نحو مقترح يضع رفع حالة التنافي بين مزاولة مهنة المحاماة و وظيفة الأستاذ الجامعي في القانون بيد ” مجالس الهيئات “
مريم عبد المولى : باحثة في القانون الخاص
في كل مرة يقع فيها عرض مشروع قانون يرتبط بتنظيم أو إعادة تنظيم مهنة المحاماة إلا ويثار النقاش حول تداعيات هذا المشروع القانونية والحقوقية ، والمثير للانتباه هذه المرة أن جزء كبير من هذا النقاش أثير من خارج جسم مهنة المحاماة لا سيما من طرف السادة القضاة وأساتذة القانون بالجامعات ، الطائفة الأولى رأت في شرط السن المقيد لولوجها لمهنة المحاماة إجحافا في حقها وطالبت بزواله ، والطائفة الثانية رأت في مواجهة المشروع لها بفيتو” حالة التنافي” وصدا غير مبرر لباب المحاماة في وجهها على اعتبار أنهم ، أي أساتذة القانون ، هم جزء لا يتجزأ من سلسلة صانعي العدالة في المغرب ، بمراعاة دورهم المحوري في تكوين وتأهيل العنصر البشرى الذي يتولى الوظائف القانونية والقضائية .
لن نتناول النقاش الدائر حول شرط السن الذي وضعه المشروع بالنسبة لولوج السادة القضاة لمهنة المحاماة فهذا الموضوع استنفد حقه من النقاش ، لكن سأكتفي بطرق الشق الثاني من النقاش وهو الجمع بين مزاولة وظيفة التعليم الجامعي ومهنة المحاماة ورفع حالة التنافي بينهما ، من خلال التعرض للحقائق المؤطرة لهذا النقاش أولا ( المبحث الأول ) على أساس مطارحة مقترح يتعلق بوضع قرار رفع التنافي بيد ” مجلس الهيئة” كسبيل للخروج من الإشكالية التي يطرحها الجمع بين مهنة المحاماة و وظيفة الاستاذ الجامعي في القانون ( المبحث الثاني)
المبحث الأول : الحقائق المؤطرة للنقاش المتعلق برفع حالة التنافي بين مهنة المحاماة و وظيفة الأستاذ الجامعي
يستفاد من المادتين 9 و 10 من المسودة التي عرضتها هيئة المحامين بالمغرب باعتبارها المسودة الرسمية لمشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة أن حالة التنافي قائمة بين مزاولة مهنة المحاماة ومزاولة وظيفة أستاذ التعليم الجامعي .
هذا المقتضى هو موضوع الخلاف بين السادة المحامين ونظرائهم في التعليم العالي المدرسين للقانون ، فالمحامون يتشبثون بحقهم في تنظيم مهنتهم وتحديد من يلج إليها ومن لا يلج ، كما يدفعون عن حقهم في تدبير الروافد الوظيفية لمهنتهم ، وفي المقابل يعتبر الأساتذة الجامعيون أن المسودة المذكورة بالمقتضى الوارد فيها تتضمن إقصاء غير مبرر لهم ويطالبون بحذفها ورفع حالة التنافي التي تقررها والاعتراف لهم بالمقابل بحقهم في الجمع بين مزاولة مهنة المحاماة ومزاولة وظيفتهم كأساتذة جامعيين ويستدلون في طرحهم بما هو جاري به العمل في كثير من التجارب المقارنة التي رفعت حالة التنافي المذكورة كما هو الشأن مع التجربة التشريعية في تونس وسوريا ، وبعض التجارب في أوربا وأمريكا اللاتينية ناهيك عن مبررات تتصل بضرورة تسلح الأستاذ الجامعي بكل ما هو عملي على اعتبار أن القانون لا يمكن تلقينه كمادة معرفية بعيدا عن الإشكاليات العملية التي يطرحها .
