجديد النموذج التنموي الوطني الذي ” أبان ، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية. وهو ما دفعنا للدعوة لمراجعته وتحيينه.“ كما ترتبط بالتخلص من أصحاب العقليات الجامدة، المنغلقة على ذاتها و الخائفة، و تعويضها بنخب شابة كفؤة، مبتكرة، مبدعة و تتوفر على الخبرة اللازمة لتحقيق الأهداف و الغايات. لذلك، فالمرحلة القادمة يجب أن يطبعها الأمل بدل الخوف، و الإبداع بدل الجمود.
و في معرض تحليلنا للخطاب السامي سنقف عند بعض النقط كالنموذج التنموي الوطني و الكفاءات البشرية ثم الرهانات و التحديات التي تطرحها المرحلة .
أولا : النمودج التنموي الوطني :
لقد أقر جلالته في اكثر من مرة بفشل النموذج التنموي حيث عرف العديد من الاختلالات و لم يعد قادرا على تلبية حاجيات المواطنين و التقليص من الفوارق الاجتماعية و التفاوتات التي تفاقمت بين المجالات الترابية و تحقيق العدالة الاجتماعية. و بالطبع، فبقدر الانشغال المستمر و الدائم بهذه الأوضاع فإن ذلك لا يزيده سوى العزم على مواصلة استكمال الإصلاح عن طريق ملكية وطنية و مواطنة تعتمد على القرب من المواطن و الاصغاء اليه و تتبع قضاياه عن قرب.و قال في هذا الصدد : “صحيح أننا لم نتمكن أحيانا بتحقيق كل ما نطمح إليه، ولكننا اليوم أكثر عزم على مواصلة الجهود وترشيد المكتسبات واستكمال مسيرة وتقويم الاختلالات التي أفادت عنها التجربة”.
و في هذا السياق، وضع جلالته خطة عمل جديدة و منهجية خاصة لصياغة نموذج تنموي جديد. و تمثل ذلك في إحداث اللجنة الاستشارية الخاصة بالنموذج التنموي. و هو ما أكده بقوله : “قررنا إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي سنقوم في الدخول المقبل، إن شاء الله، بتنصيبها.وقد راعينا أن تشمل تركيبتها مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد، والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا.وهنا أود التأكيد، أن هذه اللجنة لن تكون بمثابة حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية؛ وإنما هي هيأة استشارية، ومهمتها محددة في الزمن” . و من اختصاصاتها النظر في “ التوجهات الكبرى، للإصلاحات التي تم أو سيتم اعتمادها، في عدد من القطاعات، كالتعليم والصحة، والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي؛ وأن تقدم اقتراحات بشأن تجويدها والرفع من نجاعتها “.
و الجدير بالذكر أن قرار إنشاء لجنة استشارية الخاصة بالنموذج التنموي جاء بعد النتائج الإيجابية التي حققتها لجان خاصة سابقا في بعض القضايا ذات البعد الوطني كمدونة الأسرة وهيئة الإنصاف والمصالحة. هذه الاجراءات كلها من أجل إيجاد بديل تنموي جديد لسد الثغرات التي تطرق اليها جلالته. و ما يميز اللجنة المكلفة ببلورة النموذج التنموي الجديد يتمثل في عدم تحديد سقف لعملها، ما يمنحها حرية الاشتغال والتفكير والتقييم.
ثانيا : في الحاجة الى نخبة جديدة من الكفاءات
لقد وقف الملك عند نقطة مهمة تعتبر حجرالأساس لكل تنمية حقيقية و تقدم اقتصادي و اجتماعي. و يتعلق الامر باستقطاب الكفاءات المؤهلة التي يمكن الاستفادة من خبراتها مستقبلا واستثمار ذكائها في التنمية و التطوير ، فهي القادرة على التفاعل الايجابي مع النموذج التنموي. و هذا ما أكده جلالته عندما قال ” فالمرحلة الجديدة ستعرف إن شاء الله، جيلا جديدا من المشاريع. ولكنها ستتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة.وفي هذا الإطار، نكلف رئيس الحكو مة بأن يرفع لنظرنا، في أفق الدخول المقبل، مقترحات لإغناء وتجديد مناصب المسؤولية، الحكومية والإدارية، بكفاءات وطنية عالية المستوى، وذلك على أساس الكفاءة والاستحقاق.
