شذرات من السيرة المهنية لمفتش شغل مغربي
ياسر الطريبق مفتش شغل
أتذكر جيّدا لحظة أدائي لليمين القانونية بمناسبة التحاقي بهيئة تفتيش الشغل منذ قرابة 18 سنة حيث كانت تلك اللحظة غريبة ومريبة بالنسبة لي شخصيا، ليس لأنني كنت أخشى من ممارسة تلك الوظيفة النبيلة بل العكس هو الصحيح، لكن، ما أثار ريبتي _في الحقيقة_ هو مجرد موقف لحظي ملتبس واجهته حين كنت أردّد أمام القاضي المكلف باستقبال أداء القسم ما كان يمليه علي جملة وراء جملة…، وبينما كنت أردد منصوص ذلك القسم الغليظ بكل جوارحي متأثرا بجسامة الأمانة التي ستلقى على عاتقي بمناسبة قيامي المرتقب ببعض مهام الضابطة القضائية استوقفتني جملة أملاها علي القاضي وهو يقول: “أقسم بالله العلي العظيم أن أبلّغ للمحاكم كل مخالفات قانون الشغل التي لي علم بها”.
إذ ذاك توقفت عن ترديد القسم لبرهة ثم نظرت إلى القاضي نظرة حيرة وارتياب، فقال لي بنبرة مؤدّبة: لماذا توقفت عن إكمال أداء اليمين؟ هل عندك تحفظ من شيء ما؟
قلت له: بكل صراحة، يبدو لي من المستحيل أن أطبق ما جاء في تلك العبارة الأخيرة من القسم يا سيدي القاضي، وإلا فكيف يمكنني أن أبلغكم بجميع مخالفات قانون الشغل التي لي علم بها وهي لا تعد ولا تحصى؟ ابتسم القاضي ابتسامة عميقة واستكمل حديثه قائلا: لا عليك، وإنما الأعمال بالنيّات…
وبطبيعة الحال، لطالما واجهت في مسيرتي حالات متعددة من عدم احترام قانون الشغل سواء من طرف المشغلين أو من طرف الأجراء فكنت وما أزال أسعى جاهدا لإقناع الأطراف المخالفة بالرجوع إلى القانون واحترامه بكل الوسائل الإدارية والتواصلية الممكنة قبل أن أضطر في آخر المطاف إلى اعتماد الزجر في حق أولئك المخالفين الذين يرفضون تطبيقه (توجيه محضر ضبط المخالفات أو الجنح إلى النيابة العامة) وإن كنت أعلم بأن الإجراءات الزجرية التي أتخذها لا تدفع في الغالب إلى منح الحقوق لأصحابها ما لم تقم الضحية المتضررة برفع دعوى قضائية ضد الطرف الآخر المخالف للقانون (ونحن نعلم الآثار المادية والاجتماعية للتقاضي في بلادنا)، في حين يكتفي القضاء الواقف _في حالة الزجر_ بالحكم على المخالفين بأداء غرامات هي في الحقيقة جد محدودة مقارنة مع الفعل المنسوب لأصحابها. فأين يكمن الخلل يا ترى؟ هل هناك نقص أو إشكال في المجال التشريعي يحد من دورنا المتمثل في مراقبة تطبيق قانون الشغل وفرض احترامه من طرف الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين؟ أم أن الإشكال موجود في الواقع المغربي الذي يأبى أن يتهيكل في إطار التزام الأطراف بواجباتهم وحقوق غيرهم؟ أم أن الأمر يتعلق بالإهمال الحكومي لهذا القطاع الاجتماعي الحيوي وعدم تقدير الدولة المغربية لأهمية العدالة الاجتماعية والتنافسية الاقتصادية المنصفة والسلم الاجتماعي داخل فضاء العمل؟
بالنسبة لي شخصيا وانطلاقا من تجربتي المهنية المتواضعة، أستطيع أن أقول إن الإشكال راجع إلى كل تلك الأسباب مجتمعة؟
من جهة أخرى توجد هناك مقتضيات قانونية يصعب ضبط مخالفتها أصلا بالنظر لصعوبة إثباتها أذكر من ضمنها مثلا دون الحصر جنحة المس بالحرية النقابية أو التمييز على أساس الانتماء النقابي، وهي جنحة كثيرا ما طرحت على طاولتي أثناء أدائي لمهمة المصالحة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية، وفي جل تلك الحالات كانت الأطراف التي لا تحترم مبدأ الحرية النقابية المنصوص عليه في القانون (المادة 9 من مدونة الشغل خصوصا) تحاول أن تتحايل على القانون لإضمار مواقفها الملتبسة وتفادي السقوط في فخ الاعتراف الضمني بارتكابها لجنحة المس بالحرية النقابية التي تعتبر عقوبتها القضائية المفترضة من أشد العقوبات المنصوص عليها في المدونة إلى جانب جنحة تشغيل الأطفال وجنحة العمل الجبري وجنحة التمييز على أساس الجنس أو العرق….
