قواعد تشغيل الحساب الجاري في القانون التجاري المغربي

مقدمة:

يخضع الاقتصاد الحديث في العديد من جوانبه لتطور سريع بفعل النمو الذي تشهده الحياة المدنية والاقتصادية للفرد ولمواكبة هذا التطور شهد المغرب سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، فبعد سياسة التقويم وإعادة الهيكلة التي نهجها خلال الثمانينات من القرن الماضي، وبعد المجهودات التي بذلت لإقامة التجهيزات الأساسية وتوفير مناخ الاستثمار وتشجيع المبادرة الاقتصادية والاجتماعية، وما إلى ذلك من حملات تطهيرية وتحسيسية بغية تشجيع الاستهلاك المحلي لما له من تأثير مباشر على الاقتصاد الوطني، قام المشرع بإدخال العديد من التغييرات على القوانين الجاري بها العمل لتلافي ما فيها من نقص وجمع نصوصها المتناثرة[1].

ومن بين الأمور التي قام بها المشرع تماشيا مع التطور الحاصل هو تنظيمه للعقود البنكية وذلك في القانون رقم 15.95[2]، وعلى ذكر العقود البنكية فموضوع دراستنا سيكون عقد الحساب الجاري الذي يرى فيه الأستاذ إلياس ناصيف بأنه يقوم على تعدد وتكرار العلاقة بين رجال الأعمال بشكل يكون كل منهما دائنا أحيانا ومدينا أحيانا أخرى.

كما ان هذه العلاقات المتكررة يمكن تصفيتها على أساس تصفية كل عملية بمفردها. بحيث يدفع المدين للدائن ما يتوجب له بذمته وفقا للقواعد العامة وعندئذ لا ضرورة للتعامل على أساس الحساب الجاري، إلا أن تكرار التعامل يؤدي إلى بعض المشقة والتعقيد، وضياع الوقت…. هنا برزت فكرة الحساب الجاري، تسهيلا للتعامل، إذ يتفقا على تصفية العمليات بينهما على طريقة الحساب الجاري، فيمسك كل منهما سجلا يدون فيه تدريجيا المبالغ الناتجة عن التعامل سواء أكان دائنا أو مدينا بهذه المبالغ، وبعد ذلك يجتمع الطرفان، عندما تسنح لهما الفرصة في أوقات معينة، ويقومان بتصفية العمليات دفعة واحدة واستخراج الرصيد الذي تظهره هذه التصفية، وبذلك يتسنى للطرفين المتعاملين عن طريق فكرة الحساب الجاري، أن يسهلا التعامل بينهما، وان يصرفا القسم الأكبر من وقتهما في العمل بدلا من إضاعة الوقت في تصفية كل عملية من العمليات علا حدة، مع ما ينشأ عن ذلك من مخاطر نقل المال من مكان لآخر وكلفة نفقات الانتقال[3].

و الحساب الجاري بمفهومه العام يشمل الحساب الجاري البنكي الذي يكون أحد طرفيه بنك والحساب الجاري الذي يفتح بين تاجرين لتسجيل ديونهما المتبادلة كأن تفتح شركة معينة حسابا لدى شركة أخرى متراسلة، مما يعني بأن الحساب الجاري بمفهومه العام قد يكون أحد طرفيه بنكا وقد لا يكون بنكا[4]. وما دمنا في سيرة مفهوم الحساب الجاري وجب الرجوع إلى بعض التشريعات المقارنة التي عرفته في قوانينها التجارية، اد عرفه المشرع التونسي في قانونه التجاري بما يلي:”يقوم عقد الحساب الجاري إذا اتفقا شخصان على أن يدخلا في حساب بواسطة مدفوعات متبادلة ومتشابكة الحقوق الناشئة عن عمليات يجرونها فيما بينهما وأن يحلا بذلك محل التسويات الخاصة والمتتابعة لهذه العمليات تسوية وحيدة تنصب على الرصيد الوحيد للحساب عند قفله….”[5].

وللموضوع أهمية لا تخفى على أحد وتتجلى فيما للحساب الجاري من أهمية في تيسير العمليات المتبادلة بين الأطراف، وكذا في معرفة خصوصية قواعد تشغيل هذا الحساب، وإلى أي مدى يمكن اعتباره حسابا بالاطلاع.

لأجل معرفة كل هذا لابد من المرور والإجابة على بعض التساؤلات التي يطرحها موضوعنا وهي: هل الحساب الجاري هو الحساب بالإطلاع؟ وما هي تقسيمات الحساب البنكي؟ وما هي قواعد تشغيل الحساب الجاري؟

هذه الأسئلة بالإضافة إلى أخرى سنحاول الإجابة عليها وفق التصميم التالي:

  • المبحث الأول: ماهية الحساب الجاري
  • المبحث الثاني: قواعد تشغيل الحساب الجاري.

المبحث الأول : ماهية الحساب الجاري

بالرجوع إلى التطور التاريخي لعقد الحساب الجاري نجد انه لم يكن معروفا في القانون الروماني القديم، بل كان وليد العرف في القرن الثاني عشر، حيث ظهر في المدن الإيطالية الكبرى نتيجة للتعامل بين التجار أو بينهم وبين المصارف، وهكذا ظلت الأعراف والآراء الفقهية في ترسخها وتوطيدها، إلى أن تسنى لها أن تطرق باب التشريع وتتخذ لها مكانا فيه، وبعد أن اتخذ الحساب الجاري مكانا له في بعض التشريعات التي تطرقت له بالتنظيم والتعريف هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن هذه التعاريف جميعها تدور حول خصائص رئيسية متشابهة.

وبالرجوع إلى عقد الحساب الجاري نجد أنه يقوم على أساس اتفاق أطرافه، والذي من خلاله – الاتفاق – يتم تحديد ماهيته وشروطه، هذا بالإضافة إلى ارتكازه على عنصرين أساسيين وهما العنصر الإرادي والمادي، ومن هذا يتبين لنا أن هذا المبحث سنتطرق فيه لتعريف وخصائص الحساب الجاري (المطلب الأول)، ولعناصر الحساب الجاري (المطلب الثاني).

المطلب الأول : تعريف وخصائص الحساب الجاري

لقد كثرت تعار يف الحساب الجاري، وإن كانت جميعها تدور ضمن خصائص رئيسية متشابهة، إذن وتقسيما لهذا المطلب سنعمل على تناول تعريف الحساب الجاري في الفقرة الأولى بينما نخصص الفقرة الثانية لخصائص الحساب الجاري.

