البيعة ونظام الحكم في الدساتير المغربية

السيادة الرقمية في المغرب

نقل وأخذ الأعضاء البشرية من الجثث في التشريع المغربي

10 أغسطس 2021 - 3:10 م المنبر القانوني
  • حجم الخط A+A-

صادقي عبد الرزاق خريج ماستر القانون الجنائي والتعاون الجنائي الدولي

مقدمة:

     عملت مختلف التشريعات على توفير الحماية اللازمة لجسم الإنسان، وذلك من خلال الاعتراف بالحق في السلامة الجسدية لأي فرد، والمعاقبة على أي اعتداء يطال جسم الإنسان باعتباره الكيان الذي يباشر وظائف الحياة، وعلى هذا الأساس، وباعتبار الأعضاء البشرية جزء لا يتجزأ من جسم الإنسان، فقد عملت مختلف التشريعات على وضع جدار حماية من أي تصرف قد يؤدي إلى العبث بمكونات الجسد الإنساني .

والمشرع المغربي وتماشيا مع ما تشهده الساحة الطبية والعلمية من تطور متسارع في مجال نقل وزراعة الأعضاء البشرية، عمل على تنظيم هذا المجال من خلال إصدار القانون رقم 16.98 المنظم للتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها، وقد عمل المشرع من خلال هذا القانون على تحديد الشروط والمسطرة الواجب إتباعها من أجل القيام والاستفادة من هذه العمليات في إطار قانوني سليم يضمن الحفاظ على السلامة الجسدية لكل من المتبرع والمتبرع له، كما يبعد المسؤولية عن الطبيب الذي يقوم بهذه العمليات على إعتبار أنه يقوم بعمل مرخص له به قانونا.

 فمواجهة أمراض العصر على خطورتها، تقتضي استحداث أساليب طبية جديدة تساعد إلى حد ما في علاج المرض، ولعل أبرز ما توصل إليه الطب الحديث هو عمليات نقل وزراعة الأعضاء البشرية من إنسان إلى إنسان آخر، هذه العمليات التي حققت نجاحا ملموسا وازداد الطلب عليها يوما بعد يوم، مما أدى إلى البحث عن مصدر جديد لهذه الأعضاء .

وقد أدت هذه الحاجة المتزايدة للأعضاء، خاصة الأعضاء التي لا يوجد مثيل لها كالقلب والكبد، إلى النظر إلى الجثة كمصدر لبعض الأعضاء في حالة عدم توافر الأعضاء المطلوبة من الأحياء.

وإذا كان هذا الموضوع يستمد أهميته العملية من خلال الطلب المتزايد على هذا النوع من العمليات، فإن أهميته العلمية تبرز من خلال الإشكالات التي يطرحها موضوع تحديد لحظة الوفاة حتى يمكن نقل العضو وفق الشروط اللازمة لذلك، وهذا ما جعلنا نولي هذا الموضوع أهمية بالغة والخوض في حيثياته لمحاولة تعزيز ثقافة التبرع داخل المجتمع المغربي.

وسيتم دراسة هذا الموضوع من خلال معالجة الإشكالية التالية :

ما هي الضوابط المنظمة لعمليات نقل وأخذ الأعضاء البشرية من الجثث ؟

وللإجابة عن هذه الإشكالية فقد تم تقسيم الموضوع على النحو التالي :

الفقرة الأولى : تحديد معنى الميت في الاستئصال من الجثث

الفقرة الثانية : شروط أخذ الأعضاء البشرية من الجثث

الفقرة الأولى : تحديد معنى الميت في الاستئصال من الجثث

لكي يتمكن الطبيب من القيام بإجراء عملية نقل عضو أو نسيج من جثة ميت إلى جسد إنسان حي لابد من التأكد من الوفاة، فتحديد لحظة الوفاة تعتبر مسألة على جانب كبير من الأهمية في مجال عمليات نقل الأعضاء من الجثث خاصة الأعضاء الوحيدة كالقلب والكبد، وقد شكلت مسألة تحديد لحظة الوفاة محل إختلاف بين علماء الطب والدين والقانون بشأن المعيار الواجب الأخذ به في تحديد حدوث الوفاة .

وعلى هذا الأساس سيتم التطرق أولا للمعنى القانوني للميت ( أولا ) على أن يتم بعدها التطرق للمعنى الطبي والعلمي للميت ( ثانيا ) .

