قصة رائعة : محام حريص … و نقيب حصيف.
أرسل أحد المحامين كتاباً لنقابة المحامين يستفتيها فيه ، عما إذا كانت ترى محذوراً من قبوله الوكالة و الدفاع عن أشخاص كلفوه بإقامة دعوى على أحد موكليه في دعوى أخرى ، هذا الموكل هو المدعي في الدعوى الأخرى و التي ما تزال قائمة ، و ذكر المحامي أن كلا الدعويين منفصلة عن الأخرى لاختلاف الموضوع ، و أنه يرى أن كلا الطرفين ( الموكل الأول ، و من يريد التوكل عنهم ضده ) محق في دعواه .
فأرسل له نقيب المحامين جواباً رائعاً في لغته و في الأفكار و المبادئ التي احتواها ، يستحق التوارث و التناقل بين أجيال المحامين بدلاً من أن يبقى مدفوناً هكذا ، فهو يصلح لكل زمان ، و هذا نصه :
إلى حضرة الزميل الفاضل
جواب كتابكم المؤرخ 23 كانون الثاني سنة 1948.
لقد أحسنتم صنعاً بسؤالكم هذا لأن المحاماة فضيلة وكرامة قبل أن تكون صناعة ، و المحامي وجد ليكون نصيراً للحق و منزهاً عن الهوى ، و إذا كان المشترعون في العالم لم يستطيعوا ، و لن يستطيعوا ، وضع قواعد ثابتة في متن قوانين المحاماة ، لكافة حقوق و وجائب المحامين ، فإنهم مجمعون على أن هنالك شرائع أدبية لصناعة المحاماة ، تقرر الموازين الصحيحة للسلوك ، و هي مصابيح هداية و إرشاد للمحامين في نضالهم لتحقيق أسمى مبادئ الشرف و الحق و العدل .
بيد أن معرفة تلك الشرائع الأدبية ، لا تحتاج إلى عناء ، فإن الاعتبارات الخلقية ذاتها توحي بالابتعاد عن مواطن التهم .
و إذا كان المحامي قد قبل أن يكون عوناً لموكله الأول في سبيل صيانة حقه من عبث العابثين ، و رضي لنفسه مهمة الدفاع عنه ، و أباح للسانه أن ينطق أمام القضاء بما هو في مصلحته باعتباره ذا حق كما اقتنع قبيل قبول وكالته ، و أصبح مضطراً للتوفيق بين الحق و الواجب .
فكيف يستطيع أن يتألب ضد هذا الموكل و لو بدعوى أخرى ، و يحمل قلبين بجوف واحد أحدهما معه و الآخر مع خصومه ؟
و كيف يتصور أن يعتصم المحامي بواجبه بكلا القضيتين ، فيقف مدافعاً في الأولى ، و يتبسط أمام القضاة قضية موكله الأول ، و يشرح ظروفها و مناسباتها ، و يستخدم مواهبه و كل النصوص القانونية التي تدعم حق الموكل ، و يندفع بكل ما أوتي من حماس و شعور في سبيل كسب دعواه ، ثم بعد فترة ينتقل إلى جانب آخر لمقاضاة الموكل ذاته بدعوى ثانية ضده يتولى فيها إثبات جرم عليه يستوجب معاقبته ، و قد يدفعه رضاء النفس إلى الميل لأحد الموكلين ، و التشدد ضد الآخر ، و تتهاتر بذلك المصلحتان ، فيسيء المحامي إلى الموكلين الأثنين من حيث لم يتعمد الإساءة لهما ، و تفسد العلاقات الاجتماعية بين المحامين و الناس ، و تتعرض سمعة المحاماة للشك و التهمة .
بالإضافة لذلك فإن المحامي – بحكم مركزه – مضطر لقبول سائر الموكلين في مكتبه ، و إنهم حين يزورونه فيه يعترفون أمامه بحقائق الأمور بوصفه مستودع أسرارهم ، و لاشك أن الطمأنينة المفروض وجودها في نفوس الموكلين تزول و تنقلب إلى عكسها حينما يرى أحد هؤلاء خصمه في خلوة مع الوكيل ذاته لترتيب وسائل الدفاع ضده .
لـذلك
لا أرى قبول الوكالة ضد الموكل الأول ، قبل أن تفصل دعواه بالصورة القطعية و تنتهي علاقات الوكالة بينهما بصورة طبيعية ، و دمتم .
- في 2-2-1948
- نقيب المحامين
- أحمد فؤاد القضماني
- منشور بمجلة نقابة المحامين بدمشق – عام 1947 / 1948 – الصفحة 42
تعليقات 0