منعم بن صالح: رجل السلطة بين الهاجس الأمني والبعد التنموي(تقرير اطروحة)

مراد المدني: أطروحة جامعية تناقش مظاهر التوجيه التعاقدي وأثرها على مبدأ القوة الملزمة للعقد

12 سبتمبر 2023 - 6:05 م فضاء المكتبة , أطروحات جامعية , فضاء المكتبة
  • حجم الخط A+A-

إعلان المناقشة 

  • مقدمة عامة حول موضوع الأطروحة:

لقد قام العقد حقبة من الزمن على مبدأ سلطان الإرادة والذي يعني أن للإرادة السلطان الأكبر في تكوين العقد وتحديد آثاره، ولا يحد من هذه الإرادة وهذا السلطان سوى فكرة النظام العام والآداب العامة، وترجع الجذور التاريخية لهذا المبدأ إلى الأفكار الفلسفية والاقتصادية التي نادى بها أصحاب المذهب الفردي خلال القرن 17، حيث مجدوا الفرد واعتبروا أنه حر في الالتزام بالشروط التي رضي بها حرا مختارا، فكل التزام لا بد أن يكون أساسه الرضا والاختيار، وهو ما يتماشى مع القانون الطبيعي.

وقد روج لهذه الأفكار الفلسفية الفيلسوف الألماني “كانط” ومفادها أن للفرد حقوقا طبيعية منذ ولادته منها الحرية الشخصية ووجوب احترامها، لذلك يجب أن تكون هذه الإرادة محل حماية من المشرع وهي تعلو على مصلحة المجموع، فالفرد لا المجموع هو الذي يحميه القانون.

كما قام هذا المبدأ على أفكار اقتصادية ترتكز على حرية الملكية باعتبارها حقا طبيعيا يتمتع به الأفراد، وحرية السوق التي يجب أن تخضع لمبدأي العرض والطلب، وهي مبادئ يقوم عليها المجتمع اللبرالي.

وصاحب هذه النظريات نظريات أخرى فلسفية وسياسية حمل لواءها الفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو” في كتابه:”العقد الاجتماعي”، والذي اعتبر أن حرية الفرد هي الأساس الذي يقوم عليه تفكير ذلك العصر مما ساهم في ميلاد مبدأ سلطان الإرادة كمبدأ يحكم العقود، وقد تلقت الثورة الفرنسية هذه الأفكار وقامت عليها سنة 1789 مما أسال حبر المشرعين آنذاك فظهرت بصماتها في تقنين نابليون وتجسدت في المادة 1134 منه.

وقد انبثق عن مبدأ حرية التعاقد المبدأ الشهير “دعه يعمل دعه يمر”، و الذي يعني ضمنيا “دعه يتعاقد بلا قيود”، فالإرادة وحدها هي التي يجب أن تهيمن في ميدان العقود ولا يمكن للشخص أن يلتزم خارج إرادته، فلا المشرع و لا القاضي يمكنه أن يلزم الفرد بما يخالف إرادته.

والمشرع المغربي كغيره من التشريعات تأثر هو الآخر بقانون نابليون، ويتضح ذلك من خلال الفصل 230 من ق ل ع الذي كرس من خلاله مبدأي “سلطان الإرادة” و “القوة الملزمة للعقد”، حيث جاء فيه:”الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا، أو في الحالات المنصوص عليها في القانون”.

وبعدما وصل مبدأ سلطان الإرادة إلى القمة خلال القرنين 18 و 19 بفعل العوامل الاقتصادية التي أدت إلى انتشار روح الفردية قامت الصناعات الكبرى وتأسست الشركات الضخمة، وأضحى العقد الوسيلة التي يستطيع من خلالها أرباب المصانع استخدام العمال،

وأصبح التعاقد يتم بين أطراف غير متكافئة في القوة الاقتصادية طرف قوي يملك المعرفة ووسائل الإنتاج، وطرف ضعيف مضطر إلى التعاقد بدافع الحاجة ولو بشروط مجحفة، وهو ما أدى إلى انتشار روح الاشتراكية وقيامها في وجه المذهب الفردي، وهذا ما جعل قوانين الدولة تتجه نحو الاهتمام بمصالح الجماعة قبل مصلحة الفرد متأثرة بالأفكار التي أفرزها المذهب الاجتماعي.