أولا : المعنى القانوني للميت

على الرغم من أن مسألة تحديد لحظة الوفاة هي اختصاص طبي وعلمي، إلا أن القانون كذلك عمل على تنظيم هذه المسألة بما يتماشى مع ما يشهده المجال الطبي من تطورات علمية وتقنية، وبالتالي فإذا كان موت الإنسان ظاهرة بيولوجية، فإن ذلك لا ينفي أيضا كونه واقعة قانونية لها آثارها القانونية .

ومن خلال تفحص مجموعة من القوانين المقارنة يتضح أن غالبيتها عملت على  تحديد لحظة الوفاة، وعلى ذلك نجد أن القانون الأمريكي عمل على تحديد معيار للوفاة، ففي عام 1981 تم اقتراح تعريف موحد للموت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو التوقف التام لجميع وظائف المخ، وقد تبنت أكثر الولايات هذا المعيار، وقبل ذلك صدر في ولاية كنساس الأمريكية تشريع بتاريخ 01-07-1970 قرر أن مركز الحياة هو المخ وليس القلب[1].

أما في فرنسا فقد أشار المرسوم رقم 2057 لعام 1947 والخاص بتشريح الجثث لأسباب علمية، وكذلك القانون رقم 890 لعام 1949 الخاص بترقيع القرنية إلى وجوب إثبات الوفاة بمعرفة طبيبين يتبعان الأساليب العلمية في التثبت من الوفاة والتي يصدر بها قرار من وزير الصحة، وفي عام 1986 عرف وزير الصحة الوفاة في قراره رقم 67 بأنها ” توقف وظائف المخ بالانعدام التام لأي رد فعل تلقائي واسترخاء العضلات وانعدام الانعكاسات الحدقية “، كما أشار نفس القرار إلى مجموعة من الإحتياطات التي يجب على الأطباء الإعتداد بها عند تحديدهم لحدوث الوفاة من عدمه[2] .

أما في التشريع المغربي، فمسألة تحديد لحظة الوفاة لم تكن تطرح أي إشكال في إطار ظهير 1952 المرخص للأخذ من الأموات لأنه جاء أسبق تاريخا من ابتداع فكرة موت الدماغ، لكن مع صدور ظهير 25 غشت 1999 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها، تم تكريس معيار الموت الدماغي من طرف المشرع، وعلى هذا الأساس نص المشرع المغربي في المادة 21 من الظهير المذكور عل أنه لا يجوز القيام بعملية أخذ الأعضاء إلا بعد وضع محضر معاينة طبي يثبت وفاة المتبرع دماغيا، على أن تكون وفاته خالية من كل الشكوك[3] .

وقد تم تحديد الوفاة الدماغية في المادة الأولى من قرار وزير الصحة رقم 1638.03 الصادر في 10 نوفمبر 2003 المتعلق بتحديد لائحة المستشفيات العمومية المعتمدة للقيام بعمليات أخذ الأعضاء والأنسجة البشرية على أنها ” التوقف الذي لا رجعة فيه للوظائف الدماغية للمريض، بحيث يتم تشخيص الوفاة الدماغية انطلاقا من علامات سريرية وشبه سريرية تتم معاينتها في آن واحد على كل مكونات الدماغ “[4] .

وبالتالي فمن الممكن القول أنه لا يجب أن يقع على عاتق المشرع وضع تعريف للموت أو وضع معايير قانونية لتحديد الوسائل أو الطرق التي يمكن بها التأكد من الوفاة، بل يتعين أن تترك هذه المسألة الفنية البحتة لتقدير الأطباء طبقا للقواعد الفنية والأصول العلمية المتعارف عليها، فوضع تعريف قانوني للموت لا يمكن أن يساير أو يلاحق تقدم العلوم البيولوجية وتطور المكتشفات الطبية الفنية الحديثة، ومع ذلك يمكن للمشرع أن يضع بعض قواعد السلوك التي يسترشد بها الأطباء في تحديد الوفاة والتي تساعدهم في عملهم ورسالتهم وتوفر لهم الطمأنينة والحماية لأداء مسؤوليتهم[5]  .

ثانيا : المعنى الطبي والعلمي للميت

لما كان التثبت من موت المعطي أحد الموضوعات الهامة في مجال عمليات نقل وزرع الأعضاء، خاصة الأعضاء الحيوية كالقلب والكبد، فقد أثيرت مشكلة تحديد لحظة الموت الحقيقي، خاصة بعد إكتشاف العلوم الطبية الحديثة للحدود الفاصلة بين الحياة والموت .