الفقرة الأولى : تعريف الحساب الجاري

تجدر الإشارة إلى أن للحساب الجاري مفهوم تقليدي وآخر حديث، فبخصوص المفهوم التقليدي فقد عرفه البعض بأنه اتفاق على تأجيل تسوية الحقوق والديون المتبادلة إلى تاريخ معين هو تاريخ قفل الحساب الجاري وتصفيته النهائية[6]. وبالموازاة مع المفهوم التقليدي ظهر مفهوم حديث للحساب الجاري حيث يضطلع بوظيفة جديدة ألا وهي وظيفة الضمان فبالإضافة إلى اعتباره وسيلة لتسوية المعاملات يعتبر أداة ضمان حيث يلتزم الطرفان بإدخال جميع الديون والحقوق بشكل متبادل وينتج عن ذلك أن مفردات الحساب تضمن بعضها البعض بشكل تبادلي[7].

وبالرجوع إلى التشريع المغربي نجد على أن الفقه انقسم إلى قسمين، حيث يذهب الاتجاه الأول إلى أن المشرع المغربي يأخذ بالمفهوم الحديث للحساب الجاري، هذا اعتمادا على مقتضيات المادة 493 من م.ت[8]، بينما يذهب اتجاه ثاني إلى القول بأن المشرع المغربي لم ينظم الحساب الجاري إذ أن الحساب بالإطلاع هو صورة مهذبة وملطفة لحساب الودائع إذ أن المشرع تارة يشير إلى بعض القواعد المنظمة للحساب الجاري وتارة يتجاهلها

وفي هذه المرحلة من البحث يثار تساؤل وهو هل الحساب بالاطلاع هو نفسه الحساب الجاري؟ ولعل هذا التساؤل راجع إلى تقسيم المشرع المغربي الحساب البنكي في المادة 487[9] م.ت إلى حساب بالإطلاع وحساب لأجل.

بخصوص هذا التساؤل نجد على أن أغلبية الفقه تنادي بان ما قصده المشرع من عبارة الحساب بالإطلاع هو نفسه الحساب الجاري.

وبالرجوع إلى إجراء مقارنة بسيطة بين مفهوم الحساب الجاري ومفهوم الحساب بالإطلاع يتضح لنا أن الحساب الجاري هو عقد بين شخصين بغض النظر عن طبيعتهما وما إذا كان أحد طرفيه بنكا أو شخصا طبيعيا أو اعتباريا يزاول أعمالا مدنية أو تجارية، بينما الحساب بالإطلاع هو عقد بين البنك وزبونه، أي انه لا مجال للحديث عن الحساب بالإطلاع إلا إذا كان أحد طرفيه مؤسسة بنكية، مما يسمح لنا بالقول بأن الحساب بالإطلاع ما هو إلا صورة من الحساب الجاري أو بعبارة أخرى حساب جاري بنكي.

وباعتبار الحساب بالإطلاع صورة من صور الحساب الجاري بصفة عامة، فهو يخضع لنفس الأحكام والقواعد سواء منها النظرية أو التشريعية التي يخضع لها هذا الأخير، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحساب بالإطلاع حيث ينفرد بقواعد خاصة نظمها المشرع المغربي ضمن مقتضيات مدونة التجارة[10].

ومن بين التعاريف التي يمكن إدراجها هنا ما جاء به المشرع السوري في القانون التجاري الذي يقول بأنه “يراد بعقد الحساب الجاري الاتفاق الحاصل بين شخصين على أن ما يسلمه كل منهما للآخر بدفعات مختلفة من نقود و أموال وسندات تجارية قابلة للتمليك يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع ودينا على القابض دون أن يكون لأي منهما حق مطالبة الآخر بما سلمه له لكل دفعة على حدى بحيث يصبح الرصيد النهائي وحده عند إقفال هذا الحساب دينا مستحقا ومهيأ للأداء”[11].

الفقرة الثانية: خصائص الحساب الجاري

يتميز الحساب الجاري بعدة خصائص تجعل منه مؤسسة ذات طبيعة خاصة:

1- الحساب الجاري عقد رضائي ملزم لجانبين:

اعتبرت المادة 493 من مدونة التجارة أن: “الحساب بالإطلاع عقد يتفق بمقتضاه البنك مع زبونه على تقييد ديونهما المتبادلة… وعليه فإن عقد الحساب الجاري يتم بمجرد اتفاق الطرفين، والذي قد يكون صريحا أو ضمنيا.

والحساب الجاري يكون ملزما لطرفيه بمجرد انعقاده ويرتب آثارا بالنسبة لكل منهما، ومن الناحية المبدئية فإن صفة الرضائية تقتضي أن يكون للطرفين كامل الحرية في تحديد الآثار الخاصة بالحساب، إلا أن خصوصية الحساب الجاري تفرض أن تتجه إرادة الأطراف إلى اتخاذ الحساب كوسيلة لتسوية معاملاتهما، وبعبارة أوضح، وطبقا لمفهوم النظرية الحديثة، يقتضي أن ينصب الرضي على فكرتي التسوية والضمان[12].

2- الحساب الجاري يقوم على الاعتبار الشخصي:

تبقى شخصية كل طرف في عقد فتح الحساب الجاري محل اعتبار، ذلك أن الاعتبار الشخصي قائم بمقتضى هذه العلاقة التبادلية من العمليات المستمرة التي ارتضا الطرفان ادخالها في الحساب الجاري[13]، في الواقع يمكن القول أن الاعتبار الشخصي هو السبب الدافع لكل من الطرفين لإبرام عقد الحساب الجاري، باعتبار آثاره تتضمن مخاطرة لا يقبل عليها الطرفان إلا إذا توافرت بينهما ثقة كافية، فهذه الآثار تجعل كلا منهما يعطي شيئا مؤكدا مقابل شيء غير مؤكد، إذ يرتضي انقضاء الحق المستقل الناشئ عن العملية الأصلية في مقابل مجرد قيد في الحساب[14].

والاعتبار الشخصي في عقد الحساب الجاري يتجاوز العلاقة بين البنك والزبون، بحيث أدخلت محكمة النقض الفرنسية مبدأ هام في قرار أصدرته في 28 نوفبر 1960، حيث رتبت مسؤولية البنك في مواجهة الغير بسبب قبوله فتح حساب بالإطلاع لأحد العملاء رغم سبق شهر إفلاسه مما خلق له جوا من الثقة مكنه من مواصلة حياته التجارية وبالتالي من مضاعفة حجم ديونه، وكانت محكمة الاستئناف قد رفضت مسؤولية البنك على أساس انتفاء الغش من جانبه، لكن محكمة النقض نقضت هذا القرار وقررت أن الأمر يجب ألا يقتصر على بحث الغش وإنما يمتد إلى بحث الخطأ بصفة عامة، متى ثبت خطأ البنك في قبول فتح الحساب بالإطلاع ترتبت مسؤوليته في مواجهة الغير بغض النظر عن طبيعة الخطأ المرتكب[15].

3- عقد الحساب الجاري عقد غير تابع:

يذهب بعض الفقهاء إلى أن عقد الحساب الجاري هو عقد تبعي، ذلك أن الحساب يفترض وجود عمليات سابقة وأن الرابطة لا تنقطع تماما بين القيد الذي يدرج في الحساب وبين العملية التي أدت إليه، والعقد التابع هو العقد الذي يتبع العقد الأصلي في الوجود والعدم والصحة والبطلان والانقضاء.

