الطويــــل محمد: مبــدأ التدبير الحـــر للجمـــاعات التــرابية

 الطويــــل محمد طالب باحث في سلك الدكتوراه

مقدمة

التدبير الحر هو أحد أهم التعديلات التي جاء بها دستور 2011 مما انعكس بشكل إيجابي على جعل الوحدات الترابية كنموذج لفاعلين حقيقيين وأساسيين وقادرين لوضع التصورات المرتبطة بالمشاريع المحلية القادرة على تلبية الحاجات ذات الأولوية للسكان وكذا القدرة على تنفيد هذه البرامج وتتبعها وتقييمها .

    ولتحقيق التدبير الحر الهادف لابد من وجود اللامركزية باعتبارها شرطا أساسيا وضروريا لتسريع وتيرة التنمية الترابية، لذلك تم تسجيل تراجع الدولة الوطنية الراعية لصالح وحدتها الترابية بكل أشكالها، وهذا هو النهج الجديد في معالجة الاختلالات المرتبطة بالتنمية الشيء الذي جعل من الدولة فاعلا كباقي الفاعلين، فالتنمية الترابية لايمكن لها أن تحقق أهدافها الأصلية إلا بجعل المجال الترابي يسير عن طريق الساكنة المحلية لذلك يجب أن يكون المجال الترابي ممثلا بهيئة منتخبة من السكان المحليين، مؤسسين بذلك مجلسا يتمتع بالحرية ومؤسس على النجاعة والفعالية والأداء الجيد، وهذا كان مطلبا نادت به جميع الهيئات المنتخبة مند فجر الاستقلال وكان لها ذلك في الدستور الأخير لسنة 2011، وأصبح قاموس التدبير الحر في القانون المغربي متداولا في الاوساط السياسية المغربية مما يعد نجاحا كبيرا وخطوة جريئة في تعميق الديمقراطية المحلية.

    ومن أبرز آليات التدبير الحر: هي القوانين التنظيمية للجماعات والتي تشكل في أبعادها القانونية والسياسية والاجتماعية تحولا تشريعيا مهما ساهم في تعزيز مفاهيم الحكامة والمسؤولية في تدبير الشأن المحلي ودعم دور وعمل المؤسسات التدبيرية المحلية وتحقيق المناصفة ومقاربة النوع وفتح المجال أمام مختلف مكونات المجتمع للمشاركة، والمساهمة في تدبير الشأن العام المحلي وللإشارة فهذه القوانين التنظيمية شكلت طموحات وانتظارات المواطن بما فيها مسألة الجهوية المتقدمة لما لها من دلالات وأبعاد ومغزى ورهان غايته السامية استكمال مشروع المغرب الدمقراطي.

   ويكتسي موضوع التدبير الحر كأحد ركائز الحكامة أهمية قصوى باعتباره من وسائل تحقيق الدمقراطية المحلية التي هي الضمانة الحقيقية لنجاح أي استراتيجيةتنموية.

ولمعالجة هذا الموضوع اعتمدنا المنهج التحليلي والوصفي.

    أما اشكالية الموضوع فيمكن أن نصوغها من خلال التساؤل الآتي:

إلى أي حد يساهم التدبير الحر في تفعيل وترسيخ الدمقراطية المحلية؟

ولأجل ذلك سنتناول الموضوع من خلال التقسيم الاتي:

  •  المطلب الأول: الاطار المفاهيمي والتطور التاريخي لمبدأ التدبير الحر.
  • المطلب الثاني: القوانين التنظيمية كآلية من آليات التدبير الحر.

المطلب الأول: الاطار المفاهيم والتطور التاريخي لمبدأ التدبيرالحر

   يعد التدبير الحر من أهم مقومات الحكامة لتسيير الشأن المحلي من طرف هيأة منتخبة تسهر على احترام خصوصيات الساكنة في تدبير أمورها بنفسها وذلك من أجل ترسيخ المرجعية الديمقراطية المحلية لبلوغ تنمية متوازنة وتدعيم استقلالية الجماعات الترابية ولمعالجة هذا المطلب ارتأيت الحديث عن الإطار المفاهيمي فرع أول ثم التطرق للتطور التاريخي فرع ثاني.