وهذا لا يعني أن الحكومة الحالية والمرافق العمومية، لا تتوفر على بعض الكفاءات. ولكننا نريد أن نوفر أسباب النجاح لهذه المرحلة الجديدة، بعقليات جديدة، قادرة على الارتقا ء بمستوى العمل ، وعلى تحقيق التحول الجوهري الذي نريده.“
إننا اليوم نحتاج أكثر من اي وقت مضى الى تغيير العقليات الكلاسيكية الجامدة التي تقف حاجزا امام التقدم الشامل الذي نسعى إليه، و الانفتاح على الطاقات و الكوادر البشرية المتخصصة القادرة على وضع الاستراتيجيات و البرامج التنموية و تنفيذها. كما نحتاج ايضا الى ترسيخ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة حيث تغيب ثقافة الجزاء في بلادنا، و تفعيل مبادئ الحكامة الجيدة و الرقابة.
ثالثا : تحديات و رهانات ..
لقد حمل خطاب الملك السامي جملة من التحديات و الرهانات التي ينبغي كسبها للاستجابة الحقيقية لمتطلبات المرحلة الجديدة. و تمثلت هذه الرهانات في :
” أولا : رهان تو طيد الثقة والمكتسبات : لكونها أساس النجاح، وشرط تحقيق الطموح : ثقة المواطنين فيما بينهم، وفي المؤسسات الوطنية، التي تجمعهم، والإيمان في مستقبل أفضل.
ثانيا : رهان عدم الانغلاق على الذات، خاصة في بعض ا لميادين، التي تحتاج للانفتاح على الخبرات والتجارب العالمية، باعتبار ذلك عماد التقدم الاقتصادي والتنمو ي، بما يتيحه من استفادة من فرص الرفع من تنافسية المقاولات والفاعلين المغاربة...
ثالثا : رهان التسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية : لبناء اقتصاد قوي وتنافسي، من خلال مواصلة تحفيز المبادرة الخاصة، وإطلاق برامج جديدة من الاستثمار المنتج، وخلق المزيد من فرص الشغل.
رابعا : رهان العدالة الاجتماعية والمجالية : لاستكمال بناء مغرب الأمل والمساواة للجميع . مغرب لامكان فيه للتفاوتات الصارخة، ولا للتصرفات المحبطة، ولا لمظاهر الريع، وإهدار الوقت والطاقات...”
هذا من جهة، من جهة أخرى اشترط جلالته في خطابه السامي انخراط المواطن بكل صدق و مسؤولية لإنجاح المرحلة الجديدة . باعتباره تروة حقيقية و محرك للتنمية، فاعل جديد له وزنه و تأثيره الكبير في الحياة الوطنية، و الهدف المقصود من كل البرامج و المخططاات التنموية. و هذا ما أكده بقوله ” إن نجاح هذه المرحلة الجديدة يقتضي انخراط جميع المؤسسات والفعاليات الوطنية المعنية، في إعطاء نفس جديد، لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا.
كما يتطلب التعبئة الجماعية، وجعل مصالح الوطن والمواطنين تسمو فوق أي اعتبار، حقيقة ملموسة، وليس مجرد شعارات.
وإلى جانب الدور الهام، الذي يجب أن تقوم به مختلف المؤسسات الوطنية، أريد هنا، أن أؤكد على ضرورة انخراط المواطن المغربي، باعتباره من أهم الفاعلين في إنجاح هذه المرحلة.
لذا، أدعو جميع المغاربة، للمساهمة الإيجابية فيها، بروح المواطنة الفاعلة؛ لأن النتائج التي نطمح إليها، والمشاريع والمبادرات، التي نقدم عليها، لها هدف واحد هو : تحسين ظروف عيش المواطنين”.