لذلك فهناك ما يسمى بالمعيار التقليدي لتحديد لحظة الوفاة، هذا الأخير الذي يعتمد في تحديد لحظة الوفاة على ثلاث معايير هي موت القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي[6]،وهذا ما يسمى بالموت الظاهري الذي بنت عليه النظرية التقليدية آرائها، وعلى هذا فإذا ظلت الحياة النباتية ( العضوية) موجودة رغم موت جذع المخ لأن عمل القلب ما يزال موجودا بفعل أجهزة الإنعاش الطبية المتطورة فلا يكون الإنسان ميتا.

مقال قد يهمك :   عناصر الوثيقة في القواعد الفقهية و قواعد القانون

وبالتالي فهذا المعيار أصبح غير كاف وغير مطابق للواقع، فتوقف القلب عن العمل وتوقف الجهاز التنفسي ليس دليلا حاسما على الموت الحقيقي للإنسان، لأنه من الممكن أن يتوقف قلب الإنسان عن العمل في نفس الوقت الذي تظل فيه خلايا القلب حية، فموت هذا الإنسان ليس إلا موتا ظاهريا، ولذلك فمن الممكن إعادة القلب إلى عمله الطبيعي عن طريق استخدام بعض الأجهزة الصناعية كوسائل الإنعاش أو الصدمات الكهربائية[7] أو تدليك القلب، وفي هذه الحالة تبقى خلايا المخ حية عاملة حتى بعد توقف القلب والجهاز التنفسي طالما يستمر إمداد هذه الخلايا صناعيا بالدم المحمل بالأكسجين[8] .

كما يرى أنصار النظرية التقليدية أن الموت هو خروج الروح من الجسم ويدل عليه برودة في الجسم متدرجة ولكنها متزايدة ومصحوبة بتوقف كل أجهزة الجسم عن أداء وظائفها، من هنا فإن الشخص الذي شخص على أنه ميت دماغيا يجب ألا يعد أبدا ميتا حقيقة، وهذا لأنه لا يزال محتفظا بحرارة الحياة التي تنبئ عن وجود الروح في جسمه، كما أن نظرية موت الدماغ كانت الحقيقة وراء الأخذ بها هي الحصول على الأعضاء من أجل القيام بعمليات زراعة الأعضاء[9].

لكن رغم ذلك، فالنظرية التقليدية تبقى قاصرة عن تحديد معايير الموت بما يتماشى مع واقع اليوم، فالوقائع تشير إلى مئات الحالات تحصل لبشر فيتوقف القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي ثم تعود لهم الحياة ثانية، بل في بعض الحالات يعودون إلى الحياة في آخر اللحظات بعد مراسيم الدفن أو حتى بعد وضعه في تجويف المقبرة، مما يدل على أن هذا المعيار غير دقيق .

وبعد قصور النظرية التقليدية عن وضع معايير دقيقة للموت، فقد اتجه العالم حاليا إلى اعتبار الشخص متوفى إذا ماتت خلايا المخ على الرغم من بقاء قلبه حيا، ومتى ماتت خلايا المخ بصورة كلية ونهائية يستحيل عودتها إلى الحياة، وما بقاء القلب حيا وسائر الأعضاء في هذه الحالة إلا ضرب من ضروب الإنعاش الصناعي، لغاية المحافظة على القيمة التشريحية والبيولوجية لهذه الأعضاء[10] .

وقد عرف هؤلاء الأطباء موت الدماغ بأنه تلف دائم في الدماغ يؤدي إلى توقف دائم لجميع وظائفه بما فيها وظائف جذع الدماغ، وعند البعض أن الجزء الخطير هو جذع الدماغ، وليس هناك أي حالة معروفة ثبت فيها موت جذع الدماغ حدثت بعدها استعادة للوعي، فموت الإنسان ينتج عن وفاة جذع الدماغ سواء كان ذلك نتيجة لتوقف القلب أو لوفاة جذع المخ، ثم تبدأ بعدها الأعضاء الأخرى بالتحلل والتعفن مباشرة[11].

ومن أهم الوسائل للتحقق من موت خلايا المخ استخدام جهاز رسم المخ الكهربائي الذي يمكن بواسطته تسجيل إرسال أو استقبال أي ذبذبات كهربائية، وتعتبر هذه الوسيلة من أهم وسائل إثبات حالة المخ وكيفية أدائه لوظائفه[12]، وبالتالي متى توقف هذا الجهاز عن إعطاء إشارات، فإن ذلك يعني موت خلايا المخ، ومتى حدث هذا فإنه من الاستحالة عودتها إلى الحياة أو الوعي أو ممارسة حياة طبيعية، وهذا ما يسمى بحالة دخول المريض في مرحلة الغيبوبة الكبرى أو النهائية .