الفرع الاول: الإطار المفاهيمي لمبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية

   عرف المغرب في السنوات الأخيرة إصلاحات مهمة في إطار ترسيخ اللامركزية واللاتمركز،وبناء صرح التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتكريس العدالة المجالية من خلال توزيع الاختصاصات وتكريس المشاركة الفعلية المحلية في صنع القرار وإقرار مبدأ التدبير المحلي.

  ويمثل مبدأ التدبير الحر المنصوص عليه في الفصل 136 أحد أهم تجليات الحكامة الترابية التي اقرها دستور 2011، فضلا عن كونه يشكل منعطفا هاما في مسار تعزيز اللامركزية الإدارية، باعتباره يمكن الجماعات الترابية من تدبير شؤونها وبلورة اختياراتها وتنزيل مخططاتها وبرامجها التنموية بكيفية مستقلة، ولا يسمح بتدخل ممثلي السلطة المركزية (الولاة والعمال) في أنشطتها ومهامها إلا في الحدود التي يتيحها القانون.1

  ذلك أن السلطة المركزية انتقل دورها من الوصاية إلى المساعدة والمصاحبة، حيث أنه طبقا للمادة 145 من الدستور “يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية،وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية “[1].

     لكن مع الاٍبقاء على المراقبة الاٍدارية المنصبة أساسا على شرعية قرارات رئيس المجلس ومقررات المجلس، وكذا المراقبة القبلية للمقررات ذات الوقع المالي على النفقات والمداخيل والمقرر المتعلق بالميزانية، والمقررات المرتبطة باٍحداث المرافق التابعة للجماعة، والتي لا تكون قابلة لتنفيذ اٍلا بعد التأشير عليها من قبل الوالي أو العامل.

   هذا، ويرتكز التدبير الحر للجماعات الترابية على عنصرين أساسيين:

أولا: سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، ذلك ان مجالس الجماعات الترابية المنتخبة تفصل بمداولاتها بكيفية حرة، في اختصاصاتها وتمارس الصلاحيات الموكولةإليها بموجب القوانين التنظيمية المؤطرة لها؛

ثانيا: تنفيد مداولات ومقررات المجالس، حيث خولت صلاحيات هذا التنفيذ لرؤساء الجماعات الترابية، شريطة أن تتوافق والانظمة القانونية المعمول بها وأن تندرج ضمن الاختصاصات المخولة لها وألا يشوبها عيب من العيوب القانونية، فضلا عن مراعاة التوجهات العامة والقطاعية للدولة والالتزام بحدود ماهو متوفر من موارد مالية.

إذن فالتدبير الحر، سيمكن الجماعات الترابية من ممارسة اختصاصاتها بنوع من الاستقلالية مقابل التقليص من وصاية السلطة المركزية.

  غير أن هذا المبدأ يتطلب توفير الموارد البشرية والمالية والتقنية الازمة، وكذا منتخبين قادرين على استيعاب دورهم الحقيقي في النهوض بالتنمية المحلية وتكريس نهج الحكامة الجيدة التي نص عليها الدستور، ذلك أن الاختصاصات الهامة المنوطة بالجماعات الترابية، لاسيما وضع المخططات والبرامج التنموية تتطلب التوفر على منتخبين لهم مستوى معرفي وعلمي يمكنهم من فهم النصوص القانونية والإلمام ببعض التقنيات التي تحكم التدبير المالي والإداري.

    لذا، يتعين في مقابل التنصيص على مبدأ التدبير الحر، وضع آليات للرفع من القدرات المعرفية والعلمية للمنتخب المحلي، وعلى الأحزاب السياسية أن تتحمل مسؤوليتها المنوطة بها دستوريا، والمتمثلة أساسا في تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام[2].

الفرع الثاني: التطور التاريخي لمبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية

     لقد أصبح الإصلاح الترابي ضرورة ملحة خاصة في ظل التطورات التي عرفها المغرب، وذلك قصد عقلنة الخريطة الترابية من أجل تطوير اللامركزية والديمقراطية المحلية، بشكل يتلاءم مع المفهوم الجديد للسلطة، من خلال رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية والحريات الفردية، وتعزيز سياسة القرب والارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين.