ولكن بالنظر لعقد الحساب الجاري فهو ليس عقدا تابعا بهذا المعنى، بل هو عقد أصلي ولا تتوقف صحته وآثاره على عقد آخر، وإنما يرتبط بتبعية العمليات التي تقيد فيه لتندمج فيه وتفقد ضماناتها وصفاتها، لتكسب ضماناته وتصبح تجارية إذا كان تجاريا وتتقادم بتقادمه ولو كان لها تقادم خاص، وتتأتى بغية هذه العمليات بدخولها في الحساب ويفقد فيه ذاتيته، فيصبح تحريكه واستمراره رهينا باستمرار المعاملات المالية بين طرفي الحساب[16].

مقال قد يهمك :   التلبس في الجريمة المعلوماتية

4- الحساب الجاري عقد زمني:

يعد الزمن عنصرا جوهريا في الحساب بالإطلاع على اعتبار أنه عقد يبرم من أجل تسوية الديون المتبادلة الحالية والمستقبلية، مما يعني انه قد يظل ملزما لطرفيه مدة معينة أو غير معينة قد تطول وقد تقصر[17] ويحق لكل منهما الحق في إنهاء العقد بإرادته المنفردة شريطة التزامه بإخطار الطرف الآخر حتى لا يكون تحت طائلة الانتهاء المفاجئ المضر.

المطلب الثاني: عناصر عقد الحساب الجاري

إن عقد الحساب الجاري، باعتباره عقدا له أسسه وميزاته الخاصة يجب ان يتم على أساس اتفاق بين طرفيه يحدد ماهيته وشروطه، إضافة إلى العناصر المادية الملازمة لوجوده، والتي تتألف من المدفوعات المتبادلة المتشابكة التي تصدر عن كل من طرفي الحساب، وبذلك يقوم عقد الحساب الجاري على عنصرين أساسيين: احدهما إرادي،(الفقرة الأولى) والآخر مادي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى:العنصر الإرادي

يقوم العنصر الإرادي على اتفاق الطرفين، الذي يحدد ماهية الحساب وشروطه الخاصة، حيث يستلزم الشروط الأساسية لصحة العقد المتعلقة بالرضى والأهلية والموضوع والسبب، وفي ظل ما سبق عرف الأستاذ إلياس ناصف العنصر الإرادي بانه”اتفاق الطرفين الذي يحدد ماهية الحساب وشروطه الخاصة وفقا لما درج عليه التعامل والعرف” ويتبين لنا من خلال هذا التعريف أن العنصر الإرادي هو الاشتغال بالحساب الجاري والقبول بكل آثاره الخاصة التي أقرها العرف البنكي ودعمها العمل القضائي، خاصة الأثر المتعلق باتجاه الإرادتين إلى التسوية الجماعية بدل التسوية الفردية لكل عملية على حدة.

وفي ضوء أهمية العنصر الإرادي في الحساب الجاري فقد أكد القضاء الفرنسي هذه المسألة وذلك في قرار لمحكمة الاستئناف بباريس حيث أشارت إلى أن الحساب ذو صفة استثنائية ولا يمكن بالتالي أن يستنتج من حسابات إيداع النقود أو حسابات التسليف، حيث تسجل العمليات في فرع المطالب أو الموجودات عند إجراءها[18].

ونفهم مما تقدم أن محتوى العنصر الإرادي يتعلق بالهدف الذي يبتغيه الطرفان من الحساب بالإطلاع، وذلك بغرض تنظيم وتسوية ديونهما، حيث يكون من المنتظر أن يختفي الدين، عند دخوله الحساب بكل المميزات والخصائص الأصلية العالقة به، من أجل أن يمتزج الدين في الرصيد كل لحظة يتكون فيها الرصيد الذي يكون مستحق الأداء[19]، ويذهب بعض الفقه إلى أن العنصر الإرادي يجب أن يكون مطابقا للمفهوم الحديث للحساب الجاري، وذلك بأن يعكس الإرادة لتحقيق الغاية الأساسية لهذا الحساب كوسيلة للتسوية وأداة للضمان، وبذلك فالقاضي لكي يقبل بكون العلاقة الرابطة بين الطرفين هي حساب جاري يجب ان يتأكد من أن نية الطرفين قد اتجهت إلى تسوية جميع ديونهما عن طريق إدماجها في رصيد يكون مستحق الأداء فورا واستبعاد الأداء المستقبلي، بالإضافة إلى تخصيص مجموع أو بعض ديونهم في الحساب الجاري.

وتكون هذه النية أو الإرادة واضحة بشكل جلي عندما يتم تسطير محتواها داخل اتفاقية الحساب الجاري، في شكل بنود متفق عليها بين طرفيه تحدد قواعد الاشتغال بهذا العقد، وتلزم الطرفين باحترامها بهدف تحقيق تسوية سريعة للمعاملات المتبادلة بينهما، ولكي يحقق الحساب الجاري الهدف المتوخى منه يتعين أن يتميز العنصر الإرادي بالاستمرارية، بمعنى أن خاصية الاستمرارية يجب أن ترافق إرادة الطرفين طيلة اشتغال الحساب، مع القبول بكل الآثار والمرتكزات الخاصة لهذا العقد من عمومية وتجديد وعدم تجزئة مفردات الحساب[20].

الفقرة الثانية: العنصر المادي

يتكون العنصر المادي للحساب الجاري من الدفعات المتبادلة التي تغذي الحساب الجاري القائم بينهما، وتعتبر الأحكام المتعلقة بالدفعات أحكاما قانونية يجب توافرها، بصرف النظر عن إرادة الطرفين المتعاقدين، وتختلف الدفعات باختلاف مصادرها، فقد تكون مادية عندما تكون مبلغا من النقود يمثل ثمن البيع، أو قرضا أو كمية من البضائع. وقد تكون قانونية عندما ينشأ للمسلم دين على المتسلم مثلا عن أعمال الوكالة أو الوساطة….[21] إذن فالمدفوعات هي روح الحساب ومنها تتكون مفرداته[22]. وتكتسي هذه المدفوعات أهمية خاصة بالنسبة لوظيفة الحساب الجاري، لان الرغبة المشتركة لطرفيه في التسوية السريعة للمعاملات المسترسلة والمتبادلة بينهما تقتضي إدخال نتيجة هذه العمليات في نطاق الحساب الجاري وهو ما يسمى بالدفع في الحساب.

ودراسة العنصر المادي للحساب الجاري تعني دراسة الدفعات ومعرفة خصائصها وصفاتها المميزة، وتبادلها وتشابكها.