وبالتالي فعمليات نقل وزراعة الأعضاء كانت من أبرز الممارسات الطبية المستحدثة التي أحدثت انقلابا حقيقيا في مسألة تحديد لحظة الوفاة، والسبب في ذلك من الناحية الفنية يرجع إلى أن فاعلية زراعة العضو المنقول إنما تتوقف عل سريان الحياة في الأنسجة والخلايا المكونة له، الأمر الذي لا يتأتى إلا بنقل العضو من شخص على قيد الحياة أو من شخص حديث الوفاة أي لا زال في جسمه بعض علامات الحياة، فنقل الأعضاء من الأجساد التي توقفت فيها الدورة الدموية وانقطع الري الدموي عن كافة أجزائها يعد من الناحية العلمية أمرا غير ذي جدوى وذلك لفساد وتلف الخلايا المكونة للأعضاء[13].

الفقرة الثانية : شروط أخذ الأعضاء البشرية من الجثث

لما كان نقل الأعضاء من الأحياء لا يوفر إلا بعض الأعضاء القليلة التي تعرف على كونها تتجدد، فقد ظهرت الحاجة إلى اعتماد الجثث كمصدر للتزود بالأعضاء، خاصة تلك الأعضاء التي لا تتجدد كالقلب، وذلك بعد التحقق من وفاة الشخص وفق المعايير المحددة سلفا .

وبعدما عمل المشرع على إباحة الاستئصال من الجثث، فقد أحاطه بمجموعة من الشروط التي يجب تحققها قبل القيام بعملية الاستئصال وإلا تعرض من خالفها للعقوبات المقررة بهذا الخصوص، وتتجلى هذه الشروط في ضرورة التحقق من الوفاة ( أولا ) ثم صدور الموافقة بالاستئصال من الجثة ( ثانيا ) وكذا ضرورة إتباع الإجراءات  القانونية التي حددها المشرع   ( ثالثا ) .

أولا : التحقق من الوفاة

بعد استعراض المعايير المعتمدة للتحقق من الوفاة والمتمثلة في المعيار التقليدي الذي يرتكز على ثلاث ركائز، وهي توقف القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي، وكذا المعيار الحديث الذي يقوم على أسس علمية وطبية بحيث يرتكز على الموت الدماغي الذي يسمح في غالب الأحيان باستئصال الأعضاء وهي صالحة للنقل والزرع لأعضاء حيوية في جسم الإنسان كالقلب والكلي والعيون وذلك منذ لحظة موت المخ، ومتى أعلنت حالة الوفاة فإنه يجب الإبقاء على الأعضاء المراد استئصالها باستبقاء وسائل الإنعاش الصناعي حفاظا على الأعضاء من التلف .

والمشرع المغربي وكغيره من التشريعات الحديثة، إشترط لأخذ العضو من المتوفى ضرورة التحقق من الوفاة الحقيقية، وفي هذا الصدد اعتمد المشرع المغربي على معيار موت الدماغ، وهذا ما نص عليه بمقتضى المادة 22 من القانون 16.98 التي جاء فيها   ” يتم وضع محضر معاينة الوفاة الدماغية بناء على علامات سريرية وشبه سريرية متطابقة يحددها وزير الصحة باقتراح رئيس هيئة الأطباء الوطنية، ويبين محضر إثبات الوفاة الدماغية بناء على العلامات التي ارتكز عليها الأطباء المتخصصون لمعاينة الوفاة “[14] .

ولتقرير الوفاة الدماغية لأي شخص، فقد جاءت المادة 21 من القانون 16.98 لتأكد على أن تقرير الوفاة الدماغية يكون من اختصاص طبيبين من المؤسسة الإستشفائية يعينان خصيصا لوضع محضر المعاينة الذي يثبت وفاة المتبرع دماغيا، ويتم تعيينهما من طرف وزير الصحة بعد استطلاع رأي المجلس الوطني لهيئة الأطباء الوطنية .

ولإضفاء مزيد من الشفافية والمسؤولية لعمليات تحديد الوفاة الدماغية، فقد جاءت المادة 21 كذلك لتأكد على أن الطبيبان اللذان يضعان محضر المعاينة لتحقق وفاة المتبرع، لا يمكنهما بأي حال من الأحوال الالتحاق بالفرقة الطبية المكلفة بأخذ وزرع العضو المأخوذ من الشخص الذي عاينا وفاته، وذلك تجنبا لأي تواطؤ مع أي جهة بخصوص الاستئصال .