     إن تدعيم الاختيار الجهوي كأساس للتنظيم الترابي برز خلال عدة محطات منها نظام الجهات الاقتصادية حيث عرف المغرب أول تقسيم جهوي سنة 1971م، والذي كان يقضي بتقسيم تراب المملكة الى سبعة جهات اقتصادية غطت كل الجهات السبع بمخططات جهوية لإعداد التراب، ما عدا الجهة الشرقية، هذا التقسيم الجهوي، ونتيجة لمجموعة من التحولات البنيوية التي عرفها المجال المغربي سيتم الاستغناء عنه وتجاوزه[3]، في سنة 1984 كانت الرغبة في إحداث جهوية ذات هياكل تشريعية وتنفيذية[4]، إلا أنه ظلت صفة الجماعة الترابية، الخاضعة للقانون العام والمتمتعة بالشخصية المعنوية وبالاستقلالية المالية، مقتصرة على الجماعات والعمالات والاقاليم، إلى أن جاء دستور1992 الذي ارتقى بالجهة إلى مصاف الجماعات الترابية، إلى حدود دستور فاتح يوليوز2011 الذي كرس الجهوية المتقدمة كمقاربة استراتيجية في سياسة إعداد التراب الوطني فأصبحت الجهة تحتل مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الأخرى حسب الفصل143، ولعل من أهم المستجدات التي جاء بها الدستور الأخير هي تدعيم اللامركزية الجهوية، وهو ما يتضح من خلال الفقرة الرابعة من الفصل الأول التي تنص على “التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة. “كماأنه خصص للجهات والجماعات الترابية الأخرى بابا خاصا من الفصل 135 إلى الفصل146، أكد فيه على مرتكزات التنظيم الترابي الجهوي كالتدبير الحر والتعاون والتضامن ومشاركة السكان في تسير شؤونهم وكذا تقاسم الاختصاصات بين الدولة والمجالس الجهوية وغيرها من المقتضيات الدستورية، وهو ما يعني أن هذا الدستور سيلعب دورا كبيرا في تحيين وتحديث هياكل الدولة على مستوى التدبير الترابي للمغرب.

مقال قد يهمك :   مقترح قانون لتعديل المادة 430 من قانون المسطرة المدنية لفائدة الجالية

إن الاختلالات والنقائص التي شابت التجربة الجهوية، هي التي الهمت الخطاب السياسي المغربي إلى الإعلان عن رغبة عارمة وعزيمة يقينية للارتقاء بالنظام الجهوي إلى وضع متقدم، تحظى فيه الجهة بمكانة قانونية متميزة[5].

    يتعلق الأمر بإصلاح ترابي جاء في وقته، بعد إعلان الملك في خطابه بتاريخ 3 يناير 2010 عن تعيين اللجنة الاستشارية حول الجهوية المتقدمة من أجل بلورة إرادته الرامية إلى تمكين المغرب من جهوية متقدمة  من خلال وجود جهات قوية ذات مجالس وأجهزة تمثيلية وليست صورية،على رأسها نخب مؤهلة ومؤطرة، قادرة على حسن تدبير شؤون الجهات المشرفة عليها والاستجابة لتطلعات المواطنين وحاجياتهم التنموية. ولهذه الغاية قد تم اعتماد تقطيع ترابي جديد بمقتضى المرسوم رقم40.15.2 بتاريخ 20 فبراير2015، والذي يقلص من عدد جهات المملكة لتنتقل من 16 إلى12 جهة،الذي يجب أن يتلاءم مع مشروع الجهوية المتقدمة وأن يعزز الجهة كوحدة ترابية لامركزية تتمتع بمقومات التدبير الذاتي حتى تستجيب لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما تمت المصادقة على ثلاثة قوانين تنظيمية تؤطرهذا الإصلاح وتتعلق على التوالي، بالجهات والأقاليم أو العمالات وبالجماعات،فبالرجوع إلى القانون التنظيمي المتعلق بالجهات رقم 14/111نجده نص على انتخاب أعضاء مجلس الجهة بالاقتراع العام المباشر،عكس ما كان ينص عليه قانون الجهات رقم 47-96 عبر تنصيصه على الانتخاب عن طريق الاقتراع العام غير المباشر[6] ، حيث كان ينظر إلى تركيبة مجالسها أنها كتل غير متجانسة وغير متضامنة، بالنظر لتركيبتها المتنوعة التي تتكون من أعضاء تختلف مصادرإنتخابهم7[7]، الشيء الذي يجعل المجلس الجهوي بهذا الشكل يفتقد إلى المصداقية الديمقراطية وبعيدا عن الانتظارات الشعبية.