إن من أجل قيد الدفعات في الحساب الجاري، واعتبارها بندا من بنوده يجب أن تتميز بمجموعة من الصفات، هي انه يجب أن تكون من الأشياء المثلية، وتأتي هذه الصفة أساسا لتحقيق الاندماج بين هذه المدفوعات، لأنه يتيح فرصة تسوية المعاملات بين الطرفيين عن طريق المقاصة، لأن الأموال المثلية وحدها تقبل المقاصة فيما بينها خلافا للأشياء القيمية[23]. إذ لا تكون الدفعات قابلة للتحويل إلى بنود بسيطة دائنة أو مدينة، …. وتكون الدفعات قابلة للتحويل إلى بنود إما بطبيعتها، كأن يكون موضوعها مثلا مبلغا من النقود وإما باتفاق الطرفين كأن تكون من البضائع شرط أن يتفق الطرفين على تحديد قيمتها نقدا، ومن الجائز أن يتم الاتفاق بين تاجرين يتعاملان ببضائع من ذات الصنف كالقمح مثلا على تشغيل حساب جاري بالبضائع التي يتبادلانها[24]. هذا بالإضافة إلى انه يجب أن يتم تسليم الدفعة على سبيل التمليك حيث انه لا تقيد الدفعة في الحساب الجاري، إلا إذا كان قد تم تسليمها من الدافع إلى القابض على سبيل التمليك، وعليه فإن كل تقييد لدين في الحساب الجاري يفترض فيه انه قد أخرج هذا الدين من ذمة أحد الطرفين وأدخله في ذمة الطرف الآخر.

ولكن إذا كان التمليك شرطا لقيد الدفعة في الحساب الجاري، فإن طرق انتقال الملكية تختلف باختلاف ماهية الدفعة، فإذا كانت مبلغا من النقود، انتقلت ملكيتها بمجرد تسليمها بقصد قيد قيمتها في الحساب، وإذا كانت من الأشياء المثلية، تنتقل ملكيتها بإيداعها لدى الوديع الذي يلتزم برد ما يعادلها بذات المقدار والنوع[25].

ويرى بعض الباحثين أن ملكية المدفوع لا تنتقل من الدافع إلى القابض بمجرد قيده في الحساب لأن ذلك لا يعد أثرا لقيده بالحساب، وإنما ينبغي التفرقة بين العملية الناشئ عنها الحق الذي يقيد في الحساب وبين عقد الحساب الجاري ذاته، فإذا كان المدفوع ورقة تجارية ينبغي التمييز بين عقد تظهيرها وآثارها وبين الاتفاق على إدخال هذا المدفوع في الحساب الجاري، فانتقال ملكية الورقة من الدافع إلى القابض لا ينتج من قيد قيمتها بالحساب وإنما ينتج من تظهير الورقة من الدافع إلى القابض تظهيرا ناقلا للملكية[26].

هذا كله بالإضافة إلى انه يجب أن تكون المدفوعات مؤكدة أي أن تكون الدفعات ناتجة عن ديون أكيدة بمعنى انه يجب أن يكون دين المسلم على المستلم نهائيا غير منازع فيه أو معلقا على شرط واقف، أما ادا كان الدين موضوع منازعة أو معلقا على شرط واقف، فلا يجوز إدخاله بشكل دفعة في الحساب الجاري أما الدين المعلق على شرط فاسخ، فيجوز إدراجه كدفعة في الحساب الجاري، لأنه يبقى دينا أكيدا ما دام أن الشرط لم يتحقق. أما إذا تحقق الشرط فيلغى الدين وبالتالي يلغى القيد المختص به ويتم ذلك بإجراء قيد عكسي[27].

هدا من جهة ومن جهة اخرى فسنتناول تبادل وتشابك والتي تشترط لتحقق وجود الحساب الجاري، حيث يعني تبادل الدفعات أن يقوم كل من طرفي الحساب الجاري بدور القابض أحيانا، ودور الدافع أحيانا، وهو نفس الأمر الذي أشارت إليه المادة 298 من القانون التجاري المصري، وقد أقر القضاء الفرنسي بشرط التبادل حيث ذهبت محكمة النقض إلى أن قيد البنك لعمولته في الحساب الجاري كدين كافي لإقرار وجود شرط التبادل[28].

أما تشابك الدفعات فيعني أن تكون متتالية بين الطرفين أي أن تتخلل الديون بعضها البعض و أن تتم الدفعة من احد الطرفين، ثم من الطرف الآخر وكدا من الطرف الأول، وبعد دلك من الطرف الثاني وهكذا، ولا يكون الحساب جاريا إذا اشترط الطرفان أن لا تبدأ دفعات احدهما إلا بعد انتهاء دفعات الآخر، لأن في هذه الحالة يكون للدفعات الأخيرة طابع إبفاء الدفعات الأولى دون أن يتحقق وجود الحساب الجاري[29]. والتساؤل الذي يطرح في هذا المقام هو إلى أي مدى يمكن اعتبار شرط التشابك ضروري لوجود الحساب الجاري؟

جوابا على هذا التساؤل نجد على أن بعض الفقه يذهب إلى أن هذا الشرط ليس ضروريا لتحقيق الحساب الجاري وان شرط التبادل يغني عنه، بينما يذهب الفقيه هامل ومن في فلكه إلى ضرورة تشابك الدفعات، وهو نفس الطرح الذي يدافع عنه الفقيه علي البارودي بقوله: “ونحن نعتقد – على خلاف هؤلاء المعترضين – أنه لابد من إمكان تشابك المدفوعات في الحساب الجاري، إذ أن تبادل المدفوعات وتشابكها أمران يرتبطان أشد الارتباط بجوهر الحساب الجاري، بحيث لا يمكن أن يعتبر كذلك إذا تخلف أحدهما، ولا ريب في أن الفقيه هامل عندما تكلم عن هذا التشابك لم يضف هذا الشرط من ذاته حيث لم يكن موجودا من قبل وإنما هو أبرزه وألقى عليه الضوء”[30].

ونحن نعتقد أن شرط التشابك ضروري لوجود الحساب الجاري لأنه في حالة غيابه لا تعدو أن تكون المدفوعات الأخيرة سوى وفاء للديون الأولى ومن ثم لا يتحقق وجود الحساب الجاري.

المبحث الثاني: قواعد تشغيل الحساب الجاري.

يترتب على الحساب الجاري آثار معينة، تتمثل في اتخاذ كل من الطرفين من أطراف الحساب الجاري صفة الدافع وصفة القابض وهو ما يعبر عنه بقاعدة تبادل المدفوعات، هذا إلى جانب كون الدين المدفوع يتحول إلى مجرد مفرد في الحساب يفقد معه كل ضمانة . وتعرف هذه القاعدة بفكرة التجديد.

وبالإضافة إلى قاعدتي تبادل المدفوعات وقاعدة التجديد هناك قواعد أخرى لتشغيل الحساب الجاري وتتمثل في عدم تجزئة مفردات الحساب، وقاعدتي عمومية الحساب ورسملة الفوائد.