      وقد شهد مبدأ سلطان الإرادة انحسارا منذ ظهور المذهب الاجتماعي الذي يغلب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد ويعدها غاية القانون، فوفق فلسفة هذا المذهب فإن الحرية التعاقدية يجب أن تكون مقيدة بالضرورات الاجتماعية مما يحتم تدخل الدولة في تنظيم العقود نحو تحقيق المنفعة العامة، فبرزت إلى الوجود فكرة النظام العام الاقتصادي بشقيه الحمائي والتوجيهي كفكرة مسيطرة على فكرة العقد ردحا من الزمن.

مقال قد يهمك :   الطاهر عطاف: التنمية المسكوت عنها-الأمن الإنساني وكورونات الأزمان- (مؤلف حديث)

     ولئن كانت القاعدة العامة هي عدم جواز تدخل المشرع في العلاقات التعاقدية، فإن الأمر لم يعد ممكنا سيما وأن الأفراد غالبا ما يجدون أنفسهم أمام تقلبات اقتصادية واجتماعية لم يتم أخذها في الحسبان عند إبرام العقد، ولذلك ظهر المذهب الاجتماعي الذي يسمح بتدخل المشرع في العلاقات التعاقدية حماية للطرف الضعيف عبر القوانين الاقتصادية لتوفير الحماية اللازمة له، و أيضا عبر التخفيف من مبدأ القوة الملزمة للعقد، وخول للقضاء آليات مهمة تمكنه من التدخل في العلاقة التعاقدية المختلة لإعادة التوازن إليها.

      إن الوضع الجديد في موازين قوى المجتمع أفرز لنا فئة ضعيفة هي فئة المستهلكين والتي لم يكن بالإمكان تجاهل معاناتها وما تعيشه من ظلم و جور، فبدأت المناداة بإصلاح هذا الوضع، وكان السبيل إلى ذلك إعادة تدخل الدولة في المجال التعاقدي بأمرين:

أولهما:التدخل لإصلاح الوضع الاقتصادي من خلال النظام العام في حلته التوجيهية الجديدة عبر الضبط والحد من الحرية المطلقة المؤدية إلى الفوضى، حيث تم توجيه العقد لخدمة سياسة الدولة في النهوض الاقتصادي والاجتماعي عن طريق رسم الكثير من الحدود المقيدة للمتدخلين الاقتصاديين والتي تعود بالنفع على المتعاقدين، وذلك بالتخفيف من الاحتكار والهيمنة الاقتصادية، حيث أصبحنا أمام عقود ممنوعة، عقود موجهة، عقود منظمة، وعقود جبرية.

وثانيهما:التدخل التشريعي من خلال سن قوانين خاصة الهدف منها إعادة التوازن والعدالة التعاقدية، وهي تعنى بفئة المهنيين مع بعضهم البعض، وأيضا بعلاقتهم بطائفة المستهلكين  وهو ما يجسد النظام العام الاقتصادي الجديد بنوعيه التوجيهي والحمائي.

           ويرمز مصطلح “توجيهي” بصفة عامة إلى التدخل من أجل تيسير أمر معين في وجهة معينة، وعليه يكون العقد موجها بواسطة القواعد القانونية المصاغة في عبارات عامة والتي يسعى المشرع بمقتضاها إلى توجيه العقد وجهة معينة، وينادي المذهب التوجيهي بتدخل الدولة في العقود عن طريق المشرع، وذلك بتوجيه النشاط التعاقدي باسم المصلحة العامة.

       وقد عرف الأستاذ سمير تناغو التوجيه التعاقدي في أطروحته:” الالتزام القضائي” بأنه:”التدخل في العقد بقصد إخضاعه للاقتصاد الموجه”، واستطرد قائلا:”لكن من الممكن أن يقصد باصطلاح التوجيه مجرد التدخل في العقد بغض النظر عن دوافعه وأهدافه، وهل هي اقتصادية أو لا، فالعقد يمكن توجيهه بواسطة المشرع، أو الإدارة، أو القاضي، لإدراك أهداف اقتصادية أو سياسية أو أخلاقية أو غيرها”.

     وتدخل المشرع قد يكون مباشرا عندما يصدر نصوصا آمرة يتحتم على المتعاقدين مراعاتها، وقد يكون غير مباشر عندما يخول للقاضي صلاحية التدخل في العقد بتعديل أو إلغاء بعض الشروط أو الالتزامات أو إعادة التوازن الاقتصادي لطرفي العلاقة التعاقدية.