لقد جاءت الانتخابات الجماعية والجهوية التي عرفها المغرب في رابع شتنبر 2015 كأولمحطة مهمة بعد دستور2011 وبعد القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية الصادرة حنذ 2014 .

هكذا أصبحت الجهات مستوى ترابيا يحظى بأهمية كبيرة، وإطارا مناسبا لتحقيق الاندماج بين السياسات القطاعية وتحقيق الانسجام بين جهود وأشكال تدخل مجموع الفاعلين الاقتصاديين المعنيين بالمجال الترابي. وتشكل أيضا مجالا مناسبا للمشاركة الفاعلة للسكان في تدبيرالشؤون الجهوية، وفي جهود التنمية المجالية، وذلك بفضل الآليات الجديدة لإعمال “الديمقراطية التشاركية”. فالجهوية تتوخى في أهم أبعادها وأهدافها ترسيخ الحكامة الترابية، وتعزيز سياسة القرب من المواطن، وتفعيل التنمية الجهويةالمندمجة. وهو ما يجعل من الحكامة الترابية نظام إدارة الفعل العمومي الترابي، من خلال الوصول ترابيا إلى أحسن تدبير محلي ممكن، في أسرع وقت وبأدنى مجهود وأقل تكلفة وفي أفضل الظروف الممكنة، وهي كذلك تمكين الساكنةالمحلية من اختيار الإطار العام لحياتها اليومية بكل حرية وتشاركية، وتوسيع قدرتها وتنويع خياراتها، وتحفيزها علي المشاركة في اتخاد القرار التنموي، مشاركة فعلية وحقيقية[8].

المطلب الثاني: الإطار الدستوري وآليات تطبيق التدبير الحر للجماعات الترابية

إن الحديث عن التدبير الحر للجماعات الترابية في إطار الحكامة الترابية يتطلب منا الحديث عن الإطار الدستوري لهذا المبدأ وفق تحول تاريخي عرفه المغرب (فرع أول) ثم التطرق إلى آليات التدبير الحر في الجماعات الترابية (فرع ثاني).

الفرع الأول: الإطار الدستوري لمبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية

أعطىالدستورالمغربي أهمية خاصة لمسألة اللامركزية كأساس للتنظيم الجديد للدولة، باعتباره عنصر ضروري لإصلاحها، فحسب الفصل الأول من الوثيقة الدستورية فإن “التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة”، بالإضافة إلى ذلك فالوثيقة الدستورية تضع اسس متعلقة بتصور جديد لمسألة اللامركزية من خلال ثلاث نقط أساسية، تتمثل في ترسيخ المرجعية الديمقراطية، بلوغ تنمية محلية ومتوازنة، وتدعيم استقلالية الجماعات الترابية[9].

 لقد تضمن دستور المملكة لسنة 2011 العديد من الفصولالمؤطرة للموضوع، ويتضح ذلك من خلال التصدير حيث نجد أن:”المملكة المغربية، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة مرتكزاتها المشاركة، التعددية والحكامةالجيدة، وكذا إرساء دعائم مجتمع متضامن يتمتع فيه الجميع بالأمن، الحرية، الكرامة، المساواة، تكافؤ الفرص، العدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين واجبات المواطنة.”