ومن أجل التطرق إلى كل هذه القواعد، ارتأينا تناول قاعدتي تبادل المدفوعات والتجديد في المطلب الأول، ثم التطرق إلى باقي القواعد في المطلب الثاني.

المطلب الأول: قاعدتي تبادل المدفوعات والتجديد

يقوم الحساب الجاري على مجموعة من القواعد وتعد قاعدتي تبادل المدفوعات والتجديد من ضمن قواعد تشغيل هذا الحساب ولهذا سنتطرق في الفقرة الأولى لقاعدة تبادل المدفوعات، ثم إلى قاعدة التجديد في الفقرة الثانية.

مقال قد يهمك :   الجامعي لحكيم وردي : إلى نابليون الدار البيضاء الحَق في الدفَاع ليسَ منحَة من أحد...

الفقرة الأولى: تبادل المدفوعات

تعتبر قاعدة تبادل المدفوعات من أهم القواعد التي يرتكز عليها الحساب الجاري، بحيث أن كل من الطرفين يأخذ صفة الدافع وصفة القابض على اعتبار أنه لا يمكن تصور حساب جاري في حالة وجود دفع من طرف واحد، ويعد هذا الشرط كذلك من العناصر المميزة للحساب الجاري عن الحساب العادي أو البسيط، لذا لا يجوز الاتفاق على أن يكون أحد طرفي هذا الحساب دافعا طوال مدة سريان الحساب الجاري، ويكون الطرف الآخر قابضا فقط، وشرط تبادل الديون لا يحتم استمرارية وعدم انقطاعه من الطرفين بل يمكن الاكتفاء بإمكانية التبادل وعدم استبعاده باتفاق صريح أو ضمني[31].

ويعد تبادل الديون شرطا أساسيا لاعتبار الحساب البنكي حسابا بالإطلاع في مدلول المادة 493 من مدونة التجارة التي تنص على أنه عقد بمقتضاه يتفق البنك مع زبونه على تقييد ديونهما المتبادلة في كشف وحيد.

وبالرجوع إلى المادة 495 من مدونة التجارة فقد تجاوز وتناسى هذه القاعدة من خلال نصه أن الفوائد تسري لفائدة البنك بقوة القانون وتجاهل الزبون أي نكون أمام حساب جاري مكشوف من جانب واحد.

والتبادل كشرط يتعلق بمصدر الديون أو المدفوعات ولا يخص الوضع المادي للحساب ومن هذا المنطلق جاء الفقه بالتفرقة بين الحساب المكشوف من جهة واحدة والحساب المكشوف من جهتين[32]

فشرط تبادل الديون يعتبر قائما في كلتا صورتي الحساب المذكورتين مادام أن كل واحد من الطرفين يقوم أحيانا بدور القابض وأحيانا بدور الدافع، وكل ما هنالك انه لا يمكن في حالة الحساب الجاري المكشوف من جانب المؤسسة البنكية فقط أن يسفر الرصيد المؤقت أو النهائي إلا عن مديونية هذه المؤسسة وحدها. أما في حالة الحساب الجاري المكشوف من الجانبين أي البنك والزبون معا، فإن المديونية والحالة هذه يمكن أن تكون من نصيب أي واحد من الطرفين.

والحساب الجاري بين شخصين ليس لأي منهما صفة بنك يكون طيلة مدة تشغيل هذا الحساب في مركز القابض أحيانا وفي مركز الدافع أحيانا أخرى، شأنه في ذلك شأن كلا طرفي الحساب بالإطلاع على نحو ما سقناه آنفا، فإن ذلك لا يصح اعتماده للقول بوجود شرط التبادل في الحساب الجاري المعني بالأمر إذا لم تكن الفرصة مفتوحة أمام طرفيه معا ليكون كل منهما إما في وضعية دائنة أو مدينة تجاه الآخر[33].

وفي الأخير يثار التساؤل عن الوقت الذي يدخل فيه المدفوع إلى الحساب؟

للإجابة عن هذا التساؤل انقسم الفقه بخصوصه إلى رأيين:

الرأي الأول : يرى أن المدفوع يدخل في الحساب من يوم قيده وأن الحساب الجاري بصفة عامة وان كان عقدا رضائيا، إلا أن الرضا العام، لإبرام اتفاق الحساب لا يكفي بل من اللازم أن يتم اتفاق الطرفين على دخول كل مدفوع بداية في الحساب وبمناسبة كل مدفوع على حدى، وأن القيد في الحساب هو التعبير الضروري لهذا الاتفاق.

أما الرأي الثاني و هو الصائب فإنه يرى بأن المدفوع يدخل في الحساب بمجرد توافر الشروط اللازمة في المدفوعات، حتى ولم تكن هذه المدفوعات قد قيدت في الحساب في ذلك الوقت، لان عملية قيد المدفوعات ليست في الواقع سوى المظهر المادي لتنفيذ الاتفاق على إدراج الديون التي تنشأ بينهما في الحساب[34].

الفقرة الثانية: قاعدة التجديد

إن تحديد المقصود بالتجديد، كأثر من آثار دخول الديون المتبادلة في الحساب الجاري يقتضي الرجوع إلى قانون الالتزامات والعقود المغربي[35]، ولاسيما المادة 347 منه التي تنص في هذا الإطار على أنه: “التجديد انقضاء التزام مقابل إنشاء التزام جديد يحل محله. والتجديد لا يفترض، بل يجب التصريح الرغبة في إجرائه”.

ويفهم من هذه المادة أن التجديد كصورة من صور انقضاء الالتزام بصفة عامة لا يفترض وإنما يقتضي الاتفاق عليه بين الأطراف المعنية بالأمر، إلا أنه خلافا لهذه القاعدة نجد التجديد المترتب على تقييد الديون في الحساب بالإطلاع مفروض بقوة القانون[36].

ويفيد التجديد في هذا الحساب بان المدفوعات الملقاة في إطار الحساب بالإطلاع تتحول إلى مجرد بنود حسابية، بحيث أن الدين الأصلي يتغير ويفقد وجوده القانوني واستقلاله الذاتي وضماناته العالقة به، لان عدم قابلية الحساب بالإطلاع للتجزئة ترجع إلى طبيعة هذا الحساب، وليس إلى الاتفاق الذي أبرمه أطراف العلاقة، وهو ما نصت عليها المادة 498 من مدونة التجارة[37].

ويفيد هذا النص فيما معناه انه بمجرد دخول الدين المدفوع في الحساب بالإطلاع فإنه يصير بندا فيه، وبعبارة أخرى فإن الدين تزول عنه صفة الاستقلالية ويفقد ذاتيته وصفاته الخاصة ليصبح مجرد عنصر في الحساب[38].

مما يعني انه يجب تكييف هذا التجديد مع طبيعة عقد الحسابات بالإطلاع، وذلك بتجريد المدفوع من صفته السابقة لكي يندمج ضمن مفردات الحساب، بالإطلاع لأن كل دين يدخل الحساب ينقضي بعد تحوله بواسطة التجديد إلى مفرد محاسبي[39].