تفاعلا مع هذا النقاش ، دعونا نقرر ابتداء الحقائق التالية ، أو على الأقل كهذا نتصورها :
الحقيقة الأولى : مهنة المحاماة باعتبارها مهنة حرة هي مهنة المحامين ابتداء وانتهاء ، وبالتالي لا يمكن أن نسلب هؤلاء حق تقرير من يخول لهم الحق في مزاولة مهنة الدفاع وتحت أي شروط وبناء على أية مواصفات . هذا حق اعتبره فوق أي نقاش ، والمشرع نفسه سمح للمحامين بصياغة أنظمة داخلية تنظم مهنتهم ، واعترف لهذه الطائفة من المهنيين بحقهم في إقرار أعراف وعوائد لتنظيم مزاولة المهنة ، وبالتالي فأن ينتقد منتقد سعي المحامين إلى احتكار المهنة أو تغليب الجانب الفئوي أو غيرها قول لا يصمد أمام الحقائق التشريعية نفسها المضمنة بقانون المهنة ، فهذا الجانب الفئوي معترف به تشريعيا فأي حق وتحت أي أساس قانوني يمكن أن نسلبهم هذا الحق ونجردهم منه ؟؟
الحقيقة الثانية : يجب أن نقر بأن القانون في شقه العملي هو “حرفة ” ، والأستاذ الجامعي الذي يدرس القانون وليست له دراية بأصول هذه الحرفة ، فحتما لن يوصل المعلومة القانونية لطلبته كما ينبغي ، والحرفة لا يمكن أن يتعلمها إلا من خلال الاحتكاك ومزاولة إحدى المهن القانونية ومن بينها مهنة المحاماة . وبالتالي فحينما نتحدث عن ضرورة انفتاح الجامعة على محيطها الاقتصادي والاجتماعي فهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بانفتاح الأستاذ الجامعي المدرس للقانون على المهن القانونية والقضائية ، فهو يتعلم القانون ويتعلم حرفة القانون على حد سواء ليكون أهلا لإيصال المعلومة القانونية بشكل سليم لطلبته ، وهذا أمر فرضته طبيعة القانون الذي في حقيقته ليس سوى تجريدا نظريا للمشاكل الواقعية ، وهو بهذا الوصف يتضمن شقين متلازمين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر : شق نظري ، وشق عملي ، وهذا في الواقع مجرد تحصيل حاصل بلغة ألأصوليين.
ما يراد قوله من هذا أن الفصل بين الشق العملي والشق النظري لدى الأستاذ الجامعي توجه خاطئ ، وتبعاته سلبية على طبيعة التكوين الذي يتم تلقينه في كليات الحقوق وهذه الحلقة للأسف ، أي التكوين بهذه الكليات ، ظل مغيبا وخارجا عن رادار إصلاح العدالة بالمغرب لمدة طويلة وما زال للأسف مغيبا إلى حدود الساعة ، مع أن التكوين السليم والقوي هو قطب الرحى في كل إصلاح قضائي أو قانوني .
الحقيقة الثالثة : يجب أن نسمى الأمور بمسمياتها حتى يكون الحوار والنقاش شفافا و واضحا ، نعم هناك فائدة سيقع جنيها من رفع حالة التنافي بين مزاولة مهنة المحاماة و وظيفة الأستاذ الجامعي فيما يخص مسألة جودة التكوين المقدم على صعيد كليات الحقوق ، إنما يجب أن لا نغطي الشمس بالغربال فهناك دوافع تتعلق بتحسين الوضع المادي للأساتذة الجامعيين ، فكثير من الداعين لرفع حالة التنافي يضعون نصب أعينهم تحسين أوضاعهم المادية ولا أرى شخصيا في هذا أي مشكل وليس فيه أية منافسة غير مرغوب فيها بهذا الخصوص .
وتوضيح هذا التوجه يكمن في أن فتح الباب لمزاولة المهنة من طرف أساتذة التعليم العالي ، يفيد أيضا المحامين لأنه سيرفع حالة التنافي من الجانبين ، ومن شأن هذا أن يهدم جدار “الميز العنصري” ، إن صح التعبير القائم بين كليات الحقوق ومحيطها المهني ، وبالتبعية فإن احتمال منافسة غير مرغوب فيها لا تبدو مطروحة من أوجه عديدة :
الأول : ان وظيفة الاستاذ الجامعي ليست وظيفة احتكاك مع المتنازعين المفترضين أي الزبناء المفترضين للمحاميين كما هو الحال مع وظائف أخرى كالقضاء ، والمحافظة العقارية ، ومهن التوثيق وغيرها… وبالتالي فإن المنافسة المذكورة لا تبدو مطروحة من هذه الزاوية .