وتماشيا مع هذا الطرح نذكر الفصل الأول من الدستورالذي ينص على أن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط، توازنها وتعاونها، الديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

  أما الفقرة الثالثة من الفصل12، فتنص على أن تساهم الجمعيات المهنية بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركات طبق شروط وكيفيات يحددها القانون، هذا إضافة أن السلطاتالعمومية تعمل على إحداث هيئات للتشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعي ينفي إعداد السياسات العمومية، تفعيلها، تنفيذها وتقييمها[10].

مقال قد يهمك :   تسوية الوضعية المعاشية لأجراء القطاع الخاص: الجهة المختصة والتاريخ المعتبر للإحالة على التقاعد

   ومن أهم الفصول التي كرست الديمقراطية المحلية بكل تجلياتها الفصل 19، والذي يدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة حقوقيا، مدنيا، سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا وبيئيا، كنا تسعى الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الجنسين معا، ويتطلب هذا الأمرحق حصول المواطنين والمواطنات على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية وكذا المؤسسات المنتخبة والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام، ولايمكن تقييد هذا الحق إلا بقانون[11].

    وبقراءة متأنية للباب التاسع من الدستور الخاص بالجهات والجماعات الترابية، يتضح أن للديمقراطية المحلية مجموعة من المرتكزات، حيث تعتبر الجماعات الترابية أشخاصا اعتبارية، خاضعة للقانون العام وتسير شؤونها بكيفية ديمقراطية، كما تنتخب مجالس الجهات والجماعات بالاقتراع العام المباشر، وتحدث كل جماعة ترابية أخرى بالقانون[12].

كما يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبدأ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن ويؤمن بمشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهماتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة[13]، كما لايجوز لأي جماعية ترابية أن تمارس وصايتها على جماعة أخرى[14].

الفرع الثاني: القوانين التنظيمية كآلية من آليات تطبيق التدبير الحر للجماعات الترابية

     يهدف القانون التنظيمي 113.14 من خلال مجموعة من الإصلاحات التي جاء بها إلى ترسيخ الديمقراطية المحلية وقواعد الحكامة الترابية في اتجاه تحقيق مجموعة من الأهداف السياسية، الاقتصاديةالاجتماعية والبيئية التي ترمي إلى خدمة التنمية المحلية، وقد ارتكزت هذه الإصلاحات حول اعتماد قواعد جديدة لتدبير الشأن العام المحلي،ومنها اعتماد التصويت العلني كقاعدة لانتخاب أجهزة المجالس وكذا اتخاذ اتخاد كافة مقرراتها، تدعيم الاستقلال الذاتي للجماعات المحلية عبر تخصيص موارد مالية قارة ومتجددة، منح العمال والولاة سلطة المراقبة الإدارية، وأيضا تكريسمبدأ الدبير الحر الذي يخول بمقتضاه لكل جماعة في حدود اختصاصاتها، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها[15]، إلا أنه عاد لتكريس نوعا من الوصاية فيما يشبه تراجعا على مبدأ التدبير الحر، فالمقررات المتخذة خلال مداولات المجلس غير قابلة للتنفيذ إلا بعد سلطة الوصاية عليها، ولعل ذلك راجع إلى عدة عوامل موضوعية أحيانا، كمحدودية النخب المحلية التي تفرزها الصناديق على مستوى الكفاءات، بل أيضا على مستوى الحكامة، إذ أن التجربة ربما أفرزت عدة تجاوزات على مستوى التدبير والحكامة، وهذا المعطى يستشف من حجم المخالفات الواردة في تقارير لجان المراقبةوعلى رأسها المحاكم المالية المختصة، ولعل تلك التقارير تشكل دراسة لواقع التدبير الجماعي ومستوى تطور اللامركزية ببلادنا في جانب الممارسة وتخريج النخب، ويرتكز التدبير الحر للجماعات الترابية على عنصرين أساسيين:

      أولا:سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، ذلك أن مجالس الجماعات الترابية المنتخبة تفصل بمداولاتها بكيفية حرة في اختصاصاتها وتمارس الصلاحيات الموكولة إليها بموجب القوانين التنظيمية المؤطرة لها.