ولعل مختلف التشريعات المقارنة ذهبت في نفس الاتجاه الذي ذهب إليه المشرع المغربي، حيث نجد أن المشرع الجزائري في الفقرة الأولى من المادة 164 من قانون حماية الصحة وترقيتها نص على عدم جواز انتزاع الأعضاء والأنسجة من الأشخاص المتوفين إلا بعد الإثبات الطبي والشرعي للوفاة حسب المقاييس العلمية التي يحددها الوزير المكلف بالصحة العمومية[15] .

مقال قد يهمك :   جريمة أم جناية في قوانين الشركات؟

وبالتالي، وبعد التحديد الدقيق للوفاة وفق المعايير التشريعية، فإنه يكون بمقدور الأطقم الطبية القيام بعملية استئصال الأعضاء وذلك طبعا بعد الحصول على الموافقة بالاستئصال من الجثة .

ثانيا : صدور الموافقة بالاستئصال من الجثة

يكتسي جسم الإنسان حرمة خاصة سواء أثناء حياته أو بعد مماته، وإذا كانت الموافقة الصريحة والحرة ضرورية لشرعية المساس بجسم المتبرع وهو على قيد الحياة، فإنها تكون كذلك أيضا فيما يخص الاستئصال من الجثث، ومهما كان الغرض منها سواء لأغراض علاجية أو لأغراض علمية، ولا يستطيع الطبيب الجراح استئصال عضو من جثة المتوفى إلا بعد صدور إذن بالاستئصال، وقد يصدر هذا الإذن من المتوفى أثناء حياته، أو من أسرته أو أقربائه المقربين بعد وفاته .

وعلى هذا الأساس يمكن للشخص الذي يريد التبرع بأعضائه بعد وفاته أن يوصي بها قبل حدوث الوفاة، وتخضع إرادة الموصي بأعضائه للقواعد العامة للرضا بحيث يجب أن يكون الشخص الموصي بأعضائه كامل الأهلية، بأن يكون بالغا، عاقلا، راشدا، غير محجور عليه بأي من عوارض الأهلية، فطبقا للقانون 16.98 وذلك بمقتضى المادة 13 منه، فإنه يشترط فيمن يريد التبرع بأعضائه بعد مماته أن يكون راشدا يتمتع بكامل أهليته، وكمال الأهلية المدنية لا يكون إلا ببلوغ تمام سن 18 سنة حسب ما حددته مدونة الأسرة في مادتها 209 ، فمتى توافرت لدى الشخص أهلية الإيصاء يمكنه أن يتصرف في جثته كما يتصرف في أمواله[16] .

كما يجب كذلك أن يصدر رضا حر وصريح من المعطي قبل وفاته، فلا يعتد بالرضا الصادر منه إذا تعرض لأي إكراه أو ضغط أيا كان نوعه، كالوعد بمبلغ من النقود أو الحصول على ميزة معينة مقابل تنازله عن أحد أعضائه بعد موته .

ولعل الوسيلة الفعالة لسرعة نقل العضو بمجرد حدوث الوفاة حتى يكون العضو صالحا للزرع تقتضي اشتراط الموافقة المسبقة من المتوفى، ولعل من بين أفضل الطرق إلى ذلك أن يكون قد كتب وصية بذلك[17] .

وإذا كان التبرع بالعضو جائزا شرعا وقانونا، فإن الوصية به قبل الوفاة أيضا مشروع وجائز، وذلك لعدة أسباب أهمها أن في وصيته بعضو من أعضائه نفع وحياة لغيره من إخوانه في الإنسانية، ثم أن مصير هذا العضو إلى التراب لذلك كان من الأولى الإيصاء به لمن يحتاجه، إضافة لكون الموصي يحيي نفسا إنسانية ويكسب ثوابا عظيما بعد موته[18] .

