قانون الإلتزامات والعقود: نحو مئوية ثانية

عبد الله علمي ادريسي باحث في القانون الخاص

لقد خلد المغرب ([1])، مئوية قانون الإلتزامات والعقود([2])، احتفالا بقانون عمر لأزيد من قرن من الزمن، وهي محطة كانت مناسبة لمساءلة أسباب الصمود –الفريد- لهذا القانون، عبر مجموعة من الندوات أقيمت لهذا الغرض بمختلف ربوع المملكة.

على أن الملاحظ من خلال استقراء عديد الإسهامات التي قدمها جل المتدخلين في هته الندوات واللقاءات العلمية، انقسامهم إلى طائفتين: فمنهم الداعي إلى الحاجة للتمسك بقانون الإلتزامات والعقود رغم قدمه بإعتباره الشريعة العامة، وأكثرهم المنادي بضرورة التخلي عنه أمام ما شهده الواقع الإقتصادي والإجتماعي والعقدي من تغيرات عصفت بكيانه وبنيانه.

وبين هؤلاء وهؤلاء، يقف نفر من الفقه([3]) موقفا وسطا لا هم يتمسكون بحتمية الإبقاء ولا هم ينادون بضرورة التعديل الكلي، بل يذهبون إلى التشبت بمبادئ هذا القانون إلى أبعد حد، مع العمل على تعديله جزئيا – فيما يقبل التعديل- بما يراعي كافة المتغيرات الطارئة على بنية المجتمع والعقد.

ونحن في هذا المقال، لن نتطلع إلى الفصل والحسم في صحة موقف دون آخر بقدر ما سنحاول بيان مسوغات ومبررات كل فريق، والعمل في الختام على ترجيح بناء على أسباب نرى من وجهة نظرنا أنها كافية، أحد هذين الموقفين، وذلك على ضوء النقطتين التاليتين:

  • أولا: موقف المتطلعين إلى إلغاء قانون الإلتزامات والعقود – أفول الشريعة العامة-
  • ثانيا: قانون الإلتزامات والعقود دستورا للمبادئ القانونية العامة- أنصار الثبات-

أولا: موقف المتطلعين إلى إلغاء قانون الإلتزامات والعقود – أفول الشريعة العامة-

يرى أغلب الباحثين والدارسين والمهتمين بالقانون المدني عموما، وبقانون الإلتزامات والعقود على وجه الخصوص، في نصوص هذا الأخير نوعا من القصور والعجز والتخلف، وغيرها من مصطلحات يصفون بها الحالة التي أصبح عليها هذا القانون الذي- وحسبهم- ما عاد يقوى على مواكبة التطور المتسارع الذي يعيشه واقع العلاقات الإقتصادية والإجتماعية بين الأفراد.

هكذا، فبعد أن كان لقانون الإلتزامات والعقود إسهام ودور كبير في تنظيم العملية التعاقدية وهي في مراحلها المبكرة مرورا بمختلف المحطات التي قد تتخلل هذه العملية إلى حين تنفيذها وما قد يثار من منازعات بخصوصها، أصبح –وهو واقع لا ينكر- عاجزا عن إحتواء ما استجد وطرأ من تصرفات واتفاقات([4]) لم يفرضها فقط الواقع الإقتصادي بل دعت إليها كذلك حاجة الأفراد الملحة لمثل هذه العقود.

فعقد الرحلة المنظمة([5]) على سبيل المثال عقد مستحدث، لا نجد في قانون الإلتزامات والعقود ما يكفي من نصوص للفصل فيما يثار بشأنه من منازعات، بل وكيف لقانون صدر قبل قرن من الزمن أن يؤطره وينظم مختلف جوانبه والحال أنه وضع لعقود توازي بساطتها بساطة العلاقات التي كانت تنشأ زمن تشريعه ووضعه.

والأكثر من ذلك أن نفس العقود التي نظمها هذا القانون خضعت هي الأخرى في بنيتها وطريقة نشوؤها وتنفيذها وإنهائها لتحولات عميقة لا يمكن إنكارها.

مقال قد يهمك :   خطاب العرش و رهانات المرحلة الجديدة

هكذا فالبيع في صورته التقليدية والكراء كذلك والوكالة والقرض والرهن كلها عقود تأثرت برياح مختلف تلك التغيرات، الأمر الذي فرض على المشرع ضرورة التدخل -تحقيقا للملاءمة- عبر سن نصوص خاصة ([6])، كان وقعها السلبي حسب الكثيرين أقرب من أثرها الإيجابي([7]).

ثانيا: قانون الإلتزامات والعقود دستورا للمبادئ القانونية العامة- أنصار الثبات-

يستند معظم مناصري ثبات الشريعة العامة- قانون الإلتزامات والعقود- في موقفهم هذا على عدة مبررات، لعل أهمها طبيعة قواعد هذا الأخير لما تتسم به من عموم وتجرد في أقوى صوره- من جهة-(1)، ثم لتماهيها وقواعد المنطق والأخلاق والدين- من جهة أخرى-(2).