     ثانيا: تنفيذ مداولات ومقررات المجالس، حيث خولت صلاحيات هذا التنفيذ لرؤساء الجماعات الترابية، شريطة أن تتوافق والأنظمة المعمول بها وأن تندرج ضمن الاختصاصات المخولة لها وألا يشوبها عيب من العيوب القانونية، فضلا عن مراعاة التوجيهات العامة والقطاعية للدولة والالتزام بحدود ما هو متوفر من موارد مالية.

     غير أن هذا المبدأيتطلب توفير الموارد البشرية والمالية والتقنية اللازمة، وكذا منتخبين قادرين على استيعاب دورهم الحقيقي في النهوض بالتنمية المحلية وتكريس نهج الحكامة الجيدة التي نص عليها الدستور[16].

    بالإضافة إلى ذلك أيضا اعتماد مابدأ التفريع كأساس في إسناد الاختصاصات للجماعات والتي تتوزع بين اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة بينهما وبين الدولة وأخرىمنقول إليها من طرف هذه الأخيرة، أما مبدأ التعاون والتضامن بين الجماعات فيهدف إلى تقوية روح المواطنة وإرساء الفعالية والجودة والنجاعة والتناسق والانسجام في الفعل العمومي المحلي[17]، وتماشيا مع هذا الطرح يعد تحسين النظام الأساسي للمنتخب من أهم الركائز للديمقراطية المحلية، من اجل مواكبة الرهانات التنموية المحلية المطروحة، وفي هذا الإطار عمل القانون التنظيمي للجماعات على إقرار مجموعة من البنود همت بالأساس منع الترحال السياسي، حيث أكد على عدم جواز تخلي المنتخبين عن الانتماء السياسي الذي ترشح باسمه وذلك طيلة الفترة الانتدابية تحت طائلة التجريد من عضوية المجلس بمقتضى حكم قضائي[18]، وذلك من أجل عدم تبخيس العمل السياسي وإعطائه مصداقية واسترجاع ثقة الناخب وتطبيق البرنامج الانتخابي المتعاقد حوله مع المواطنين، كما يستفيد المنتخبين من تكوين مستمر في المجالات المرتبطة باختصاصات الجماعة طبقا للمادة 53 من نفس القانون.

من الأمور الأساسية التي أكد عليها القانون التنظيمي السالف الذكر، مقاربته للعاملين القانوني والسياسي من خلال الفصل بين المهام التداولية والمهام التنفيذية، وكذا توضيح الاختصاصات بشكل يساعد تبيان المسؤوليات وتحديدها، وتوضيح القواعد المتعلقة بانتخاب مكاتب المجالس الجماعية وضمان استقرارها، كما حرص القانون المذكور على وضع آليات في مجالضمان نزاهة وشفافية التدبير المحلي، وذلك من خلال منع المنتخب من ربط أية علاقة مصلحية بين شؤونه الخاصة و الشؤون العامة[19].

في هذا الإطار تم تدعيم مكانة اللامركزية الجهوية، والتي شكلت إحدى أهم مستجدات دستور2011، وهذا يوضح جدية الدولة في تبني هذا الإصلاح من حيث الاختصاصات الممنوحة للجهة، وبمقومات ومبادئ تراعي الخصوصية المحلية، كما تدعم هذه الرغبة  من خلال عنوة الباب التاسع من الدستور بالجهات والجماعات الترابية الأخرى، والذي من خلاله أصبح مجلس الجهة ينتخب بالاقتراع العام المباشر[20]، واعتماد هذا الأسلوب الذي طالبة به غالبية الاحزاب السياسية، وأوصى به الفاعلون السياسيون ونص عليه تقرير اللجنة الاستشارية الجهوية، لايعد مسألة تقنية فقط بل يؤدي إلى منح مصداقية للرهانات السياسية الجهوية، كما سيدفع إلى تعليق السكان بالمؤسسة الجهوية.

    يرتكز تدبير الجهة لشؤونها على مبدأ التدبير الحر الذي يخول بمقتضاه لكل جهة في حدود اختصاصاتها المنصوص عليها في القسم الثاني من القانون التنظيمي، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام هذا القانون التنظيمي[21]، كما يرتكز التنظيم الجهوي أيضا على مبدأي التعاون والتضامن بين الجهات وبين الجماعات الترابية الأخرى، وذلك من أجل بلوغ أهدافها وخاصة إنجاز مشاريع مشتركة.

