مجلة مغرب القانونالمنبر القانونيموقف القضاء الإداري من اللغة العربية في تصرفات الإدارة

موقف القضاء الإداري من اللغة العربية في تصرفات الإدارة

خالد شهيم باحث في القانون

يأتي هذا المقال في إطار التعقيب على ما تفضل به الباحث الأستاذ الجليل عبد الله العلمي  الذي أثارني بحثه الشيق المنشور بإحدى المجلات القانونية، للرد على بعض الجوانب مما يُخَيَّلُ إليَّ أنها لم تكن شافية بما يكفي لإزالة اللبس عن مدى حجية وجوب اللغة العربية  في تصرفات الإدارة المغربية من عدمه .

ففي بداية عرضه اختار الأستاذ الباحث كعنوان : “موقف القضاء الإداري المغربي من عدم استعمال العربية كلغة رسمية للدولة في تصرفات الإدارة”، و هو عنوان يوحي باهتداء القضاء إلى حسم المسألة من خلال عبارة “موقف من عدم استعمال العربية”  و الحقيقة أن الحسم لازال في طور التأسيس و إن كان يبدو من ظاهر النص أن الأقرب إلى الصواب هو وجوب المخاطبة باللغة العربية  ما دام الاعتراف قائما بنعتها  “لغة رسمية”  و ما دامت مكرسة ضمن دستور المملكة في الفصل الخامس حيث القاعدة القانونية المأثورة “لا اجتهاد مع النص”

و لقد أورد الباحث أحكاما قضائية أكدت وجوب اعتماد اللغة العربية  لكونها مكرسة  بنص الدستور الذي يعد أعلى قاعدة قانونية في هرم التشريع، بالنظر إلى عكسه تصورات و إرادة الشعب. و هذا بالطبع ما حدى بالمحكمة الإدارية بالرباط  بموجب الحكم الذي أورده الباحث رقم 4550 الصادر في الملف عدد 2017/7110/846 بتاريخ 2017/10/20 إلى القول: “و حيث إنه تأسيسا على ما ذكر، فإن إصدار وزير(…) لقرار محرر باللغة الفرنسية  مؤثر في المركز القانوني للطاعنة يعد عملا مخالفا لقواعد الدستور، و هو بذلك مشوب بعيب المخالفة الجسيمة للقانون، ذلك أن اللغة الرسمية المقررة بنص دستوري يعد مظهرا من مظاهر سيادة الدولة في بعدها الثقافي و التاريخي ذي الامتداد  الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي، و لذلك فإن استعمال الإدارة للغة أجنبية بديلة عن اللغة الرسمية في المجالات المذكورة أعلاه يشكل تنازلا عن هذه السيادة في أبعادها المشار إليها، و انتهاكا لإرادة المواطنين المجسدة بنص الدستور الذين اختاروا العربية  و الأمازيغية لغتين لمخاطبتهم من قبل الدولة و جميع المرافق العمومية الأخرى، كما أنه تصرف لا يمكن تبريره بأي مسوغات واقعية أو قانونية جدية، لأن الحاجة إلى الانفتاح على مختلف الثقافات بما تشمل عليه من لغات، و الحرص على تعلمها و تعليمها إلى جانب اللغتين الرسميتين،  في إطار “توسيع و تنويع المبادلات الانسانية و الاقتصادية، و العلمية و التقنية، و الثقافية مع كل بلدان العالم” حسب ما ورد بديباجة الدستور، لا يتم قطعا عن طريق إحلال هذه اللغات بديلة عن اللغة الرسمية، و من تم فإن استعمال اللغة الفرنسية من قبل الإدارات العمومية المغربية  يعد عملا مخالفا للدستور، لأن اللغة المذكورة غير منصوص على استعمالها الرسمي بأي نص قانوني، فضلا على أنها لا تمثل أي مظهر من مظاهر الهوية المغربية  ماضيا و حاضرا و ليس لها أي امتداد تاريخي بالمغرب ذي بعد  وطني مشروع.”

مقال قد يهمك :   النص الكامل لحكم تجارية الرباط بتعويض مغربي بمليوني سنتيم بسبب تأخر القطارات

و لأن غاية القضاء الإداري هي البحث في مدي تقيد الإدارة بالنصوص القانونية قبل الخوض في نواياها المنحرفة أحيانا، فإن عدم التقيد باللغة العربية من طرف الإدارة كلغة رسمية يجعل قرارها مشوبا بعيب المخالفة الجسيم للقانون و بعيب مخالفة الشكل.