ولما كان المستقر عليه في القانون أنه لا يعتد بوصية من ليس له أهلية الإيصاء كالصبي أو المجنون، إلا أن المشرع المغربي – وعلى غرار العديد من التشريعات – أجاز في مجال التبرع بالأعضاء البشرية الإيصاء بجثة القاصر، مع ضرورة وجود ممثل قانوني ينوب عن القاصر أو الخاضع لأي إجراء من إجراءات الحماية القانونية في اتخاذ قرار الموافقة أو الرفض عندما يتعلق الأمر بأخذ عضو منه، ما لم يعبر المتوفى عن رفضه الأخذ منه، وهذا ما نصت عليه المادة 20 من القانون رقم 16.98 صراحة حيث جاء فيها ” إذا كان الشخص المتوفى قاصرا أو كان راشدا خاضعا لإجراء من إجراءات الحماية القانونية، فلا يجوز أخذ عضو من أعضائه إلا بموافقة ممثله القانوني التي تضمن في السجل الخاص من طرف الطبيب المدير أو ممثله، شريطة ألا يكون المتوفى قد عبر وهو على قيد الحياة عن رفضه التبرع بأعضائه ” وعلى هذا الأساس فالوصية بجثة القاصر تتوقف على موافقة النائب الشرعي[19] .

لكن الواقع العملي يفرز لنا أنه غالبا ما يموت الشخص دون أن يقرر التصرف في جثته، خاصة في ظل الثقافة المغربية السائدة التي لم تستوعب بعد المس بجثة الميت بقصد انتزاع أعضائه، كما أن الشخص الذي يتمتع بصحة جيدة لا يفكر عادة في السماح باستئصال أجزاء من جثته بعد الوفاة لزرعها للمرضى الذين يحتاجون إليها، مما ينقل بالتالي قرار التبرع إلى أسرة المتوفى أو أقربائه، وذلك حماية لحقوقهم المعنوية على جثة قريبهم .

وبالتالي فالقاعدة أنه إذا لم يقرر المتوفى – أثناء حياته – السماح باستئصال أعضائه بعد الوفاة، فإن الطبيب الجراح لا يستطيع إجراء هذا الاستئصال إلا بعد الحصول على موافقة أسرته، أي أن سلطة التصرف في جثة المتوفى تنتقل إلى أسرته بعد الوفاة بشرط ألا يتعارض هذا التصرف مع إرادة المتوفى أثناء الحياة[20]، وأفراد الأسرة المقصودين هنا هم كما حددتهم المادة 16 من القانون 16.98 الزوج أولا ويليه الأصول ثم الفروع .

وقد ظهر اتجاه يقوم على افتراض رضا المتوفى ما لم يصدر اعتراض منه أثناء حياته أو من جانب أقاربه بعد وفاته، ولقد أخذ المشرع المغربي أيضا بهذا الاتجاه، بحيث نجد المادة 16 من القانون رقم 16.98 سمحت بإجراء عمليات أخذ الأعضاء لأغراض علاجية أو علمية لأشخاص متوفين لم يعبروا وهم على قيد الحياة عن رفضهم الخضوع لعمليات من هذا النوع .

ولتفادي كل هذه الصعوبات المرتبطة بالرضا، اقترح البعض عمل بطاقة خاصة للتبرع بالأعضاء يحملها كل شخص معه بصفة دائمة، مثل بطاقة تحقيق الشخصية أو رخصة القيادة، وفي هذه البطاقة يستطيع كل شخص أن يأذن أو لا يأذن باستئصال الأعضاء من جثته بعد الوفاة، ولعل هذا ما ذهب إليه مشروع القانون الألماني لسنة 1979، والذي نص على تخصيص خانة خاصة في بطاقة تحقيق الشخصية للتصرف في الجثة بعد الوفاة، فإذا دون في هذه الخانة حرف ( w ) وهو اختصار لكلمة ( widerspruchu )، فهذا يعني الرفض ومن ثم لا يجوز بأي حال من الأحوال استئصال أي عضو من جثة المتوفى[21] .

وبعد توافر كل الشروط السابقة لا يبقى سوى إتباع الإجراءات المسطرية التي حددها المشرع المغربي .

ثالثا : الشروط الإجرائية

إن توافر الشروط الموضوعية السابقة الذكر لا يعني الشروع في عمليات النقل والزرع، بل يجب كذلك إتباع الشروط الإجرائية التي حددها المشرع بمقتضى القانون 16.98.

بحيث يجب على الشخص الذي يريد منح أحد أعضائه بعد وفاته أن يسجل تصريحه لدى رئيس المحكمة الابتدائية التابع لها محل إقامة المتبرع أو أمام رئيس المحكمة الابتدائية التابع لها المستشفى العمومي المعتمد الذي ستتم فيه عملية الأخذ والزرع أو أمام قاضي من المحكمة المعنية يعينه الرئيس خصيصا لذلك الغرض، ويتم تسجيل التصريح دون صوائر بعدما يقتنع القاضي بأن المتبرع المحتمل يتصرف بإرادة حرة وعن إدراك لما سيقدم عليه، ولذلك يساعد القاضي طبيبان يعينهما وزير الصحة باقتراح من رئيس المجلس الوطني لهيئة الأطباء الوطنية، يعهد إليهما بأن يشرحا للمتبرع بالعضو أبعاد عملية التبرع وللقاضي الفائدة العلاجية المرجوة من عملية الأخذ .