1-قواعد ق ل ع أبرز مثال على خاصية العموم والتجريد

لا يخفى على أحد ما تكتسيه خاصية العموم والتجريد من أهمية بإعتبارها أهم وسيلة لتحقيق المساواة أمام القانون.

ومن أهم الأمثلة على تجرد وعمومية نص قانون الإلتزامات والعقود نورد على سبيل المثال نص الفصل 3 من ق ل ع الذي يجري سياقه كما يلي: ” الأهلية المدنية للفرد تخضع لقانون أحواله الشخصية. وكل شخص أهل للإلزام والإلتزام ما لم يصرح قانون أحواله الشخصية بغيرذلك”.

فهذا الفصل يخاطب الفرد بغض النظر عن جنسه أو صفته أو جنسيته أو سنه- مع مراعاة قانون أحواله الشخصية-.

وهذا مثال آخر على هذه الخاصية نستقيه من الفصل 468 من نفس القانون والذي جاء فيه ” إذا كان لشخص واحد، من أجل سبب واحد، دعويان، فإن اختياره إحداهما لا يمكن أن يحمل على تنازله عن الأخرى”([8]).

يتبين إذن من خلال هذا الفصل أن أحكامه لا تخاطب فردا بعينه ولا وضعية بعينها كما أنه مجرد عن الزمان والمكان.

وإذا كان هذا هكذا، فإن هذه الخاصية، تجعل من القاعدة القانونية- جل نصوص قانون الإلتزامات والعقود- أبعد ما تكون عن التعديل وأقرب منه إلى الجمود والثبات والصمود.

2-قواعد ق ل ع: نصوص تكاد ترتقي إلى مرتبة “مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة”

من أبجديات علم القانون أن القاعدة القانونية تتنوع مصادرها إبتداء من التشريع وإنتهاءا بمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة بإعتبارها آخر ملجئ يركن إليه القاضي الذي أعوزته ما دونها من مصادر وإلا إعتبر منكرا للعدالة([9]).

ظاهر هذا القول يوحي بأن القاضي-المدني خصوصا- إن لم يجد في بقية المصادر ما يعينه على حل النازلة المعروضة أمامه، تعين عليه أن يفصل فيها بناءا على ما تمليه قواعد المنطق ومبادئ العدالة، ما سينتج عنه حتما أن يكون حكمه مجردا عن أي أساس، فيعرضه بالتالي للنقض.

والحال أن في قانون الإلتزامات والعقود من القواعد والمبادئ التي للقاضي أن يعتمدها ويلجأ إليها ويستند عليها أساسا حين تعوزه غيرها من المصادر.

ولقد آثرنا في هذا المقال، الذي لا يتسع لحصر وعدَ ما يعزز حقيقة ما تقدم، أن نقتصر بالذكر على ثلاث أمثلة نبين فيها أخد قواعد هذا القانون بالتشريع الإسلامي، وتأثره بالأخلاق، ثم تماهيه وقواعد المنطق.

مقال قد يهمك :   البناء القانوني للتجنيس في ضوء القانون المغربي  

فغني عن البيان ما لقانون الإلتزامات والعقود المغربي من روافد تعود جذورها إلى التشريع الإسلامي، فالفصل 1092 من ق ل ع الذي جاء فيه أن: “كل التزام سببه دين المقامرة أو المراهنة يكون باطلا بقوة القانون” وهو ما يتسق ومضمون قوله تعالى ” إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه”([10])، ، وكذا الفصل 870 الذي يمنع التعامل بين المسلمين بالفائدة إعمالا لقوله عز وجل “يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة “([11]).

ومما يبرز تأثر ق ل ع بمبادئ الأخلاق- وهو في الحقيقة ما لا يمكن حصره في هذا المقال-، حرصه في غير ما موضع على التأكيد على وجوب التعامل بحسن نية ([12])، وحماية الطرف “الضعيف”([13]) في العلاقة العقدية ([14])… .

وأما وجه تماهي قواعد ق ل ع وقواعد المنطق فعديدة هي الأخرى ولا يمكن حصرها، ولكن سنعمل على سرد نموذجين إثنين كما يلي:

الأول: يتعلق بفكرة الضمان في علاقتها بالفصل 78 من ق ل ع الذي يقضي بمسؤولية كل شخص عما أحدثه بفعله أو خطئه من ضرر مادي أو معنوي، فمنطوق هذا الفصل يتماشى والقاعدة الفقهية- التي في النهاية يظل يفرضها منطق التعايش الإجتماعي- التي تقول ” من أتلف فعليه الضمان “([15]).

والثاني: المرتبط بآلية الفصل 357 من ق ل ع([16]) كوسيلة لإنقضاء الإلتزامات، ذلك أن المنطق السليم عند إنشاء إلتزام يقتضي أنه إذا كان الطرفان كلاهما دائن للآخر ومدين له في الوقت نفسه ، أن تنقضي ديونهما في حدود الأقل منهما.