      إن التطورات الاقتصادية التي عرفها العالم مؤخرا تجعلنا نتساءل عن مصير القواعد القانونية التقليدية وعن مصير النظم القانونية، لأننا بلا شك نقف على عتبة تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية كونية لا تؤمن بالثبات والاستقرار، بل بالسرعة والتغير، مما أدى إلى ظهور نظريات جديدة تؤصل لمفاهيم عالمية، وبروز أزمة القواعد القانونية التقليدية، وسطوة المفاهيم الاقتصادية الجديدة، مما جعل العديد من المنظرين والمهتمين بفلسفة القانون يفتحون نقاشا علميا وأكاديميا حول الجدوى من وضع هذه القواعد إن كانت لا تستطيع كبح جماح وسلطان الاقتصاد للحفاظ على هيبة وقوة سلطان الإرادة.

مقال قد يهمك :   تقرير أطروحة رئيس النيابة العامة حول تسليم المجرمين بين القانون المغربي و الاتفاقيات الدولية

      لقد أصبحت كل المقتضيات التي يحكمها مبدأ سلطان الإرادة غير ملائمة لحماية المتعاقد في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية بحيث أضحت نظرية عيوب الإرادة عاجزة عن حماية الطرف الذي عيبت إرادته أمام ظهور أطراف تعاقدية جديدة غير متكافئة على مستوى القوة الاقتصادية، والمعرفة التقنية، والرغبة الملحة في اقتناء المنتوج أوالسلعة أو الخدمة، بل أكثر من ذلك أصبحت هذه القواعد إما مكتوبة و لا أثر لها، أوقاصرة على حماية المتعاقد كأحكام الإبطال الذي يصبح معه العقد قابلا للإبطال في مجموعه عند وجود شرط تعسفي بدل بطلان الشرط فقط، أو إلزام المدين بتنفيذ التزاماته وفق مبدأ القوة الملزمة للعقد، دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي جعلته في حالة مطل أدت إلى عجزه الكلي أو الجزئي عن التنفيذ.

      لكن المشرع المغربي كغيره من التشريعات المقارنة تفطن للأمر وحاول تجديد وتحيين ترسانته القانونية لمواكبة هذه السرعة الفائقة التي انطلق بها عالم الاقتصاد لتجاوز أزمة العقد، فانتقلنا من الرضائية إلى الشكلية، من خلال مجموعة من القوانين أهمها:القانون رقم 31.08 المتعلق بحماية المستهلك، القانون رقم 103.12 المتعلق بتنظيم العلاقة القانونية بين مؤسسة الائتمان والمستفيد، كما تم فرض الشكلية في المعاملات العقارية من خلال المادة الرابعة من القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية بالاتجاه نحو تكريس الرسمية في تحرير العقود بشكل مبدئي، مع ترك المجال مفتوحا للأطراف بالتوجه نحو إبرام عقود عرفية لكن في إطار ضيق جدا.

    كما عمد المشرع إلى توجيه العقد مستعملا تقنية النظام العام بشقيه التوجيهي والحمائي، فلجأ إلى سن العقود الخاصة التي تحتوي على القواعد الآمرة في أفق تحقيق المصلحة العامة، وتكريس العدالة كأساس حديث للقوة الملزمة للعقد، ومن أجل تفعيل هذا المبدأ أضفى المشرع الطابع الجنائي على العقد بفرض جزاءات جديدة لم تكن معهودة في النظرية العامة، وهي الغرامات المالية والعقوبات الحبسية، إلى جانب الجزاء المدني المتمثل في البطلان النسبي عوضا عن البطلان المطلق المنصوص عليه في النظرية العامة للعقد.

        وهذه الجزاءات تؤدي دورا وظيفيا يتجلى في تحقيق العدالة التعاقدية عن طريق فرض التوازن بين الأداءات أو إصلاح ما خلقته الحرية التعاقدية المطلقة، وذلك بإعداد بنود مسبقة ملزمة للمتعاقدين تلائم مصلحة المجتمع وتتجاوز المبادئ الكلاسيكية للعقد.

     إن الحرية التعاقدية المنبثقة عن مبدأ سلطان الإرادة لم تمتد للمتعاقدين فقط، بل شملت القاضي كذلك، وهو ما يتضح من خلال الفصلين 461 و 462 ق ل ع اللذين يظهر من خلالهما أن العقد إذا كان واضحا وكانت ألفاظه صريحة امتنع عن القاضي التدخل لتأويل بنوده، أما إذا كانت غامضة فيجوز له تفسيرها أوتأويلها بالرجوع إلى الإرادة الباطنة لا الظاهرة للمتعاقدين.