وقد أثارت قاعدة تحويل الديون هذه العديد من التفسيرات، فذهب البعض إلى أن الصورة الجديدة التي يصبح عليه الدين المقدم كمدفوع كما هي إلى تطبيق لقاعدة المقاصة بحيث ينقضي كل دين يقيد في أحد جانبي الحساب الجاري عن طريق المقاصة مع الديون الأخرى المقيدة في الجانب الآخر من نفس الحساب[40].

في حين يذهب اتجاه آخر إلى أن أساس انقضاء الدين الأصلي وحلول مفرد حسابي محله هو أن لدفع في الحساب يساوي الوفاء لكن كنتيجة للتجديد[41]. بمعنى أن تقييد الديون في هذا الحساب يساوي وفاءها بواسطة تقنية خاصة اختارها الطرفان مسبقا عند إبرام عقد فتح الحساب بالإطلاع، وتتمثل هذه التقنية في كون كل دين يدخل في حساب يندمج بطريقة متتالية في رصيد واحد يكون أحيانا دائنا وأحيانا مدينا بالنسبة لكل واحد من الطرفين في مواجهة الطرف الآخر[42].

وتجد هذه النظرية أساسها ومصدرها في قرار لمحكمة النقض الفرنسية صادر في يناير 1955 الذي اعتبرت فيه الدفع في الحساب الجاري يساوي الوفاء.

كان هذا معارضي فكرة التجديد أما أنصارها فيرون بان هذا المبدأ مستقر ولا عيب فيه، وأن آثراه تفسرها العادات التجارية وإرادة الطرفين وهو ما يفسر انقضاء تأمينات الدين؟ وللأطراف إذا أرادوا الإبقاء على الدين خارج الحساب الجاري أن يتفقوا على نقل التأمينات المتعلقة بالدين إلى الرصيد الذي ينشأ مستقبلا[43].

المطلب الثاني: القواعد الأخرى لتشغيل الحساب الجاري

يتميز الحساب الجاري بمجموعة من القواعد أثناء فتحه، فبالإضافة إلى قاعدتي تبادل المدفوعات، وقاعدة التجديد، هناك قواعد أخرى لتشغيل الحساب الجاري، وهي قاعدة عدم تجزية مفردات الحساب (فقرة أولى) ويعتبر مبدأ عدم التجزئة من المبادئ التي استقر عليها القضاء الذي بين الدور الرائد الذي يحظى به في مجال تحقيق التسوية في المعاملات المتبادلة بين الطرفين، كما أن هناك قاعدي عمومية الحساب ورسملة الفوائد لتشغيل الحساب الجاري (فقرة ثانية).

الفقرة الأولى: قاعدة عدم تجزئة المفردات

ترتبط هذه القاعدة بقاعدة التجديد في الحساب الجاري، بمعنى أن الديون التي تدخل في الحساب تتحول إلى بنود أو مفردات تندمج في كتلة لا تقبل الانقسام ولا التجزئة، بحيث لا يمكن اعتبار أحد الطرفين دائنا أو مدينا للطرف الآخر مادام الحساب مفتوحا، وقد سارت محكمة النقض الفرنسية في هذا التوجه حيث قضت بأن عمليات الحساب الجاري تتابع إلى حين قفله وأن المفردات التي تقيد في الحساب تتماسك بكيفية غير قابلة للتجزئة[44].

وحسب النظرية التقليدية فان الحساب الذي مازال مفتوحا بين الطرفين وفي حالة حركة فلا وجود لدائن أو مدين، وبذلك لا يمكن القول أن هناك دين أو حق لأنه لا توجد سوى مفردات مسجلة في جانب الدائنية أو المديونية، ويظل الحال كذلك حتى حين وقف تسوية الحساب واستخراج الرصيد، فيتضح عندئذ مركز كل من الطرفين إزاء الآخر[45].

ويجمع الفقه التقليدي على تماسك المفردات فيما بينها داخل الحساب الجاري، وعدم جواز استخراج أي مفرد على انفراد مما لا يسمح بمعرفة الطرف الدائن من الطرف المدين حيث انه طيلة اشتغال هذا الحساب لا دائن ولا مدين إلى حين إقفاله واستخراج الرصيد النهائي الذي على ضوئه تتحدد وصفة الدائنية والمديونية بالنسبة لطرفين.

وقد صدرت عدة أحكام وقرارات قضائية في هذا الاتجاه منها قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 24/6/1903 الذي قضت فيه بأن “كفالة الالتزامات الناشئة عن الحساب الجاري هي كفالة لدين مشتغل لا يتعين مقدراه إلا عند قفل الحساب وتصفيته واستخراج الرصيد النهائي[46].

وتجدر الإشارة انه من الآثار الهامة التي تميز الحساب الجاري عن الحساب العادي، هو ما كان يتفق عليه الأفراد من أن ترتبط المفردات الحسابية الدائنة مع المفردات المدينية في صورة موحدة، ويظل هذا التماسك إلى وقت قفل الحساب، فلا يجوز استخراج مفرد منها قبل قفله، ويطلق على هذا التماسك بعدم تجزئة المفردات (Indivisibilité).

أما بالنسبة للحسابات العادية فان المودع مثلا يستطيع أن يسحب منها (من الوديعة) في أي وقت خلال سريان الحساب، حيث أنه في حساب الوديعة تعتبر كل عملية إيداع أو سحب مستقلة عن الأخرى من الناحية القانونية، فلا يلحقها أي تغيير بدخولها في الحساب[47].

وقد ميز الفقه الفرنسي بين الحساب الجاري كظاهرة قانونية، وبين كثير من الحسابات العادية على اعتبار أن المدفوعات تقدم في هذه الحسابات لغرض معين متفق عليه بين طرف الحساب (الشراء مثلا). وان المدفوعات تقدم في الحساب الجاري، بغير تخصيص معين، إذ يلتزم القابض بأن يقدم إلى الدافع دائنية تقابل قيمة المدفوع. أي أن ملكية المدفوع تنتقل من الدافع إلى القابض تم تسوى كل المدفوعات المقيدة بالحساب إجمالا عند قفله[48].

وقد ذهب البعض إلى القول بأن الوقف المؤقت للحساب دليل على تحقق عدم تجزئة المفردات التي تتفق تماما مع إرادة المتعاقدين وترتضيها طبيعة العقد، لان الرصيد المؤقت هو ناتج عن اندماج المفردات المقيدة بالحساب ويقيد من جديد في الحساب، ولهذا أصبح من الضروري تجاوز المفهوم التقليدي لمبدأ عدم تجزئة مفردات الحساب الجاري من خلال ظهور المفهوم الحديث لعدم تجزئة مفردات الحساب الجاري فإذا كان المفهوم التقليدي لا يعترف بوجود دائن أو مدين خلال اشتغال هذا الحساب إلى حين الإقفال النهائي لفتح الحساب الجاري من أجل تحديد هذه الصفة من خلال الرصيد النهائي، فان المفهوم الحديث على عكس ذلك يقضي بإمكانية تحديد هذه الصفة قبل الإقفال النهائي، وذلك من خلال الدين الذي يسفر عليه الرصيد المؤقت الذي يظهر مبدئيا في كل لحظة بفعل المقاصة السريعة المتتالية وكذا الرصيد المؤقت الذي ينتج عن الوقوف للحساب الجاري[49].