مقال قد يهمك :   قراءة في مقترح قانون يقضي بتتميم الكتاب الخامس من مدونة التجارة ليتلاءم مع فترة الطوارئ الصحية

    لأجلممارسة اختصاصاتها، أنيطة بالجهة اختصاصات ذاتية، واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من طرف الدولة تضمنتها المواد من 80 إلى 95.

فالاختصاصات الذاتية حددتها المواد من 81 إلى 90، والتي تتيح للجهة اتخاد المبادرات في إطار القانون بحسب مواردها الذاتية، منها على سبيل المثال النهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة التي تهدف إلى دعم المقاولات وتطوير السياحة وإعداد التراب والإشراف على تنسيق التعاون ببين الجماعات المحلية لترشيد الاستثمارات والخدمات الهيكلية وتناط بالجهة مهام النهوض بالتنمية المندمجة و المستدامة داخل دائرتها الترابية، وذلك بتنظيمها وتنسيقها وتتبعها[22].

خاتمة

     إن الإصلاح الترابي الذي شهده المغرب بعد دستور 2011 والذي شمل الحكامة بكافة أشكالها لايمكن أن يقتصر على مجرد إصدار النصوص القانونية الجديدة وإنما لابد من رؤية شمولية ذات اهداف وأبعاد دقيقة لتجاوز الهفوات والنقائص التي لازالت تهم الحكامة الترابية والتي جعلت في ضعف شفافية التدبير الحر المحلي وكذلك هشاشة الهيئات المنتخبة والمواطنين مطالب أساسية لها، كما أن التقسيم الترابي للجهات يجب أن يأخذ بعين الاعتبار عدة معايير من بينها المساحة والثروة، والكثافة السكانية والوضع الجيوغرافي، بغية تحقيق جهات متوازنة تكملها صناديق التضامن بين الجهات، لأن هناك مناطق خصوصا بالعالم القروي لا تستفيد من الإصلاحات والأوراش الكبرى التي يعرفها المغرب.

    إن تحقيق الديمقراطية المحلية ونجاح التدبير الحر ينتج عنة بالضرورة تحقيق التنمية المحلية من قبيل لا المقاربة التشاركية، سياسة القرب، ربط المسؤولية بالمحاسبة.

كما أن تحقيق الحكامة المحلية لابد من أن يمر عبر إيجاد حلول ناجعة لمعضلة الديمقراطية المحلية ومعيقات التنمية المحلية وبالتالي تحقيق مبادئ الحكامة الجيدة بكامل أركان المبنية على الشفافية وربط المحاسبة بالمسؤولية وإقرار مبدأ التدبير الحر.


لائحة المراجع

الكتـــب:

  • جمال خلوق، التدبير الترابي بالمغرب واقع الحال ومطلب التنمية، الطبعةالأولى،2009، مكتبة الرشاد، سطات، للمؤلف سفيان الإدريسي طوران.

المقــــالات:

  • رضوان زهو، الجماعة الترابية، الجهوية المتقدمة ورهان الحكامة الجيدة، مجلة مسالك، عدد29/30، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
  • المصطفى القريشي، الجماعة الترابية، الجهوية المتقدمة ورهان الحكامة الجيدة، مجلة مسالك، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 30.29،2015.
  • أمين الصميعي، الدستور-الدستور الديمقراطية- الجماعات الترابية “محاولة نقد شخصي”.
  • محمد خربوش، مقال حول “الدبير الحر للجماعات الترابية”، المركز المغربي للتنمية الفكرية.
  • محمد عمراوي، مقال حول “الجماعات الترابية بالمغرب”، المجلة العربية للقانون والعلوم الإدارية.