كما أن من غايات القضاء الإداري تفسير النصوص على النحو الذي توخاه المشرع، و هذا ما جعل الحكومة بناء على التفسير الذي أورده الحكم المشار إليه أعلاه تبادر إلى حث الإدارة العمومية على وجوب التقيد باللغة العربية أو اللغة الأمازيغية أو هما معاً من خلال منشور السيد رئيس الحكومة رقم 2018/16 المؤرخ بالرباط في 20 صفر 1440 الموافق لـ 30 أكتوبر 2018 و الذي جاء في إحدى فقراته: “وفي هذا الاتجاه اعتبر القضاء المغربي إصدار مرفق عمومي لقرارات و وثائق محررة بلغة أجنبية مشوبا بعيب المخالفة الجسيمة للقانون، و انتهاكا لإرادة المواطنين المجسدة بنص الدستور، فضلا عن كون اللغة الأجنبية غير منصوص على استعمالها الرسمي بأي نص قانوني.  و بناء على ما سبق، فإن الإدارات العمومية و الجماعات الترابية و المؤسسات العمومية بجميع مرافقها ملزمة باستعمال اللغة العربية أو اللغة الأمازيغية أو هما معا، في جميع تصرفاتها و أعمالها، و قراراتها و عقودها و مراسلاتها و سائر الوثائق، سواء كانت وثائق داخلية أو موجهة للعموم.”

فهذا المنشور يعد اعترافا صريحا من لدن الإدارة و من لدن القضاء على وجوب اعتماد اللغة العربية في كل التصرفات و ذلك حتى تبقى في نطاق المشروعية القانونية، وبالتالي إذا غفل القضاء عن إثارة مسألة اللغة الرسمية باعتبارها من العيوب الشكلية التي تدخل في إطار النظام العام لمساسها بالقاعدة الدستورية، فإن إثارتها من طرف الخصم المتضرر من قرار الإدارة تبقى جديرة على القضاء بالاستجابة لها.

مقال قد يهمك :   حكيم وردي : قضاء الزملاء

ثم إنه لا يتصور تقديم مذكرات أو مرافعات لدى القضاء باللغة الفرنسية لأن في ذلك تبخيس للمواطنة و عدم توقير للهوية، كما أن من شأن السماح للغة الفرنسية في المعاملات الإدارية فتح المجال على مصراعيه على أي لغة أخرى حتى و لو كانت يابانية أو صينية.

وتحرير الوثائق والمحاضر المقدمة للقضاء بالعربية أو ، على الأقل ، ترجمتها لهذه الأخيرة لا تفرضه مقتضيات الدستور فقط وإنما تؤكد عليه أيضا ، وتمشيا مع الدستور ، مقتضيات ظهير المغربة و التوحيد و التعريب و الفصلين الأول والثاني من قرار وزير العدل رقم 65 . 414

المؤرخ في 29 / 06 / 1965 الخاص باستعمال اللغة العربية لدى محاكم المملكة :

فالفصل الأول ينص على أنه (( يجب أن تحرر باللغة العربية جميع المقالات والعرائض والمذكرات وبصفة عامة جميع الوثائق المقدمة إلى مختلف المحاكم )) .

و ليس في شيء ما ذهب إليه الباحث من اعتبار مسألة السيادة أمر مبالغ فيه عندما استدل بالرسالة المحررة باللغة الإسبانية من طرف المملكة المغربية التي تضمنت أول اعتراف في التاريخ باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، أو عندما استدل بتعامل الدولة بالعملة الأجنبية لتبرير اعتماد اللغة الفرنسية على وجه الخصوص في قرارات الإدارة المغربية و تصرفاتها. فهذه الأمثلة تضم طرفين من جنسيتين مختلفتين، يفرض منطق الأمور فيها الإذعان للأقوى سياسيا و اقتصاديا، و إلا لما كانت اللغة الانجليزية اللغة الأولى في العالم دون أن يفهم من ذلك تكريسها ضمن التشريعات الوطنية كلغة رسمية، و هذا في حد ذاته لا يعني أيضا إذعان الإدارة الفرنسية في إصدار قراراتها للغة الانجليزية، كما لا يحتم على الإدارة الإسبانية التسليم باللغة الفرنسية أو الانجليزية في قراراتها، لأن في ذلك مس بسيادة الدولة في معاملاتها الداخلية بين مواطنيها مثلما تفضلت المحكمة بتوضيحه في حكمها السديد المشار إليه أعلاه.

مقال قد يهمك :   نجيمة شقرو: مبدأ المناصفة وواقع التمثيلية السياسية للمرأة بالمغرب (أطروحة دكتوراه)

وختاما، فإن الحجة التي يحتمي وراءها البعض من كون اللغة العربية قاصرة عن استيعاب المصطلحات التقنية في قرارات و تصرفات الإدارة، تظل حجة ضعيفة أقل ما يدحضها الخطابات الرسمية وما تشمله من مصطلحات تقنية  داخل قبة البرلمان و التي تنبثق عنها كل القوانين و التشريعات بما فيها القوانين التقنية من قبيل قانون المالية أو قانون التصفية. و من هذا المنبر فقد وجب على هؤلاء المناصرين للغات غير الرسمية أن يتشبتوا بهويتهم المغربية ذات الثقافة العربية و الأمازيغية، و أن يكونوا عونا للدولة المغربية لا عونا للدولة الفرنسية التي لاقى رئيسها انتقادات لاذعة من الفرنسيين أثناء تدوينته بالعربية تكفيرا عن إساءته للرسول محمد صلوات الله و سلامه عليه.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]