مقال قد يهمك :   وجدة: أول دورة لإعداد المحكمين العرب الدوليين تحت عنوان "فنون ومهارات التحكيم"

الفقرة الثانية: قاعدتي عمومية الحساب ورسملة الفوائد لتشغيل الحساب الجاري

إن الغرض من الحساب الجاري هو تسوية الديون الناتجة عن عمليات الطرفين، والأصل هو عمومية الحساب بحيث يشمل كل ديون الطرفين كما يشكل استحقاق الفوائد من أهم النتائج التي تترتب على نشوء رصيد جديد مؤقت عند دخول كل دين في الحساب الجاري .

أولا: قاعدة عمومية الحساب

يقوم مبدأ عمومية الحساب على ثلاث أفكار أساسية وهي:

أ- حرية الأطراف في تحديد الديون التي تدخل الحساب، ذلك أن لهم أن يتفقوا على أن الحساب يشمل جميع الديون الناشئة عن جميع عملياتهم أو أن يجعلوا اتفاقهم قاصرا على بعض الديون المعنية في هذه الحالة الأخيرة لا يشترط أن يحدد كل دين بصفة مفردة بل يمكن أن يتم الاقتصار على ذكر طبيعتها[50].

ب- قاعدة العمومية، وهي قاعدة تفرض بأن كل الديون تدخل الحساب، غير أن الديون ينبغي أن تكون قاصرة على الديون الناجمة عن علاقات الأعمال، وبذلك تستثنى الديون الناشئة عن العلاقات العائلية وتلك الناشئة عن الجرائم وأشباه الجرائم، وكذا الديون المضمونة، بتأمينات اتفاقية أو قانونية.

ج- التخصيص الاتفاقي لبعض الديون، حيث يمكن تخصيص بعض الديون لأغراض خاصة وذلك بإرادة الطرفين الصريحة أو الضمنية، كما لو أعطى الزبون إلى البنك مبلغا من المال مخصصا إياه للوفاء بكمبيالة، فإن هذا المبلغ لا يحتسب في الرصيد[51].

ويتجلى موقف المشرع المغربي من مبدأ عمومية الحساب في المادة 494 من مدونة التجارة والتي تنص على ما يلي: “غير أنه يفترض إلا في حالة التنصيص على خلاف ذلك، خارج الحساب.

1- الديون المضمونة بتأمينات اتفاقية أو قانونية.

2- الديون التي لا تنتج عن علاقات الأعمال العادية”.

وإعمال هذه المادة لا يتم إلا في حالة عدم اتفاق الأطراف على تحديد الديون التي تدخل الحساب حيث تفترض هذه المادة عمومية الحساب باستثناءاته المنصوص عليها صراحة في المادة السالفة الذكر، وهي نفس الاستثناءات التي أقرها الفقه وفقا لقاعدة العمومية، ولذلك فإنه حسب المادة 494 من مدونة التجارة فانه في حالة اتفاق الأطراف على الديون التي تدخل الحساب يفترض مبدأ عمومية الحساب، وتستثنى منه الديون المضمونة بتأمينات اتفاقية أو قانونية وكذا الديون التي لا تنتج عن علاقات الأعمال العادية.

ثانيا: سريان الفوائد بقوة القانون لصالح البنك

ينص الفصل 872 من قانون الالتزامات والعقود على أن: “فوائد المبالغ التي تتضمنها الحسابات الجارية تستحق بقوة القانون على من يكون مدينا بها من الطرفين ابتداء من يوم ثبوت تقديمها”.

وتنص الفقرة الأخيرة من المادة 495 من مدونة التجارة على أنه: “تسري الفوائد بقوة القانون لفائدة البنك”.

وبقراءتنا لهذين النصين نلاحظ أن المشرع المغربي قد ميز بين نوعين من الحسابات بخصوص إنتاج الفوائد، الحساب الجاري الذي لا يكون احد طرفيه مؤسسة بنكية حيث تترتب الفوائد بقوة القانون لفائدة من يكون الحساب دائنا لفائدته، والحساب بالإطلاع الذي يرتب فوائد بقوة القانون لفائدة البنك فقط.

ولقد جرى العمل البنكي قبل صدور مدونة التجارة على احتساب الفوائد على رأس كل ثلاثة أشهر لتنضاف إلى رأسمال المنتج للفوائد وذلك مخالفة لأحكام الفصل 873 من ق.ل.ع الذي لا يجيز اعتبارها من الرأسمال المنتج إلى بعد انتهاء كل نصف سنة[52] وهذا العرف البنكي تجسد تشريعيا بمقتضى المادة 497 من مدونة التجارة[53].

وتتطلب رسملة الفوائد توافر مجموعة من الشروط تتمثل أهمها في ضرورة وجود حساب جاري بين الطرفين، أن يكون الحساب في حالة اشتغال، وان يلتزم البنك بالإرسال لكشف الحساب، وكذا رسملة الفوائد التي تتم على أساس الرصيد الموجود يوم إرسال مستخرج من كشف الحساب[54].

أما بخصوص مسألة إثبات الفوائد والعمولات في إطار الحساب الجاري، فقد أشارت المادة 496 من مدونة التجارة إلى أنه: “يبين كشف الحساب بشكل ظاهر سعر الفوائد والعمولات ومبلغها وكيفية احتسابها”.

وبهذا يكون كشف الحساب وسيلة إثبات بين المؤسسة البنكية وزبونها صاحب الحساب بالإطلاع.


لائحة المصادر و المراجع:

الكتب:

– محمد جنكل، العمليات البنكية، الجزء الأول، العمليات البنكية المباشرة، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة البيضاء 2003.- إلياس ناصيف، الكامل في قانون التجارة، عمليات المصارف، الجزء 3، منشورات عويدات بيروت باريس، 1983.

– محمد لفروجي، العقود البنكية بين مدونة التجارة والقانون البنكي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء الطبعة الثانية، 2001.

– علي البارودي ومحمد فريد العريني، القانون التجاري، الجزء الثاني، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 2000.

– علي البارودي، العقود وعمليات البنوك التجارية، منشورات منشأة المعارف بالإسكندرية،

– أحمد محمود جمعة، أحكام الحساب الجاري في قانون التجارة الجديد، منشأة المعارف بالإسكندرية، طبعة 2003

– علي البارودي ومحمد فريد العريني، القانون التجاري، الجزء الثاني، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 2000.