إضافة إلى ذلك فقد نصت المادة 14 من القانون 16.98 على أنه تحيط كتابة ضبط المحكمة المختصة المؤسسة المذكورة علما بالتصريح المسجل وبمضمونه، ويمكن للمتبرع المحتمل أن يلغي التصريح الذي سبق أن قام به وفق نفس الأشكال المذكورة ولدى نفس السلطات .

مقال قد يهمك :   يونس مليح: المجلس الأعلى للأمن بين التأطير الدستوري ورهانات التنزيل

كما يجب على كل شخص يريد أن يعبر عن اعتراضه على أخذ عضو من أعضائه بعد مماته أن يقدم تصريح بذلك وفق نفس الكيفية التي يقدم بها تصريح التبرع السابق الذكر .

إضافة إلى ذلك، ولاستكمال الإجراءات، فقد جاءت المادة 16 من نفس القانون لتأكد على أن عمليات أخذ الأعضاء من أشخاص متوفين يجب أن تتم في مستشفيات عمومية معتمدة تحدد قائمتها من طرف وزير الصحة، وألزمت المادة 17 بضرورة مسك المستشفيات المشار إليها لسجل خاص يعد لتلقي التصريحات المنصوص عليها، وتبلغ لزوما البيانات والتصريحات المضمنة فيه إلى وكيل الملك لدى المحكمة المختصة .

وبالتالي فهذه المساطر من شأنها إضفاء مزيد من المصداقية على عمليات الأخذ من الجثث، كما أن تقديم التصريح أمام المحكمة يعتبر من أقوى طرق الإثبات لأن الوثيقة المتعلقة بالرضا يتم تحريرها بمعرفة جهة رسمية[22] .

خاتمة

     إن نقل وأخذ الأعضاء البشرية من الجثث، وإن كان قد حقق نجاحا كبيرا في إنقاذ الأرواح وعلاج الأمراض المستعصية في مختلف أنحاء العالم، فإن المجتمع المغربي لا زال لم يتشبع بعد بثقافة التبرع بالأعضاء البشرية حتى وإن كان مصيرها التراب، وهذا راجع من جهة إلى انعدام الثقة بين المواطنين وبعض ضعاف النفوس من المسؤولين عن هذه العمليات خوفا من أن تصبح أعضاءهم بضاعة في إطار الاتجار بالأعضاء البشرية، ومن جهة أخرى الاعتقادات والثقافة السائدة حول حرمة الموتى والتي يجب تضافر الجهود سواء من القيمين الدينيين أو جمعيات المجتمع المدني لتصحيح هذه المغالطات وتشجيع المغاربة على التبرع بأعضائهم.

وإذ نقدم هذه الدراسة المتواضعة، فإننا نتوخى من ورائها المساهمة في نشر ثقافة التبرع بالأعضاء وخاصة من الجثث التي تتحقق فيها شروط الأخذ والنقل حتى لا تضيع تلك الأعضاء الثمينة تحت التراب.


لائحة المراجع

  • شعبان أبو عجيلة عصارة، الإنعاش الاصطناعي وتحديد لحظة تحقق الوفاة، مجلة العلوم القانونية والشرعية، العدد السابع، ديسمبر 2015
  • محمود أحمد طه، المسؤولية الجنائية في تحديد لحظة الوفاة، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث، 2001
  • نور الدين الشرقاوي الغزواني، قانون زرع الأعضاء البشرية ( ظهير 25 غشت 1999 )، د . م، د . ط
  • كريمة محروك، الحماية الجنائية للأعضاء والأنسجة البشرية – دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الماستر في العلوم الجنائية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، 2014-2015
  • أحمد شوقي عمر أبو خطوة، القانون الجنائي والطب الحديث – دراسة تحليلية مقارنة لمشروعية نقل وزرع الأعضاء البشرية، المطبعة العربية الحديثة، الطبعة الأولى، 1986
  • منذر الفضل، التصرف القانوني في الأعضاء البشرية،دار الثقافة، الطبعة الأولى، 2002
  • سميرة عايد الديات، عمليات نقل وزرع الأعضاء البشرية بين الشرع والقانون، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 1999
  • عادل عبد الحميد الفجال، ضوابط إستئصال الأعضاء البشرية من الجثث الآدمية من الناحيتين القانونية والشرعية، منشأة المعارف، الطبعة الأولى، 2010
  • محمد عبد الوهاب الخولي المسؤولية الجنائية للأطباء عن إستخدام الأساليب المستحدثة في الطب والجراحة – دراسة مقارنة – ( التلقيح الصناعي، طفل الأنابيب، نقل الأعضاء )، د . م، الطبعة الأولى، 1997
  • مهند صلاح أحمد فتحي العزة، الحماية الجنائية للجسم البشري في ظل الإتجاهات الطبية الحديثة، دار الجامعة الجديدة، طبعة 2002
  • أسماء بندور، التبرع بالأعضاء البشرية، رسالة لاستكمال دبلوم الدراسات العليا المعمقة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – أكدال – الرباط، جامعة محمد الخامس، 2006-2007
  • فوزية عبد الستار، تقرير مقدم في ندوة علمية تحت عنوان ” الأساليب الطبية الحديثة والقانون الجنائي”
  • طارق سرور، نقل الأعضاء البشرية بين الأحياء – دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، 2001