     وقد ظل القاضي محكوما بالقاعدة العامة التي تمنع عليه التدخل إلا استثناء من خلال مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 243 ق ل ع، كما يتضح من نفس الفصل أن المشرع لم يلزم القاضي بمنح مهلة الميسرة متى توفرت شروطها، فهي اختيارية حسب ما يستفاد من عبارة :”يسوغ للقضاة “، وهذا المقتضى غير الملزم للقاضي يبقى قاصرا عن توفير حماية فعلية للمدين المعسر.

     وتخفيفا من صرامة مبدأ القوة الملزمة للعقد تدخل المشرع المغربي بمقتضى القانون رقم 27.95 ليمنح للقاضي إمكانية تعديل التعويض الاتفاقي بالزيادة أوالنقصان بمقتضى الفقرة الثالثة من الفصل 264 من ق ل ع، وعليه يكون المشرع المغربي قد سار على نهج المشرع الفرنسي الذي نص على نفس المقتضى من خلال المادة 1152 من قانونه المدني في صيغته القديمة، لكن هذا القانون عرف تعديلا أجاز بمقتضاه المشرع للقاضي مراجعة الشرط الجزائي بصورة تلقائية على خلاف المشرع المغربي الذي جعل سلطة القاضي في هذه المسألة مجرد رخصة، وهو ما من شأنه أن يحد من حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية ويؤدي إلى اختلال التوازن العقدي.

مقال قد يهمك :   أطروحة جامعية تقارب تأثير الفقه والقضاء على التشريع المدني المعاصر

     ولم يأت ق ل ع المغربي بأي نص يأخذ بنظرية الظروف الطارئة، وكل ما جاء فيه حالات يجيز فيها بنصوص خاصة إمكانية إنهاء العقد كحالة المتعاقد في العقد الملزم لجانبين الذي يمكن له أن يطلب من القاضي فسخ العقد إذا لم يف المتعاقد الآخر بالتزامه المقابل، وحالة الموكل في عقد الوكالة، و المودع والمودع لديه في عقد الوديعة، والمعير والمستعير في عقد العارية، و المكتري في عقد الكراء الفلاحي.

      وأعتقد أنه آن الأوان كي يسير المشرع المغربي على نهج التشريعات المقارنة ويعتمد الوسائل الكفيلة بالتضييق من مبدأ سلطان الإرادة في صلب ق ل ع نزولا عند الضرورات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، واستجابة للتطورات التي أصبح يشهدها القرن 21، هذا التطور الذي أصبح ينظر إلى الإرادة كأداة لخدمة العدالة وكشرط لتطبيق القانون، وأن العلاقة التعاقدية تخضع لتوجيه المشرع حفاظا على المصلحة العامة وحماية للطرف الضعيف، وفي مقدمة هذه الوسائل إقرار نظرية الظروف الطارئة التي تسمح للقاضي برد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، وذلك إما عن طريق إنقاص التزامات المدين، أو زيادة التزامات الدائن، أو بإصدار أمر بوقف التنفيذ مؤقتا.

      فليس من العدالة في شيء إلزام أحد الطرفين إما تنفيذ عقد التزام به في ظل ظروف مغايرة لظروف التنفيذ، أو إلزامه بتنفيذ عقد قد أبرمه في ظل حاجته الماسة إلى التعاقد، حيث إن استغلال الحاجة الماسة للزج بالطرف الضعيف في عقد لا يناسبه وليست له في فيه أيه منفعة تخول للقاضي تعديل العقد عن طريق إبطال الشروط التعسفية التي تعتبر أبهى صور الاستغلال والإكراه الاقتصادي خاصة مع انتشار عقود الإذعان.

    والتدخل القضائي في العقد لا يشمل فقط الانتقاص منه بإبطال الشروط التعسفية، بل يشمل كذلك التعديل فيه بالتكميل من خلال فرض الالتزام بالسلامة في كافة العقود لضمان صحة وسلامة الأطراف المتعاقدة، وفرض الالتزام العام بالإعلام في العقود الاستهلاكية،  وإقرار الصفة الآمرة لكل مقتضيات ق ح المستهلك بشكل صريح لا لبس فيه بشكل لا يمكن معه للمستهلك أن يتنازل عن بعض مقتضياته باعتبارها حدا أدنى من الحقوق التي يجب أن يتمتع بها في مواجهة المهني الذي يملك من الإمكانات المادية والتقنية ما تخوله توجيه العقد لفائدته، وغيرها من المظاهر الهادفة إلى إعادة التوازن لطرفي العلاقة التعاقدية.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)