الثاني : أنه واقعيا ، نقول واقعيا ، هناك محامون يزاولون وظيفة التعليم الجامعي كوظيفة رسمية والعكس صحيح ، والتجربة أبانت أن هذا ” التجسير” أي خلق جسور بين الوظيفتين لم يكن له مساس بمهنة الدفاع ولم يكن له مساس بوظيفة التدريس ، لكن لنكن صرحاء هذا الوضع أوجد نظامين متنافرين : نظام مفروض بقوة الواقع الذي أفرز مزاولة مجموعة من الأساتذة الجامعيين لمهنة المحاماة خارج دائرة المنع المفروضة قانونا ، ونظام قائم بقوة القانون يقرر حالة التنافي بين الوظيفتين . التعايش بين هذين النظامين سيؤدي إلى إقرار نظام ” اللانظام ” و” العشوائية ” و “العمل بمنطق السوق السوداء ” وهذا أمر قد يضر المهنة ويضر التعليم الجامعي مستقبلا ، ويمس بمبدأ العمل داخل الشرعية والمشروعية ، مع كل ما قد يترتب عن ذلك من إذكاء لحزازات قائمة فعلا هنا وهناك بين المنتمين لزمرة النظام الأول والمنتمين لزمرة النظام الثاني ، ومحاولة استغلال هذا الوضع لتصفية الحسابات مما يعلمه العام والخاص ومما لا فائدة من إطالة الكلام حوله في هذا الموضع .
الثالث: أن شروط المنافسة الشريفة بالمهنة لا يقتلها انتساب الأساتذة الجامعيين لها ، وإنما فتح باب مزاولة مهنة الدفاع مشرعا بدون قيد ولا شرط ، إذ ما معنى أن ينجح في امتحان الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة أزيد من 4000 متباري وأن ينجح في مباراة الملحقين القضائيين بالكاد 200 متباري ، مع أن المجتازين للمبارة هنا وهناك خرجي كلية واحدة وهي كلية الحقوق ؟ كيف نسمح بإغراق مهنة المحاماة بأفواج بشرية بدون تكوين وبامتحان شكلي يعرف العام قبل الخاص كيف ثم اجتيازه ، ونأتي ونتبجح بعد ذلك بأن المحاماة و القضاء هما جناحا العدالة وأن المحاماة هي جزء من أسرة القضاء، والحال أن الحقيقية أن أحد الجناحين وهو القضاء يراد تقويته بالصرامة في معايير ولوجه ، و الثاني أي المحاماة يراد إضعافه بإضعاف شروط ولوج مهنة الدفاع والتساهل فيها إلى حد التمييع والاستهتار غير المبرر .
الرابع : هو أن أساتذة القانون لا سيما أساتذة القانون الخاص هم قلة قليلة ، ونسبة مهمة قد لا تبدى رغبة في مزاولة المهنة أمام الإكراهات المادية واللوجستكية التي قد تقف عائقا أمامهم ، ناهيك عن أن إقرار منح مجالس الهيئات سلطة تنظيم الولوج تجعل من فرضية توافد عدد كبير من الأساتذة الجامعيين على المهنة فرضية مستبعدة.
وعلى الجملة،فإن الذي يعضد فرص المنافسة غير الشريفة ، و السمسرة ، والتعامل غير الشريف، وسيادة الممارسات غير الأخلاقية …ليس هو فتح باب المهنة في وجه الأساتذة الجامعيين الذين راكموا خبرة نظرية وعلمية مهمة ولديهم حد أذنى من الأخلاقيات والتمرس العلمي ، وإنما فتح المهنة أم أفواجا من المتبارين خريجي كليات الحقوق بأعداد هائلة وبدون امتحان حقيقي صارم يختبر قدراتهم الفكرية والعلمية ومعارفهم القانونية وقدراتهم في التحليل والمناقشة والحجاج القانوني ، فيما يشبه وضع ظهر مهنة المحاماة رهن إشارة الدولة لحل معضلات البطالة والهشاشة متناسية أنه لا يمكن حل مشكل البطالة بخلق مشكل أفظع في قطاع العدالة .