المصــــادر:

  • ظهيرشريف رقم 1.15.83 صادر في 20 من رمضان 1436 (7يوليو 2015) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، ج.ر عدد 6380الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436(23يوليو 2015).
  • ظهير شريف رقم 1.15.85 صادر في 20 من رمضان 1436 (7يوليو 2015) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجهات، ج.ر عدد 6380الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436 (23يوليو 2015).
  • القانون رقم 46-47 المتعلق الجهات، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.97.84 الصادر في 23 من ذي القعدة 1417 (2 أبريل 1997)، الجريدة الرسمية عدد 4470، الصادرة بتاريخ 24 من القعدة 1417 (3 أبريل 1997).

المواقع الإلكترونية:

Alhoriyatmaroc .worldgoo.com

Atadbir.worldgoo.com

http://pubcouncil.kuniv.edu.Kw

www.cmdi.ma

www.marocdroit.com


الهوامش 

[1]– الفصل 145 من دستور 2011.

[2]-www.cmdi.ma   تاريخ  التصفح 08/01/2017

[3]– جمال خلوق، التدبير الترابي بالمغرب واقع الحال ومطلب التنمية، الطبعة الأولى، 2009، مكتبة الرشاد، سطات، قراءة  للمؤلف سفيان الإدريسي طوران، ص 11.

[4]–  الجهوية المتقدمة وأنماط الحكامة الترابية الموقع الإلكترونيalhoriyatmaroc.worldgoo.com تاريخ التصفح 9 يناير 2017.

[5]– المصطفى القريشي، الجماعة الترابية، الجهوية المتقدمة ورهان الحكامة الجيدة، مجلة مسالك، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، العدد 29.30، 2015، ص49.

[6]– القانون رقم 96-47 المتعلق بتنظيم الجهات، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.97.84 الصادر في 23 من ذي القعدة 1417 (2 أبريل 1997)، الجريدة الرسمية عدد 4470، الصادرة بتاريخ 24 من ذي القعدة 1417 (3 أبريل1997)، ص556.

[7]– وفقا للمادة 3 من القانون 96-47.

    “يتكون المجلس الجهوي، وفقا للتشريع الجاري به العمل من ممثلين منتخبين للجماعات المحلية والغرف المهنية والمأجورين.

يضم المجلس كذلك أعضاء البرلمان المنتخبين في إطار الجهة وكذا رؤساء مجالس العمالات والأقاليم الواقعة داخل الجهة الذين يحضرون اجتماعاته بصفة استشارية”.

[8]– رضوان زهرو، الجماعة  الترابية، الجهوية المتقدمة ورهان الحكامة الجيدة، مجلة مسالك، عدد 29/30، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص7.

[9]– أمين الصميعي، الدستور – الدستور الديمقراطية- الجماعات  الترابية ” محاولة تشخيص نقدي، تم الاطلاع على الموقع بتاريخ www.marocdroit.com 08/01/2017.

[10]– الفصل 13 من دستور 2011.

[11]– الفصل 27، نفس المرجع.

[12]– الفصل 135، نفس المرجع.

[13]– الفصل 136، نفس المرجع.

[14]– الفصل 143، نفس المرجع.

[15]– المادة 3 من ظهير شريف رقم 1.15.85 صادر في 20 من رمضان 1436 (7 يوليوز 2015) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، ج.ر عدد 6380 الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436 (23 يوليوز 2015).

[16]– محمد خربوش، مقال حول “التدبير الحر للجماعات الترابية”، المركز المغربي للتنمية الفكرية، تم الاطلاع على الموقع بتاريخ 09/01/2017 www.cmdi.ma

[17]– محمد عمراوي  مقال حول “الجماعات الترابية بالمغرب”، المجلة العربية للقانون والعلوم الإدارية، تم  الاطلاع على الموقع بتاريخ 08/01/2017 www://pubcouncil.kuniv.edu

[18]– المادة 51 من القانون التنظيمي للجماعات.

[19]– المادة 65، نفس المرجع.

[20]– المادة 9 من ظهير شريف رقم 1.15.83 صادر في 20 رمضان 1436 (7 يوليو 2015) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، ج.ر عدد 6380 الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436 (23 يوليو 2015).

[21]– المادة 4، نفس المرجع.

[22]– المادة 80 من القانون التنظيمي للجهات.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)