 الرسائل:

– عبد اللطيف شبيب، الجوانب القانونية للحساب الجاري على ضوء القانون المغربي والقانون المقارن، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، جامعة القاضي عياض، كلية الحقوق مراكش، 1993-1994.

– عبد الحق بوكبيش، الحساب بالإطلاع في مدونة التجارة الجديدة، تشغيل وغلق الحساب، رسالة لنيل د.د.ع.م في قانون الأعمال، وحدة ب.ت الضمانات التشريعية في قانون الأعمال المغربي كلية الحقوق وجدة.

المجلات:

– إبراهيم صادوق، خصائص الحساب الجاري أو الشروط القانونية الخاصة به، مجلة المحامي 1993، عدد 22.


الهوامش :

*) عرض أنجز من طرف طلبة ماستر قانون العقود والعقار بكلية الحقوق بوجدة.

 

  1. – محمد جنكل، العمليات البنكية، الجزء الأول، العمليات البنكية المباشرة، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة البيضاء 2003، ص: 7.
  2. – ظهير شريف رقم 1.96.83 صادر في 15 من ربيع الأول 1417 فاتح أغسطس 1996 بتنفيذ القانون رقم 15.95 المتعلق بمدونة التجارة بتاريخ 3 أكتوبر 1996 الجريدة الرسمية عدد 4418، ص: 2187.
  3. – إلياس ناصيف، الكامل في قانون التجارة، عمليات المصارف، الجزء 3، منشورات عويدات بيروت باريس، 1983، ص: 477.
  4. – عبد الحق بوكبيش، الحساب بالإطلاع في مدونة التجارة الجديدة، تشغيل وغلق الحساب، رسالة لنيل د.د.ع.م في قانون الأعمال، وحدة ب.ت الضمانات التشريعية في قانون الأعمال المغربي كلية الحقوق وجدة، ص: 7.
  5. – المادة 728 من القانون التجاري التونسي.
  6. – محمد جنكل، م.س، ص: 21.
  7. – محمد لفروجي، العقود البنكية بين مدونة التجارة والقانون البنكي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء الطبعة الثانية، 2001، ص: 79.
  8. – تنص المادة 493 على أن: “الحساب بالإطلاع عقد بمقتضاه يتفق البنك مع زبونه على تقييد ديونهما المتبادلة في كشف وحيد على شكل أبواب دائنة ومدينة والتي بدمجها يمكن في كل حين استخراج رصيد مؤقت لفائدة أحد الأطراف”.
  9. – تنص المادة 487 على أن: “الحساب البنكي، إما حساب بالإطلاع أو حساب لأجل”.
  10. – محمد جنكل، م.س، ص: 16.
  11. – المادة 393 من القانون التجاري السوري.
  12. – إلياس ناصف: م.س. ص: 500.
  13. – محمد جنكل: العمليات البنكية، م.س.ص :30
  14. – علي البارودي، العقود وعمليات البنوك التجارية، منشورات منشأة المعارف بالإسكندرية، ص: 307.
  15. – على الباروري، م.ص :311
  16. – محمد جنكل، م.س ص :35
  17. – عبد الحق بوكيش، م.س، ص :21
  18. – أورده عبد اللطيف شبيب، الجوانب القانونية للحساب الجاري على ضوء القانون المغربي والقانون المقارن، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، جامعة القاضي عياض، كلية الحقوق مراكش، 1993-1994، ص: 103.
  19. – عبد اللطيف شبيب، م.س، ص: 105.
  20. – كريمة البوحساني، م.س، ص: 14.
  21. – إلياس ناصيف، م.س، ص: 486.
  22. – إبراهيم صادوق، خصائص الحساب الجاري أو الشروط القانونية الخاصة به، مجلة المحامي 1993، عدد 22، ص: 17.
  23. – محمد جنكل، م.س، ص: 46.
  24. – إلياس ناصيف، م.س، ص: 487.
  25. – هامل ولاغارد جوفرية، أورده إلياس ناصيف، م.س، ص: 491.
  26. – أحمد محمود جمعة، أحكام الحساب الجاري في قانون التجارة الجديد، منشأة المعارف بالإسكندرية، طبعة 2003، ص: 70.
  27. – إلياس ناصيف، م.س، ص: 487.
  28. – قرار محكمة النقض الفرنسية، أورده محمد جنكل، م.س، ص: 49.
  29. – إلياس ناصيف، م.س، ص: 494.
  30. – علي البارودي ومحمد فريد العريني، القانون التجاري، الجزء الثاني، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 2000، ص: 336.
  31. – محمد جنكل، المرجع السابق، ص: 47.
  32. – محمد جنكل، المرجع السابق، ص: 48.
  33. – محمد لفروجي، المرجع السابق، ص: 97.
  34. – عبد الحق بوكبش، المرجع السابق، ص: 23.
  35. – محمد لفروجي، م.س، ص: 95.
  36. – كريمة البوحساني، م.س، ص: 44.
  37. – تنص المادة 498 من مدونة التجارة على انه: “تفقد الديون المسجلة في الحساب صفاتها المميزة وذاتيتها الخاصة وتعتبر مؤداة وآنذاك لا يمكنها أن تكون موضوع أداة أو مقاصة أو متابعة أو إحدى طرق التنفيذ أو التقادم بصورة مستقلة.تنقضي الضمانات الشخصية أو العينية المرتبطة المحولة عن الحساب، إلا إذا حولت باتفاق صريح على رصيد الحساب”.
  38. – محمد جنكل، م.س، ص: 56.
  39. – كريمة البوحساني، م.س، ص: 45.
  40. – محمد جنكل، م.س، ص: 56.
  41. – وهذا الرأي أخذ به المشرع المغربي من خلال المادة 498 من مدونة التجارة.
  42. – محمد لفروجي، م.س، ص: 107.
  43. – عبد اللطيف شبيب، م.س، ص: 188.
  44. – أورده محمد جنكل، م.س، ص: 64.
  45. – كريمة البوحساني، م.س، ص: 55.
  46. – Gavalda et stoufflet, op.cit، أوردته الباحثة كريمة البوحساني، م.س، ص: 56.
  47. – أحمد محمود جمعة، م.س، ص: 18.
  48. – أحمد محمود جمعة، نفس المرجع، ص: 75
  49. – كريمة البوحساني، م.س، ص: 59.
  50. – عبد الحق بوكبيش، م.س، ص: 25.
  51. – عبد الحق بوكبيش، م.س، ص: 26.
  52. – عبد الحق بوكبيش، م.س، ص: 46.
  53. – تنص المادة 497 من مدونة التجارة على أنه: “يسجل الرصيد المدين للحساب دين الفائدة للبنك المحصور على ثلاثة أشهر ويساهم احتمالا في تكوين رصيد لفائدة البنك ينتج بدوره فوائد”.
  54. – كريمة البوحساني، م.س، ص: 82.
error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)