المبحث الثاني : نحو مقترح يضع قرار رفع حالة التنافي بيد ” مجالس الهيئات” :
وفقا لما سلف توضيحه قد يثار التساؤل عما ندافع عنه تحديدا ؟ ، فنحن نقول بحق هيئات المحامين في الدفاع عن مهنتهم وهذا يستشف منه الدفاع عن الإبقاء على حالة التنافي ، وفي نفس الوقت نقرر بحق الأساتذة الجامعيين المشتغلين بالقانون في المزاوجة بين وظيفتهم كأساتذة جامعين وكمحامين ؟ الجواب بكل بساطة أننا مع فكرة رفع حالة التنافي ، مع تخويل مجالس هيئات المحامين استقلالية تامة في تنظيم هذه النقطة لا من حيث شروط رفع هذا التنافي وعدد الأساتذة الجامعين الذين يمكن قبول طلباتهم وغيرها من الأمور التنظيمية المتعلقة بهذه النقطة.
وبالتالي فوضع قرار رفع حالة التنافي بيد مجالس الهيئات يبقى هو الخيار الأمثل والأنسب في نظرنا للخروج من هذا الإشكال موضوع النقاش ، لأنه كيفما كانت مخاوف هيئات المحاميين ومسوغاتها لرفض رفع حالة التنافي فإن وضع قرار رفعها بيدها يزيل كل التوجسات المثارة من طرفها ، إذ سيصبح المحامون عن طريق هيئاتهم التمثلية هم من سيتولون الحسم في شروط رفع حالة التنافي ، وقبول الالتحاق بهيئاتها من طرف الأساتذة الجامعيين ، وسيصبح لهذه المجالس الكلمة الفصل في تقرير العدد الذي تراه مناسبا ، و الشروط التي تعتبرها ملائمة ، والكل وفقا لما يخدم مصلحة الهيئة التي تتولي تنظيمها والدود عن مصالحها .
واعتقد أن هذا حل وسط ، لأنه من جهة لا يؤدي إلى رفع حالة التنافي بشكل كلي وهذا هو مطلب السادة المحامين ، لأنه إنما ينقل قرار الحسم في الرفع أو الإبقاء على حالة التنافي من يد المشرع ليد مجالس الهيئات ، وفي نفس الوقت فإنه يتيح إمكانية لرفع هذا التنافي كما تطالب بذلك فئة الأساتذة الجامعيين، وذلك كلما قدر مجلس الهيئة رفعها لأي سبب من الأسباب التي يرى أنها لن تضر المهنة ولن تمس بمصالحها ، وحتما فإن رفع حالة التنافي لن تضر في شئ مهنة المحاماةوفقا لكل المبررات المتقدمة الذكر.
إجمالا ، فإن حالة التنافي لا يجب أن يحسمها المشرع وإنما يجب إسناد حسمها لمجالس الهيئات نفسها لتكون القاعدة ” تتنافي مزاولة مهنة المحاماة مع وظيفة التدريس الجامعي للقانون ، ما لم يقرر مجلس الهيئة خلاف ذلك ” .
ونعتقد أن تكريس هذه القاعدة مسيجة بأكثر من مبرر يمكن تلخيصها في ثلاث :
أولا : أن المشرع نفسه اعترف لمجلس الهيئة بموجب المادة 91 من القانون المنظم لمهنة المحاماة بحقه في ” حماية حقوق المحاميين ” بل واعترف لها بحق صياغة ” النظام الداخلي للهيئة” ومن هذا المنطلق يمكن إسناد حسم رفع حالة التنافي له ، طالما أن هذا المجلس هو المؤتمن على حماية حقوق المنتسبين إليه .
ثانيا : وضع قرار رفع حالة التنافي بيد مجلس الهيئة هو قبل كل شئ رسالة طمأنة لجسم المحاماة أنه لا يمكن فرض هيئة أخرى عليهم بدون موافقتهم و سيساهم هذا حتما في استقبال جيد وقبول مستساغ للأساتذة الجامعيين ضمن جسم المحاماة .
ثالثا :أن هذا سيضع حدا للوضع القانوني الشاذ الذي سلفت الإشارة إليه ، وهو استشراء ما يمكن تسميته ب” السوق السوداء” في مزاولة مهنة المحاماة من طرف بعض الأساتذة الجامعيين أو ممارسة المهنة وفقا لمنطق ” القطاع غير المهيكل” ، وهي ممارسة من شانها أن تضر المهنة و وظيفة التعليم الجامعي على حد سواء، مع الاعتراف في نفس الوقت أن المزاولين للمهنة حاليا من الأساتذة الجامعيين أبانو عن اقتدار وكفاءة والتزام كبير بأخلاقيات المهنة وبأعرافها واحترام كبير لجميع مكوناتها .
تعليقات 0