في هذا السياق، أتذكر بالمناسبة، مثلا، كيف كان بعض المشغلين المتحايلين على القانون _على قلتهم_ يتذرّعون بأسباب ومبررات “مصطنعة” لإخفاء تعسّفهم على الأجراء النقابيين أو المستقلين فتجدهم يقومون بنقل الممثل النقابي أو مندوب الأجراء أو إعفاءه من مهامه الإدارية بهدف حرمانه من التحفيزات المادية مثلا، ثم يبررون ذلك بضرورة المصلحة الادارية بينما يكون المبرر الحقيقي الخفي أو المضمر هو إسكاتهم وإحباط دعواتهم ومطالبهم العمالية. ومن جانب آخر، كان بعض الأجراء كذلك يتحايلون على القانون باستغلال انتماءهم النقابي ونفوذهم في للضغط على أرباب العمل من أجل قضاء مآربهم الشخصية والذاتية، مما يظهر أن ظاهرة التحايل على القانون ليس حكرا على أحد طرفي العلاقة الشغلية دون الآخر…
ومادامت مهمة المصالحة التي ينجزها مفتش الشغل لا تتيح له حق الحكم على قانونية أو شرعية القرارات التي تتخذها الأطراف المعنية ولا حتى تقديرها أو الاجتهاد فيها، فقد كنت أكتفي _في تلك الحالات السالفة الذكر_ بمحاولة التقريب بين الأجراء أو ممثليهم من جهة ومشغليهم من جهة ثانية، وهو ما كان يتحقق بسهولة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع شركات ومؤسسات مهيكلة يؤمن أطرافها بتطبيق القانون واحترامه في حين كنت أجد صعوبة كبيرة في التعامل مع شركات ومؤسسات غير مهيكلة تفضل الاستناد على قانون الغاب بدلا من قانون البلاد ومع أطراف لا تعترف بروح القانون أصلا، اللهم إلا من أجل استعماله قصريا لصالحها…
لقد حاولت، أعزائي القراء _وتلك هي حدودي الممكنة في هذا المقال الأدبي_ أن أعرض عليكم ملمحا من ملامح عالم الشغل وما تعيشه أطراف العلاقة الشغلية في المغرب من تمظهرات قد تكون مشوهة أحيانا من الناحية القانونية والأخلاقية وفق زاوية نظر خاصة نابعة من تجربتي المهنية المتواضعة،
بيد أن حديثي في هذا المجال الاجتماعي _بما يتضمنه من اختلالات بنيوية ملحوظة_ لن يكون كافيا بالنسبة لي ما لم أدق ناقوس الخطر الذي ستعيشه بلادنا إذا ما استمرت كل الأطراف في الاستهانة بالقوانين في ظل إغفال الحكومة المغربية لدورها ومسؤوليتها المباشرة في حماية الحقوق الأساسية للمواطنين وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية وهيكلة الاقتصاد الوطني كما جاء على لسان الملك محمد السادس الموقر في خطابه الأخير لعيد العرش،والحال أن الحكومة المغربية اليوم لا تحقق أي تقدم يذكر في هذا المجال بل إن الوزارة المشرفة على قطاع الشغل (وزارة الشغل والإدماج المهني) هي نفسها تحتاج منذ مدة إلى هيكلة جديدة تتماشى مع الأدوار الجسيمة المناطة.