حاصل القول أن التشبت والتسليم بصحة موقف دون آخر مسألة غير سليمة، ومجافية لمبادئ الحياد والموضوعية المفروض على الباحث التحلي بها، ولكن يظل خيار الترجيح بين الموقفين خيارا أقرب إلى الصواب متى إستند صاحبه على ما يكفي من مبررات ومؤيدات.

وإن كان لنا من موقف حيال هذا الإختلاف- الذي يظل في النهاية ظاهرة صحية- فإنه لن يكون إلا مرجحا لصواب فكرة أنصار الثبات لسببين إثنين:

  • الطبيعة غير العادية- على النحو المبين آنفا- لقواعد قانون الإلتزامات والعقود التي تسمو به عن مجرد “قانون” إلى مرتبة الشريعة العامة.
  • العجز “المؤقت” للفكر الإنساني عن تجاوز مبادئ ذات صبغة كونية يفرضها منطق العقد وواقع التعايش الإجتماعي، عجز قد يدوم قرنا آخر من الزمن، ليعبد الطريق لقانون الإلتزامات والعقود نحو مئوية ثانية.

لائحة المراجع المعتمدة:

  • إبن القيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار ابن الجوزي.
  • المعزوز البكاي، بعض مظاهر اضطراب النظرية العامة للعقد، مقال منشور بمجلة القانون المدني، العدد الثالث، 2016.
  • الندوة الوطنية المقامة برحاب كلية الحقوق بمكناس سنة 2015 حول موضوع مئوية قانون الإلتزامات والعقود.
  • الندوة العلمية الدولية المنظمة بكلية الحقوق بمراكش سنة 2013
مقال قد يهمك :   الإجراءات الوقتية والتحفظية في التحكيم البحري

الهوامش:

[1]– حيث نظمت ندوة علمية دولية بشراكة مع نادي قضاة المغرب وهيئة المحامين بالدار البيضاء حول موضوع قانون الإلتزامات والعقود بعد مرور 100 سنة.

– الظهير الصادر بتاريخ 12 غشت 1913.[2]

[3] – راجع مداخلة الأستاذ محمد الشرقاني “تأملات في آفاق تحديث قانون الإلتزامات والعقود”، ندوة وطنية أقيمت برحاب كلية الحقوق بمكناس سنة 2015.

[4] – راجع للتوسع أكثر مداخلة الأستاذ سفيان الدريوش بعنوان: “إضطرابات النظرية العامة للعقد والتحولات الإقتصادية”، ندوة وطنية أقيمت برحاب كلية الحقوق بمكناس سنة 2015.

– هي تسمية فقهية للعلاقة بين وكيل الأسفار والمستفيد من هذه الخدمات طبقا للقانون 31.96.[5]

[6]– كقانون بيع العقار في طور الإنجاز(44.00)، وقانون كراء المحلات المعدة للإستعمال السكني والمهني(67.12)، وقانون المحاماة(28.08)، وقانون تدابير حماية المستهلك(31.08)… .

– المعزوز البكاي، بعض مظاهر اضطراب النظرية العامة للعقد، مقال منشور بمجلة القانون المدني، العدد الثالث، 2016.[7]

[8] – مثاله حق رفع الدعوى الممنوحة للمتضرر من فعل ارتكب أثناء قيام المعلم بمهمته – وفقا للفصل 85 مكرر ق ل ع-، إذ له رفع دعوى في إطار هذا الفصل والتي تخضع لأحكام وشروط وتقادم خاص، كما يبقى من حقه- ولا يحمل اختياره لها- كطريق لإقتضاء حقه على تنازله عن الدعوى في إطار دعوى المسؤولية المدنية، والكل على معنى الفصل 468 محل التحليل.

– راجع الفصل 240 من قانون الإلتزامات والعقود.[9]

– الآية 90 سورة المائدة.[10]

– الآية 130 سور آل عمران.[11]

– راجع على سبيل المثال الفصول 231، 232، و477 من ق ل ع.[12]

[13] – بطبيعة الحال- ولعل هذا هو السبب الوجيه الذي يستند عليه أنصار ضرورة تعديل ق ل ع- تعتبر الحماية التي يمنحها هذا الأخير للطرف الضعيف، حماية قاصرة بإجماع جل الباحثين والفقهاء خصوصا في ما يعرف بالعقود النموذجية وعقود الإذعان، فضلا عن التطورات المتلاحقة التي عرفها الواقع الإقتصادي والمالي والإجتماعي والتكنولوجي… لمزيد من التوسع راجع…

– كما هو الأمر بالنسبة للفصل 39 المتعلق بعيوب الرضا، والفصل 473 الذي يوجب تفسير الشك لفائدة الملتزم.[14]

– وهي قاعدة فقهية راسخة شرح معناها إبن القيم في كتابه إعلام الموقعين وغيره.[15]

– ينص الفصل 357 من ق ل ع على أنه ” تقع المقاصة إذا كان كل من الطرفين دائنا للآخر ومدينا له بصفة شخصية…”.[16]

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)