الهوامش:

[1]  شعبان أبو عجيلة عصارة، الإنعاش الإصطناعي وتحديد لحظة تحقق الوفاة، مجلة العلوم القانونية والشرعية، العدد السابع، ديسمبر 2015، ص 183

[2]  محمود أحمد طه، المسؤولية الجنائية في تحديد لحظة الوفاة، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث، 2001، ص 16، 17

[3]  نور الدين الشرقاوي الغزواني، قانون زرع الأعضاء البشرية ( ظهير 25 غشت 1999 )، د . م، د . ط، ص 138،139

[4]  كريمة محروك، الحماية الجنائية للأعضاء والأنسجة البشرية – دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الماستر في العلوم الجنائية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، 2014-2015 ، ص 92

[5]  أحمد شوقي عمر أبو خطوة، القانون الجنائي والطب الحديث – دراسة تحليلية مقارنة لمشروعية نقل وزرع الأعضاء البشرية، المطبعة العربية الحديثة، الطبعة الأولى، 1986، ص 202، 203

[6]  منذر الفضل، التصرف القانوني في الأعضاء البشرية،دار الثقافة، الطبعة الأولى، 2002، ص 120

[7]  أحمد شوقي عمر أبو خطوة، م . س، ص 171، 172

[8]  سميرة عايد الديات، عمليات نقل وزرع الأعضاء البشرية بين الشرع والقانون، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 1999، ص 263

[9]  عادل عبد الحميد الفجال، ضوابط إستئصال الأعضاء البشرية من الجثث الآدمية من الناحيتين القانونية والشرعية، منشأة المعارف، الطبعة الأولى، 2010، ص 55

[10]   سميرة عايد الديات، م . س، ص 264

[11]  عادل عبد الحميد الفجال، م . س، ص 59، 60

[12]  محمد عبد الوهاب الخولي المسؤولية الجنائية للأطباء عن إستخدام الأساليب المستحدثة في الطب والجراحة – دراسة مقارنة –        ( التلقيح الصناعي، طفل الأنابيب، نقل الأعضاء )، د . م، الطبعة الأولى، 1997، ص 233

 مهند صلاح أحمد فتحي العزة، الحماية الجنائية للجسم البشري في ظل الإتجاهات الطبية الحديثة، دار الجامعة الجديدة، طبعة 2002، ص 46  [13]

[14]    وقد تم تحديد الوفاة الدماغية في المادة الأولى من قرار وزير الصحة رقم 1638.03 الصادر في 10 نوفمبر 2003

[15]   كريمة محروك، م . س، ص 109

[16]  أسماء بندور، التبرع بالأعضاء البشرية، رسالة لاستكمال دبلوم الدراسات العليا المعمقة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – أكدال – الرباط، جامعة محمد الخامس، 2006-2007، ص 115

[17]   فوزية عبد الستار، تقرير مقدم في ندوة علمية تحت عنوان ” الأساليب الطبية الحديثة والقانون الجنائي”، ص 115

[18]    كريمة محروك، م . س، ص 95

[19]    أسماء بندور، م . س، ص 116

[20]    أحمد شوقي عمر أبو خطوة، م . س، ص 221

[21]    أحمد شوقي عمر أبو خطوة، م . س، ص 215

[22]   طارق سرور، نقل الأعضاء البشرية بين الأحياء – دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، 2001، ص 228

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)